الجمعة، 25 مارس 2022

وطن ينزف أغلى ما فيه

وطن ينزف أغلى ما فيه

26 مايو 2014

عبد العزيز السباعي 

قُضِيَ الأمر.

اضطر عبد الله عاصم، الفتى المصري الشهير بـ"المخترع الصغير"، للبقاء في بلاد "الكاوبوي"، بعد تمثيله "المحروسة أم الدنيا" في مسابقة عالمية، والسبب (الظاهر) أنه مهدد بالسجن حال عودته، نظراً لثبوت تعاطفه مع جماعة مُشتبَه في أنها إرهابية، ومشاركته في إحدى مسيراتها، ورفعه أحد شعاراتها.

تناقل المتابعون الخبر مع تدوينة قصيرة، كتبها المخترع المهاجر، وتوالت التعليقات: بعض الشباب عدّوا الحادثة ملمحاً من ملامح "خارطة طريق الكتيبة المتغلبة".

على الطرف الآخر، قالت إحدى شهيرات المرحلة: "في ستين (سلامة)، مش ح ندوّر عليك، خسارة فيك مليم واحد نصرفه علشان نجيبك بالإنتربول والكلام ده. فيه مليون (حد) أحسن منك."!

وهناك مَن تعاطف، وتفهّم دوافع القرار، خصوصاً أن عبد الله ختم كلامه بأنه "يريد أن يعيش كإنسان"، وهناك مَن رأى أن الموضوع لا يستحق هذه الضجة.

لكن، في الوقت الذي خسرت فيه المحروسة، "كنانة الله في أرضه"، برعماً صالحاً ومفيداً بكل المعايير، فإن الفنانة صوفي نار، الأرمينية، باقية في مصر، على الرغم من إصدار الحكومة المصرية قراراً بترحيلها لأسباب إجرائية، كذلك سيبقى من حق هيفاء اللبنانية، بطلة الأفلام التجارية، دخول البلد، على الرغم من اعتراضات الأزهر الشريف على آخر أعمالها السينمائية.

اضطر عبد الله للاغتراب، لأسباب متشابكة، يجهلها أو يتجاهلها كثيرون، واحتفظت مثيلات صوفي وهيفاء، وهن بالمئات والآلاف، بحرية التنقل على ضفاف النيل، لأسباب أفاض نجيب سرور، رحمه الله، في شرحها، في مفارقة دالّة على إمكانية أن تصبح "أم الدنيا.. قد الدنيا".
المثير للقلق أن هذه المفارقة مرّت سريعاً كسحابة صيف، حظيت ببعض المتابعة والاهتمام، ثم توارت بعيداً في زوايا النسيان.
تبخّر اهتمام المهمومين، كما يحدث عادة مع القضايا المزمنة: يتفجّر حدث، فينفجر الاهتمام، ويبلغ الذروة، ثم يتراجع، إلى أن يقل ويخفت ويضمحل، فيتلاشى وينتقل إلى هم جديد.

وبقي في واقعة "المخترع الصغير" احتمال كبير، لم يركز عليه أحد من المعلّقين، وهو أن خطر السجن لم يتشكل مصادفة، ولا بطريقة عفوية، ولا باجتهادات فردية. 
ربما حدث كل ما حدث، ليكون ورقة ضغط ترجّح خيار الاغتراب على رغبته في العودة. 
ربما كان هناك مَن تنبّه للصيد الثمين، فدخل على الخط، وحرّك خيوطه للتحكّم في مسار الأحداث، ليصل إلى هذه النتيجة؛ ذلك أن ما حدث مع المخترع الشاب ليس جديداً من نوعه، ولا فريداً في سياقه، بل تكرر مع كثيرين، بالهجرة حيناً وبالإهمال أحياناً، وبالتثبيط والتعقيد والبيروقراطية، غالباً، وكأنها عملية مُدبَّرة ومحبوكة. فقد سقطت، قبله، سميرة موسى في أميركا أيضاً، بعدها سقط يحيى المشدّ في باريس، وقفز عبد الحميد شتا إلى قاع النيل، بعد حرمانه من وظيفة في وزارة الخارجية، لأنه غير لائق اجتماعياً (يعني: فقير)، على الرغم من شهادات زملائه وأساتذته بنبوغه، وجدارته العلمية.
وهاجر أحمد زويل وفاروق الباز، وانتقل حسن فتحي بأسلوب "عمارته" الذي يراعي ظروف الفقراء إلى نيومكسيكو التي استقبلت، أيضاً، زينب الديب، واحتضنت مشروعها (القرى المتكاملة) الذي افتتحه واحتفى به حسني مبارك مرتين، قبل استيلاء وزارة الزراعة على آلاته ودراساته ومستنداته وإجهاضه في بداياته.

هذا على سبيل المثال، إذ لا مجال للحصر.
واقعة هجرة عبد الله، أو تهجيره، وربما اختطافه، حلقة في مسلسل رتيب، وبندٌ ثابت في خطة مستمرة، تستحق التوقف عندها، والبحث عن ملابساتها؛ فانتحار شتا (غفر الله فعلته)، واغتراب عبد الله (عجَّل الله عودته)، أَوْلى بالمتابعة من هذه القضايا "الوهمية" المفروضة على الرأي العام بإلحاح وإحكام، لإلهائه عن مشكلاته المؤثرة في حياته اليومية، وفي مستقبل الأولاد والأحفاد، وقد وردت إشارة عابرة إلى مثل هذه "الإلهاءات"، في بدايات كتاب "كفاحي" (مذكرات أدولف هتلر)، وعرضتها بأدق التفاصيل مراجع أخرى، منشورة ومشهورة، يتجاهلها أكثر المعلقين هروباً من اتهام "مُعَلَّب" باتباع "نظرية المؤامرة"، ولعلّهم يُنكرونها، لأنها تغلق أمامهم أبواب الاستزادة من التعليق والتفسير على موجات الأثير، وربما لأنها من الخطوط الحمراء التي لا يُسمح لهم بمقاربتها.
المخترع الصغير ليس الأول، ولن يكون الأخير في طوابير المهاجرين والمغبونين والمهمّشين والمرفوضين، فالبلد ينزف أغلى ما يملك: عقول أبنائه، وحديث "حرب الأدمغة" ليس عن المتابعين بعيداً. 
والنتيجة الطبيعية تَمَدُّد الجهل النشط، ووصوله إلى مستويات لم يكن يتخيّلها أكثر المتشائمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق