محنة العلماء
مظاهر محنة العلماء تتعد وتتمدد ، ووراءها أطراف عديدة وتأخذ صورا متنوعة، دون روادع حكومية ولا موانع شعبية، وهذا نذير شؤم وفاتحة شر ، لكل من تورط فيه وشارك في مآسيه ..
محنة العلماء
لا أظن أن زمانا شهد تنكرا وتطاولا ، بل جحودا وكنودا (شبه عام) على أهل العلم بالدين؛ كما هو حاصل اليوم في كثير من بلاد المسلمين ، مع أن الله تعالى قد أعلى قدر العلماء، ورفع ذكرهم، وأوجب على الأمة التواضع لهم والنزول على أمرهم في المهمات والملمات، حيث قال سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: ٨٣].
وأولوا الأمر في هذه الآية هم العلماء، كما قال المحققون من المفسرين.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا ، ورَّثُوا العِلمَ، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ»1.
بعض صور الإهانة والاستهانة بالعلم وأهله
مظاهر محنة العلماء تتعد وتتمدد ، ووراءها أطراف عديدة وتأخذ صورا متنوعة، دون روادع حكومية ولا موانع شعبية، وهذا نذير شؤم وفاتحة شر ، لكل من تورط فيه وشارك في مآسيه ..
والحديث في ذلك يطول، ولكني سأتحدث عن بعض صور الإهانة والاستهانة بالعلم وأهله في واقعنا المأزوم وراهن حالنا المهزوم..
حملات الاعتقال بلا محاكمات
بكل أسف وأسى؛ لن أجد مثلا لهذه الظاهرة؛ أشر مما يحدث في البقاع المطهرة – بلاد الحرمين – حيث تشهد منذ سنوات حملة تنكيل وتحقير للعشرات من العلماء ، والمئات من طلاب العلم والدعاة والمفكرين، في حملات اعتقالات بلا محاكمات، تطول لسنوات، وأحكام قضائية جنونية دون تهم حقيقية، تمتد عقوباتها إلى السجن لثلاثين وأربعين عاما، لرجال قد يتجاوز بعضهم الخمسين أو يزيد..فماذا يبقى في عمرهم من مزيد..؟
وكنت أرى بعيني – خلسة – منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما، في سجن الحائر بالرياض؛ دعاة تجاوزوا السبعين، تغمى عيونهم، وتكبل أيديهم وأرجلهم بالسلاسل، يساقون بها في ممرات الأقبية ،ثم يلقون مهانين في قاع الزنازين..!
هذا على عهد الملك السابق، ثم ولي العهد اللاحق (بن نايف) المسجون منذ بضع سنين، فما بالنا بعهد من لا عهد له، وهو المرشح الحالي للملك التالي..؟!
في الأيام القليلة الماضية سمعنا باعتقال علامة قد شارف التسعين ، وهو عالم الحديث السوري “صالح الشامي”.. وتناقلت صحف أجنبية في ذات الوقت ، أخبار مطالبات محمومة بإعدام الدكتور “عوض القرني” بتهم تافهة رغم كونها باطلة، تتعلق بالتعامل مع وسائل التواصل، ومن قبله طالب الادعاء العام بإعدام عدد من مشاهير الدعاة وأكابر المصلحين ، وأعيدت مؤخرا المحاكمة الصورية لكثيرين ممن أنهوا مدد عقوبات طويلة..، ليمدد لهم بسنوات أطول، والسبب واضح، وهو حملة إرهاب، بدعوى مكافحة الإرهاب، قبيل الإقدام على اللحاق بركب الراكعين المطبعين مع الصهاينة المعتدين..
العجيب أن هذا الظلم الفادح والبغي الفاضح، يحصل ضد العلماء باسم “القضاء الشرعي” لا القانون الوضعي، وهو ما ذكرني بالجلسة الأخيرة بنهاية اعتقالي بالرياض أمام أحد القضاة الناريين “الملتحين” ، حين طالبه ممثل الادعاء العام وأشار عليه بأن يحكم علي بثلاثين عاما ، عملا ببعض مواد ما يسمى “النظام الأساسي” يعني الدستور ..
إلا أن الله تعالى نجاني بمنه وكرمه من شرور شوراهم ، وغدر قضاتهم..
هذه الحملات المنكرة التي تهين وتستهين بحملة وحماة الدين؛ تتزامن مع توجه رسمي حميم ومحموم ، لتكريم الأراذل والساقطين، من سفلة الفنانين وفشلة الإعلاميين، وبقايا أصحاب البغايا من الرياضيين غير المسلمين، حيث ينفق على الاحتفاء بهؤلاء وهؤلاء مئات الملايين من أموال المسلمين..
تجريد وتجريف (هيئة كبار العلماء) من حقيقة مهامها
ومن مظاهر محنة العلم والعلماء هناك ؛ تجريد وتجريف (هيئة كبار العلماء) من حقيقة مهامها، ثم تفريغها من أكثر الأخيار لحساب أغيار أغمار، لا يحسنون في قضايا المسلمين الكبرى غير السكوت عن الحق أو النطق بالباطل، ويكفيك عن تلويث سمعك ببعض أسمائهم؛ أن تتابع احتفاءهم بعاطفية مفرطة بالكفار والمشركين، في مقابل التجهم والتهجم على الأطهار الأخيار من دعاة المسلمين، الأحياء والميتين ..
كل هذا في بلاد الحرمين .. فماذا أبقوا للاحتلال في فلسطين..؟!
كان تبجيل المسلمين واحترامهم لعلمائهم خلال عهودهم الماضية؛ دليلا على النقاء والارتقاء والتمسك والتماسك في أحوال الأمة المرحومة، أما اليوم .. فكيف ينتسب لها من لا يرحم صغيرها ولا يوقر كبيرها ، ولا يقر بحق علمائها ودعاتها ..؟
إن الجواب فيما صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منَّا مَنْ لم يُجِلَّ كبيرَنا ، ويرحمْ صغيرَنا ! ويَعْرِفْ لعالِمِنا حقَّهُ»2.
صور المحنة التي تتعدد وتتجدد في وقتنا الحاضر على العلم والعلماء والدعوة والدعاة في أكثر بلاد المسلمين؛ قد يحتاج كل منها إلى منشور في مقال أو عدة مقالات، ولكن الإشكال هو عدم الإقبال على المقالات الطوال..!!
فإضافة إلى ما سبق ذكره في محنة الإهانة والاستهانة بأحرار العلم والدعوة ؛ بالسجن والتعذيب والنفي والتشريد ؛ هذه صور أخرى من محنتهم ..فرج الله كربتهم:
– تقنين المنع وتعميم الإيقاف من وزارات الداخلية أو الأوقاف؛ لجمهرة عظيمة من الجديرين بكراسي العلم ومنابر الدعوة، مع تصدير أو إجبار غيرهم من “الموظفين” غير المؤهلين، أو غير الراغبين في القيام بأعباء تلك المهام المحاطة راهنا بالمخاطر والمحاذير ..
– تسليط سفلة الإعلاميين وجهلة المثقفين؛ لإسقاط الرموز العلمية والدعوية، التي ظلت تمثل قامات وقدوات لأجيال سابقة، لحجب أسباب الهداية عن الأجيال اللاحقة، مع انضمام بعض المتعالمين إلى حملات التطاول على الأكابر من العلماء القدامى والمعاصرين، لأسباب عديدة، وراءها نفسيات مريضة.
– وفي المقابل يرى الناس مظاهر التمجيد والتكريم لرؤوس ورموز الملل الكفرية والنحل البدعية، من القسس والرهبان والمراجع الشيعية وغلاة الصوفية، في ازدواجية معايير يعجز عنها التعبير.
– ومن محن العلم التي تطال العوام وأهل الالتزام؛ أن الراغبين في تعلم الدين اليوم لا يكادون يرون عالما مصلحا أو داعية حرا؛ تلتف حوله الجماهير؛ بعد “تأميم” المساجد “واحتلال” المنابر، حتى صارت غالب خطب الجمعة الموجهة أمنيا وإعلاميا ؛ منزوعة الدسم، قليلة النفع .
– ولعل من أكثر وأخطر محن العلم والعلماء بعد افتضاض الثورات العربية، وقصقصة أجنحة المؤسسات الدينية الرسمية ؛ ما نراه من انفضاض عامة المسلمين، بمن فيهم غالب الإسلاميين؛ عن التجاوب، فضلا عن التفاعل؛ مع الهيئات والاتحادات والروابط العلمية والدعوية الحرة، التي نشأت في العقدين الأخيرين، والتي كان يفترض أن تسد الفراغ الرهيب في مكان (ولاية الأمر العلمية) بعد الشغور المخيف في مناصب ولايات الأمر السياسية الشرعية..
وهذه الهيئات العلمية والدعوية الحرة التي كثرت كياناتها في غالب بلاد المسلمين عربا وعجما؛ كان أحرى بجموع الملتزمين؛ لو كانوا معظمين حقا للدين؛ أن يلتفوا حولها، ويستمعوا لنصحها ويصدروا عن رأيها، فوالله ، وتالله وبالله ..إن في تلك التجمعات العلمية والدعوية؛ الغالبية من (البقية) الذين قال الله تعالى فيهم: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:١١٦]
(أولوا بقية) تدور في أقوال أهل التفسير حول المعاني التالية
– من يختارهم الله من بقايا أهل الخير.
– ذووا البقية من الفهم والعقل.
– القلة من العارفين ما لهم بالإيمان بالله وما عليهم من الكفر به.
– الناهون أهل المعاصي عن معاصيهم، وأهل الكفر عن كفرهم.
وأخيرا أقول: إن أولى أهل العلم بالتبجيل والتكريم هم العلماء العاملون فالآمرون منهم بالمعروف والناهون عن المنكر، والمجاهدون في سبيل الله؛ صيانتهم أمانة، وإهانتهم خسة وخيانة.
وإنه إذا كانت لحوم العلماء بحق مسمومة.. فلحوم المجاهدين منهم ملغومة..
والله المستعان على فتن الزمان.
الهوامش
(1) أخرجه أبو داود (٣٦٤١) واللفظ له والترمذي (٢٦٨٢) وابن ماجه (٢٢٣) وأحمد (٢١٧١٥) وصححه الألباني .
(2) صحيح الجامع (برقم/٥٤٤٣) وإسناده حسن .
اقرأ أيضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق