هل تعود التغطية الإخبارية العربية للهجوم الروسي على أوكرانيا إلى توازنها؟
محمود عبد الهادي
التغطية الإعلامية التي تقوم بها القنوات العربية الإخبارية الناطقة باللغة العربية حتى اليوم للهجوم الروسي على أوكرانيا، أمر في غاية الغرابة، فمنذ أكثر من أسبوعين والتغطية العاجلة المباشرة الشاملة مستمرة على مدار الساعة من دون انقطاع، وبدون أن تسمح لأي خبر آخر، عربي أو دولي، بالتسلل إلى شاشاتها، حتى بدا الإحساس ينمو داخل المشاهد العربي بأن أوكرانيا دولة عربية، أو أن الوضع في المنطقة العربية أصبح مثاليا، وقد انتهت كافة أزماته، وتوقفت صراعاته، وحُقنت دماؤه، ولم يعد في الدول العربية ما يستحق التغطية. فلماذا تستمر التغطية على هذا النحو حتى الآن؟ ولمصلحة من؟ وماذا يترتب عليها؟
إذا كان المستوى الحالي من التغطية الإخبارية الشاملة المتواصلة للهجوم الروسي على أوكرانيا مقبولا في يومه الأول والثاني، فإنه لم يعد مقبولا في الأيام التي تلت ذلك، ولن يكون مقبولا الاستمرار في هذه التغطية لحدث قد يستمر لعدة سنوات، وفق تقديرات مسؤولي الإدارة الأميركية.
أسس التغطية الإعلامية العربية للهجوم
بغض النظر عن أهمية الحدث وأطرافه وتأثيراته الإقليمية والدولية، وما يمكن أن يترتب عليه حاليا ومستقبلا، فإن تقدير حجم التغطية ومساحتها وموازنتها ونوعية المعالجة، تظل محكومة بالعوامل الأساسية التالية:
- العلاقة الاتصالية بين المؤسسة الإعلامية والجمهور:
فالمؤسسة الإعلامية تخاطب جمهورا محددا له بيئته وظروفه واهتماماته واحتياجاته، والتي ينبغي على المؤسسة الإعلامية أن تحترم هذه العلاقة، وأن تضع هذه الظروف والاهتمامات والاحتياجات نصب أعينها عند إنتاج المحتوى الذي تبثه للجمهور. والمؤسسة الإعلامية العربية الناطقة باللغة العربية، تخاطب جمهورا يختلف حتما عن الجمهور الذي تخاطبه المؤسسات الإعلامية العربية الناطقة باللغة الإنجليزية على سبيل المثال. ومن هنا، فإننا لا نجد معنى أو مبررا للمؤسسات الإعلامية العربية الإخبارية الموجهة للجمهور العربي في مجاراتها لتغطية الهجوم الروسي على أوكرانيا على غرار المؤسسات الإعلامية العربية الإخبارية الموجهة للجمهور الناطق بلغات أخرى أو القنوات غير العربية الموجهة للجمهور العربي.
- وزن الحدث الإخباري:
يمثل وزن الخبر من حيث حجمه وأطرافه وتطوراته ونتائجه المحلية والإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، نقطة الأساس في تحديد نوعية التغطية التي يحتاجها. وإذا نظرنا إلى حدث الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإننا نجده يدور بين دولتين ليستا جارتين للمنطقة العربية، إحداهما روسيا الاتحادية، الدولة الكبرى صاحبة أكبر ترسانة نووية في العالم، والثانية يساندها حلف الناتو الخصم التقليدي لروسيا، ومع ذلك فإن الهجوم الروسي على أوكرانيا، ليس بمستوى الهجوم الأميركي على أفغانستان أو العراق، كما أن إيقاع الحرب الدائرة بين الدولتين غير الجارتين للمنطقة العربية، ليس بالقدر الذي يشعل نهم الجمهور العربي لمتابعتها بصورة متواصلة تجعله يتسمر أمام شاشات الوسائل الإعلامية، وهو الجمهور العربي المطحون في أزماته المحلية والإقليمية، والمتخم بمثل هذه الأحداث وإيقاعاتها ونتائجها ومآسيها المتكررة في فلسطين وسوريا واليمن والعراق وليبيا.
- تخصص المؤسسة الإعلامية:
تختلف تخصصات المؤسسات الإعلامية من حيث النوع والمجال الموضوعي والجمهور المستهدف والنطاق الجغرافي، والقالب الفني، فالمؤسسة الإعلامية غير الإخبارية، أو الوثائقية والدرامية والحوارية، أو الاقتصادية والرياضية والعلمية والتقنية، أو المخصصة للأطفال والفتيان والمرأة، أو المحلية،.. على سبيل المثال، جميعها غير معنية بعمل تغطيات شاملة كاملة للهجوم الروسي على أوكرانيا، فالمؤسسات الإعلامية المعنية بعمل هذا النوع من التغطيات، هي حصرا المؤسسات الإعلامية الإخبارية الإقليمية أو الدولية، ومن بينها المؤسسات الإعلامية العربية الإخبارية غير المحلية، الموجهة لعموم الجمهور العربي، والملتزمة تجاهه بوظيفتي الإخبار والتوعية، للأحداث والتطورات الرئيسية التي تقع في نطاق اهتماماته الإقليمية والدولية على الترتيب. وبالتالي تصدت هذه القنوات دونا عن غيرها بتغطية الهجوم الروسي.
- التوجيهات والسياسات:
تتحكم توجيهات الجهات المالكة للمؤسسات الإعلامية بتحديد نوعية التغطية لبعض الأحداث والقضايا، وتحديد السياسات التحريرية والإدارية والمالية الخاصة بها، بما يحقق مصالحها العليا السياسية والاقتصادية، وهذا الأمر هو ما يسبب التفاوت النسبي بين المؤسسات الإعلامية، الإخبارية على وجه الخصوص، في معالجتها للأحداث وتطوراتها، وتحديد زاوية التناول والتحليل الخاصة بكل منها.
هذا المستوى من التغطية لا يصب في صالح الجمهور العربي، وإنما يصب في صالح الأطراف التي سعت إلى الحرب، وسدت جميع السبل التي تؤدي إلى تجنبها، وأرادت إشغال العالم بتفاصيلها، وتكريس أفكار وتصورات معينة لديه. هذه الأطراف حددت توقيت بداية الحرب ونهايتها، وتعرف جيدا نتائجها وآثارها، مثلما تعرف أهدافها ومقاصدها.
لا خلاف على شدة أهمية الهجوم الروسي على أوكرانيا، كحدث إخباري كبير يحظى باهتمام واسع، ولا خلاف على حاجة هذا الحدث إلى المواكبة والتحسب، وتخصيص مساحات التغطية الإخبارية والتحليلية النوعية التي تحتاجها التطورات المتنامية، ولكنه لا يرقى إلى درجة استحواذه على كامل مساحة البث على النحو الذي نشهده حاليا في القنوات العربية الإخبارية الموجهة للجمهور العربي، ولأن كان هذا المستوى من التغطية مقبولا في يومه الأول والثاني، فإنه لم يعد مقبولا في الأيام التي تلت ذلك، ولن يكون مقبولا الاستمرار في هذه التغطية لحدث قد يستمر لعدة سنوات، وفق تقديرات مسؤولي الإدارة الأميركية. والأَولى العودة إلى التغطية الإخبارية التي ينتظرها الجمهور العربي من قنواته العربية، على الساحتين الإقليمية والدولية. بما فيها الهجوم على أوكرانيا، ولكن ضمن القوالب الفنية المتوازنة وفق أهمية تطوراته الميدانية والعسكرية ونتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
النتائج السلبية المترتبة على التغطية
إن استمرار قيام القنوات العربية الإخبارية الموجهة للجمهور العربي، في تغطيتها الشاملة المتواصلة على النحو القائم، أدى -وسيؤدي- إلى العديد من النتائج السلبية غير المهنية، والتي يمكن معالجتها وتصويبها إذا ما تم تغيير نوع التغطية، وعلى رأس هذه النتائج:
- التعتيم -بقصد أو عن غير قصد- على أخبار المنطقة العربية وتطوراتها، حتى إن المرء ليظن أن الأمور أصبحت بخير، أو أننا في كوكب آخر خال من الدول العربية، أو أننا نعيش في أوكرانيا أو في جوارها، فقد أدى الانقطاع عن تسلسل الأحداث العربية في هذين الأسبوعين.
- خسارة هذه القنوات لقسم معتبر من جماهيرها، ممن ذهبوا للبحث عن مصادر إعلامية أخرى يتابعون فيها الأخبار والتطورات على المستويين الوطني والإقليمي.
- وقوع أحداث وتطورات في الدول العربية أثناء هذه المدة، بعيدا عن سلطة الإعلام ورقابته، وقد تكون هذه الأحداث على درجة كبيرة من الأهمية أو الخطورة.
- السيطرة المطبقة على أدمغة الجمهور العربي، وإشغاله بأحداث خارجية، بعيدا عن قضاياه الوطنية والإقليمية ذات الأولوية.
- التكرار المفرط للمعلومات والصور، بسبب طول الوقت المتاح للتغطية، واللجوء إلى القيام بتغطيات باهتة وباردة، خالية من التطورات الميدانية.
- تعاقب الرسائل الإخبارية المكررة من المراسلين، وخلوّها من الأخبار والمعلومات المهمة لفترة طويلة من الوقت.
- الاضطرار إلى ملء مساحات كبيرة للتعليقات والتحليلات والآراء التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى المنهجية والمعلومات.
- الوقوع أحيانا في تضخيم الوقائع والتطورات، وإخراجها من سياقها، والشطط في قراءتها وتحليلها.
لا شك في أن استمرار القنوات العربية الإخبارية الموجهة للجمهور العربي في هذا المستوى من التغطية، ليس في صالح الجمهور العربي، ولا يخدم مطالبه، ولا يلبي احتياجاته، وإنما يصب في صالح الأطراف التي سعت إلى الحرب، وسدت جميع السبل التي تؤدي إلى تجنبها، وأرادت إشغال العالم بتفاصيلها، وتكريس أفكار وتصورات معينة لديه. هذه الأطراف حددت توقيت بداية الحرب ونهايتها، وتعرف جيدا نتائجها وآثارها، مثلما تعرف أهدافها ومقاصدها. فهل تتوقف القنوات العربية الإخبارية الموجهة للجمهور العربي عن هذا المستوى من التغطية، وتعود إلى توازنها المحكوم بأسس الاتصال الإعلامي، وقواعده المهنية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق