الإجابات المرهقة والأسئلة المذلة!
على أعتاب الحياة نسأل متى نرحل؟ السؤال هنا يملؤه الغموض، هل هو سؤال مغادر راحل يُغلّق الأبواب وراءه ويودع أزهار العمر؟ أم أنها الحقيقة! أن في كل مرةٍ تتهيأ لنا الحياة ونكون على أعتابها وتغمرنا في صخب وجودها، لا نصدق فنجدنا لا نرى أنفسنا، فننكرها وتنكرنا! ونهرب منها وتفقدنا، وتفلت خلسة ثم نسأل بعد أن رحلت بغرورنا المعهود: متى نرحل؟!
وكأننا نُصبّر أنفسنا على عدم قدرتنا على اختبار الحياة ومزج كياننا فيها، وبنفوسنا الجريحة وأرواحنا الموجوعة نتعالى ونسأل عن المفقود، تلكم النهاية الغائبة المجهولة والتي ليس لك من الأمر فيها شيء، ونتلهّى عن الموجود، هذا الذي على أعتاب الحياة من حضور وانتباه ونجاح وألق، وتواجد ومباشرة واحتواء وسكن.
ذاك أننا وفي كل مرة لمسنا فيها تلكم الأعتاب ظننا أنها عتبات خروج، ولكنها هذه المرة ربما كانت عتبات دخول! ولكن أتعاب الحياة ومراراتها الرابضة في قلوبنا، تلكم الذكريات التي كانت فوق احتمالنا، تلكم الأحلام المحطمة والأمنيات الملغمة، والحب المكسور والطفولة المهزومة والشباب المسروق، كل هذا يعصف بالوجدان فيحرمنا من مباشرة الفرح أو تذوق السرور!
خرجت من الطفولة مهزومًا في وجداني دون قصد مني، وخرجت من مراهقتي مهزومًا في تفوقي الدراسي بمجموع بائس سيئ لا يسر عدو أو حبيب (96 بالمائة) |
أتذكر أنني عندما كنت صغيرًا كانت تمر أيام مليئة بالانغماس في اللعب، ورغم هذا الالتحام بمجريات الطفولة من عجن للتراب فخلقه طينًا، أو ركض للاختباء أو ضحكة انتصار بحظ النرد والورق، إلا أنه خالط ذلك بعض ذكريات كانت مفزعة وأليمة، وفزعها وألمها سببه كوني طفلًا! فربما لو حدثت نفس الوقائع اليوم لمرت مرور الكرام، إلا أن الطفولة التي كانت مداواة ببراءتها وسجيتها، كانت أيضًا هزيمة بحساسيتها ورهافة وعيها بالأشياء.
لم أكن أتحمل بعض الأحداث رغم خفتها، ثم انتقلت لمرحلة المراهقة بأمنيات وأحلام يقظة كانت ملجأ ومهرب وأمل ونجاة، حمتني هذه الأحلام لفترة فأظهرت تفوقًا مدرسيًا ملحوظًا، إلا أنني فقدت معنى الأشياء ومنها التفوق الدراسي بمرور الوقت، كنت غالبًا في الابتدائية والإعدادية الأول في الفصل أو المدرسة الصغيرة، أما المرحلة الثانوية بمدرسة تستوعب آلاف الطلاب كان الفزع الأكبر! أنا لست وحدي المتفوق ولست وحدي الأول، هناك كثيرون مثلي أوائل ومتفوقون، كانت ضربة موجعة كرّس أثرها السيئ المقارنة الممجوجة بيني وبين هؤلاء، مقارنة أبدعتها مخيلتي وفرضتها عليّ بيئة الدراسة والبيت.
خرجت من الطفولة مهزومًا في وجداني دون قصد مني، وخرجت من مراهقتي مهزومًا في تفوقي الدراسي بمجموع بائس سيئ لا يسر عدو أو حبيب (96 بالمائة)، لم يحمني هذا المجموع أمام وحش تنسيق الجامعات ليتحطم على صخرة النظام التعليمي "الإجرامي" حلم دخولي كلية الصيدلة، وهو إجرامي ليس لأن الحلم لم يتحقق ولكن لأن الحلم كان وهمًا عظيمًا، هذا ما اكتشفته أنني لا أحب الطب ولا الصيدلة ولا أي من علوم الأحياء، كنت فقط أريد أن أكون "دكتور" لأتميز عن بعض أفراد عائلتي المهندسين! ربما في النهاية فزت نظريًا بلقب "دكتور" لدخولي كلية طبية إلا أنني هُزمت للمرة الثالثة في تحديد بوصلة حياتي بحرية.
هكذا في مصر تعيش طفولة يُرسم في أرجائها البؤس نتيجة ضغوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ثم تعيش مراهقة تسرق منك انفتاح صدرك لتجارب الحياة بأن تنكبّ على المذاكرة لتنال تميزًا موهومًا لا ينفع، ثم يسرقون منك شبابك في مجال دراسة وعمل وحياة أنت لا تحبه ولا تفضله ولا ترضاه، 96 بالمائة لم تكن كفيلة لدخولي "كلية إعلام" هذا ما أحب أن أدرسه، بل النظام التعليمي الظالم بتفاصيله المرهقة أجبرني حتى اليوم على الاستمرار في مسار دراسي مؤسف بائس ليس له أي علاقة بنجاحاتي المسروقة أيضًا!
نجحت في الكتابة وأصدرت كتابين مطبوعين وكتبت بأكبر وأشهر المواقع والمنصات، ومارست ألوانًا وفنونًا كتابية متنوعة ودخلت مجالات غير الكتابة وأبديت إجادة فيها، إلا أن المجتمع حكم في غالبه على المحصلة النهائية لـ 28 عامًا هي عمري بالفشل! ذاك أنه يسأل أسئلة ملحة ومكررة: هل أنهيت دراستك؟ ما هي شهاداتك؟ لماذا لا تُنهي دراستك وتكمل للماجستير؟ ما هو مقدار دخلك؟ كم تكسب من كتاباتك؟ متى سنفرح بك "ستتزوج"؟ هل تمتلك مسكنًا؟ هل تطورت ي مجالك فأصبحت مديرًا أو رئيسًا؟
لا مجال إلا لدراسة مفروضة بالإكراه، وزواج أي زواج حتى ولو كان مشروعًا فاشلًا، والأموال قاعدتها صريحة من معه "قرشًا" يساوي "قرشًا"، أما الترقي الوظيفي فعليك أن تنساق وراءه وتتخلى عن أحلامك
كل هذه الأسئلة والدندنات حولها، ليس فقط أسئلة تقتحم المساحة الشخصية ولكنها أحيانًا تكون كحجارة من سجيل منضود يرميك بها السائل، خاصة إن كان يرى فيك نموذجًا مكتملًا للإخفاق، فالنجاح الدراسي بالشهادات، والنجاح الاجتماعي بالزواج، والنجاح المادي بامتلاك المال، والنجاح المهني بالترقي والتقدم الوظيفي، كلها معايير واضحة ومحددة ولا غيرها للحكم عليك بالتوفيق أو الخيبة.
فلا مجال إلا لدراسة مفروضة بالإكراه، وزواج أي زواج حتى ولو كان مشروعًا فاشلًا المهم أن يبدأ، والأموال قاعدتها صريحة من معه "قرشًا" يساوي "قرشًا"، أما الترقي الوظيفي فعليك أن تنساق وراءه وتتخلى عن أحلامك
ومشروعاتك تلك البدائية، هكذا هي الحياة التي يريدونها لي!
لذا كان سؤالي الملح أحيانًا هو "متى نرحل؟"، لنتجاوز أعباء إجابة هذه الأسئلة التي قد لا نجد إجابات نموذجية لها! لنلقي عن كاهلنا هذا العناء والتعب والجبر والإكراه، لنتخلى عن تصوراتهم عن النجاح والفشل والسعادة والشقاء، لنرسم عالمًا أرحب ربما وقتها يسعنا كما نحن ويقبلنا كما نكون بفلاحنا وإخفاقنا!
هكذا كنت أسأل: متى أرحل؟ إلا أنني صُدمت أنني في لحظات النجاح ولحظات التقدم أيضًا صار هذا سؤالي!
فانتبهت فإذا بي تعودت الانفصال عن ذاتي، حتى أحمي نفسي من الإجابات المرهقة والفروض المذلة، وكلما مدّت الحياة لي يدها، خفت وسحبت يدي سريعًا منها! لا زالت الأسئلة تفزعني.. ولا زال حلم ولطف الله يشملني.
مهموم بالأشخاص، وقارئ للأحداث، ومدقق في الأفكار، أما "سنحشد الوعي والروح سنحشد الجسد" فشعار وصفتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق