لا تودعوا رمضان
د. محمد عياش الكبيسي
في وجوه الصائمين علامات لا تخفى من الحزن كلما اقتربت لحظات الوداع، شعور طبيعي منبعث من تفاعل عاطفي ووجداني عميق مع هذا الشهر الكريم من الهلال إلى الهلال، ومن أول سحور فيه إلى آخر إفطار.
كل شيء يتغير في رمضان، الحياة كلها تدخل في نظام جديد وغير مألوف إلا في رمضان؛ البيت، المسجد، المدرسة، السوق، حتى مواعيد الأكل والنوم واللقاءات والزيارات، نفسيات الأطفال واستعداداتهم لتجربة الجوع وحرمان النفس عن بعض ما اعتادت عليه، صفحات التواصل كلها يصبغها رمضان بصبغته، لا تجد زاوية من زوايا هذه الحياة إلا ويدخلها رمضان، حتى زاوية المطبخ ونوعية الطعام والشراب، بعد كل هذا يقال لجميع هؤلاء توقفوا انتهى رمضان فعودوا إلى ما كنتم عليه!
هناك من لا يعنيه كل هذا، إنما يعنيه انقطاع الموسم الأفضل للتجارة مع الله، موسم النشاط في الطاعات والقربات ومضاعفة الحسنات، قيام الليل لم يكن يسهل عليه قبل رمضان، ولا هذا التفرغ للذكر والقرآن، بيان واحد من القضاء سينتزع هذه القلوب عن حالة الأنس هذه والسكينة والصفاء، وستعود الحياة كما كانت بأرزائها وأثقالها ومشاغلها ومشاكلها.
يحق لهؤلاء وهؤلاء أن يبكوا على فراق رمضان، لكن المشهد ليس كله كذلك، فرمضان ليس ضيفا يحل ويرتحل، ولا هو رحلة أو سفرة فتنقطع، إنه في الحقيقة لم يأت إلا ليبقى!
لقد جاء رمضان ليذكر الناس بالقرآن تلاوة وتدبرا وعملا، والقرآن باق، فإذا بقيت أنت مع القرآن فإنك قد بقيت مع رمضان.
وجاء رمضان ليذكر الناس ببيوت الله، وبيوت الله باقية، فإذا كنت أنت في بيوت الله فإنك في رمضان وفي أجواء رمضان.
وجاء رمضان ليربط قلوب المسلمين بعضها ببعض رحمة وتوددا وتكافلا وتواصلا، والمسلمون موجودون، فإن بقيت أنت معهم بالرحمة والمودة والتكافل والتواصل فإنك مع رمضان ولن يفارقك رمضان.
وجاء رمضان ليدربك على تصفيد الشياطين، تصفيدها بالوعي والعمل واللجوء إلى الله والتوكل عليه، والشياطين موجودون وستواجههم في كل شاشة وعلى كل منصة وفي كل طريق، فإن قدرت على تصفيدهم وحماية قلبك وبصرك منهم فإنك أقرب ما تكون إلى رمضان.
إن أيام رمضان لا تختلف عن الأيام الأخر، كل يوم أربع وعشرون ساعة، فيه شروق وغروب، وليل ونهار، وإنما أنت الذي تختلف، وحينما تستلهم رسالة رمضان، فرسالة رمضان باقية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فإن كنت تقيا قبل رمضان وبعد رمضان فإن رمضان سيكون أيضا معك في حياتك كلها ولن يفارقك.
رمضان ما جاء ليعزلك عن الحياة، بل جاء ليعدك لها، هكذا قال الله عنك أيها الإنسان (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فأنت مصنوع للأرض، لإعمارها وتحمل أعبائها ومسؤولياتها، جميل أن تشتاق إلى السماء لكن مسؤوليتك في الأرض وليست في السماء.
من يرى رمضان أياما وساعات فليودعه فإنه ذاهب لا محالة، ومن يراه رسالة ربانية فليهنأ برمضان فإنه باق معه ما بقي الليل والنهار.
هنيئا لكم رمضان، وهنيئا لكم العيد، وهنيئا لكم كل لحظة قضيتموها في طاعة الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق