الدقيق الأحمر
سيلين ساري
الدقيق الأحمر ليس خليطا من الطحين والماء فقط، بل هو مرادف الحياة، ومؤشر على أحوال الشعوب وأوضاعها.
هو الوسادة الوثيرة لأمعاء الفقير الذي تجعله ينام قانعا بقليل القليل إذا توفر، وهو السلاح الحاد الغاضب المغموس بالدم إذا ما رفعته أيادي الثائرين محتجين على انحدار مستوى المعيشة، هو كلمة السر لأقدم الثورات وأشهرها، صرخة الفقراء بمعظم الانتفاضات والثورات، وهو وسيلة الضغط التي أسقطت العروش، إنه الخبز.. الخبز الذي غيّر وجه أوروبا كلها فأسقط ملوكا وغيّر أنظمة حكم.
فعندما فاض الكيل بفقراء فرنسا بعدما صار الخبز عماد حياة الفقراء غير موجود، خرج الفقراء من الجحور والشقوق التي كانوا قانعين بها ما دام فتات الخبز يسد جوع أطفالهم، صارخين بوجه الملك وزوجته: أين الخبز؟ ليزيد صلف الطغيان فتصدر الملكة ماري أنطوانيت عندما وصل إلى مسامعها أنّ الشعب الجائع لا يجد خبزا يأكله؛ فرمانا أميريا يمنع الناس من أن يجوعوا مجانا. إذ لم يكن يُسمح لأي مواطن بأن يقوم بأي شيء دون ثمن، لتشتعل ثورة الجياع التي أكلت الملكة والمملكة ومن خلفهما ممالك أوروبا تباعا، لتوضع بعدها قوانين للعدالة الاجتماعية داخل هذه البلدان.
وإن كانت ثورة جياع فرنسا هي الأشهر في العصر الحديث، إلا أن ثورات الجوع ضاربة في القدم، فكان لمصر الصدارة عبر التاريخ في تلك الثورات، وكانت أول ثورة في التاريخ للجياع بمصر عام 2281 قبل الميلاد ضد الملك بيبي الثاني، واستمرت هذه الثورة سبع سنوات تحت شعار "الأرض لمن يزرعها".
وقد أرخت بردية "صرخة نبي" لهذه الثورة، والتي كتب فيها: "نامي جياع الشعب نامي.. حرستك آلهة الطعام.. نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنام.. نامي على زيف الوعود.. يذاق في عسل الكلام".
ومن بيبي قبل الميلاد إلى السادات سنة 1977 عندما قرر رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية كالخبز، في سياق إعادة هيكلة الاقتصاد والتحول إلى النظام الرأسمالي، مراهنا على طبيعة المصريين في التحمل والصبر على دهس الحكام عليهم، لكنه أخطأ التقدير لأن المسّ بالعيش يعني أن المسألة أصبحت مسألة حياة أو موت، فالخبز هو الغذاء الأرخص الذي يُبقي البشر على قيد الحياة.
فماذا سيفعل الشعب الجائع حين تصبح أقصى أمنياته الحصول على فتات الخبز المتساقط من موائد الحكام وأصحاب الثروات سوى الثورة صارخا بحقه في الحياة؟
فبعد انتصار أكتوبر 1973 وعد السادات الشعب بالرخاء وبحبوحة العيش، وظل الشعب يحلم بتلك المعيشة الرغدة، خاصة بعد ما عاناه من تقشف وحرمان طيلة سنوات بسبب الحرب (من 1967 حتى 1973) ليستيقظ الشعب على كارثة في يوم 17 كانون الثاني/ يناير 1977، أعلن نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية عبد المنعم القيسوني في بيان أمام مجلس الشعب مجموعة من القرارات الاقتصادية، منها رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، كالخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين و25 سلعة أخرى من السلع الأساسية في حياة المواطن البسيط، لتبدأ الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة.
بدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية، وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام.
وفي اليوم التالي انفجر بركان الغضب ليشمل العمال والطلبة والموظفين والعامة، حتى السيدات. اندلعت المظاهرات وازدادت هتافات الغضب.
عمّت المظاهرات كل محافظات مصر من الإسكندرية إلى أسوان، وقام المتظاهرون بتحطيم المحلات التجارية والمنشآت العامة والسيارات فتعاملت الشرطة مع المتظاهرين بالغاز والرصاص المطاطي، مما أدى لسقوط ضحايا، ولكن ذلك لم يرهب الشعب الذي لم يعد لديه ما يخسره بعد رغيف الخبز.
في اليوم التالي تجمع الطلبة والشباب بميدان التحرير، وارتفع سقف المطالب لتتجه إلى اتجاه جديد تمثل في المطالبة بالحريات، وتحولت الانتفاضة من انتفاضة اقتصادية من أجل الخبز إلى انتفاضة سياسية تطالب بحرية الرأي وعودة التعددية الحزبية، وكان أهم هتافاتها:
أول مطلب يا شباب.. حق تعدد الأحزاب
تاني مطلب يا جماهير.. حق النشر والتعبير
تالت مطلب يا أحرار.. ربط الأجر مع الأسعار
لينفجر الغضب الشعبي بوجه السادات فيعلن حالة الطوارئ ويأمر بنزول الجيش للشوارع للقضاء على المظاهرات، ويتراجع السادات عن القرارات الاقتصادية.
ومن السادات 1977 إلى ثورة 25 يناير (2011) التي لم تكن ثورة اقتصادية بالمقام الأول، بل سياسية، إلا أنها رفعت شعارا رمزيا أكثر منه واقعيا: "عيش حرية عدالة اجتماعية".
واستهل المتظاهرون الشعار بكلمة عيش، وهذا لما للخبز من مكانة رفيعة في الباطن الإنساني، وقيمة روحية محفورة في وجدان الشعب المصري، والذي أطلق على الخبز مصطلح "العيش"؛ فقد اعتبروه مرادفا للحياة بشكل عام. فكان الشعار موجها للجماهير لكي تلتحق بصفوف الثورة، لأنه يخاطب عقولهم ووجدان الشعب من خلال القول: إن المطلب الأول هو توفير لقمة العيش ورغيف الخبز كحد أدنى، وهو المفتاح السحري لزيادة الزخم.
ومن كانون الثاني/ يناير 2011 ليومنا هذا، حيث تدق المجاعة أبواب الفقراء من خلال حزمة إجراءات اتخذتها الطغمة العسكرية المهيمنة ليس على الحكم فقط، بل وعلى كافة أوجه الحياة. نحن نعيش في زمن استشرى فيه الفساد والصلف والعته في اتخاذ أي قرار اقتصادي، هذا بجانب التنازل عن مياه النيل.
الشعب الآن يئن تحت سياط الغلاء، مما جعل أكثر من نصف الشعب يسقط تحت خط الفقر، ورغم ذلك ظل صامدا، وهذا ما جعل الحاكم وهامانه وقارونه تمتد أعينهم لآخر ما يملكه الشعب: كسرة الخبز، وهي الخط الأحمر الذي ما إن يتجاوزه الحاكم تكون الطامة.
فلانتفاضات الخبز عبر التاريخ الكثير لتقوله لنا عن قوتها الإعصارية التي تدمر كل ما يقف أمامها، لذا تعمل الحكومات في العالم بجهد كبير للحفاظ على سعر الخبز منخفضاً، لأنك قد تفقد رأسك إذا ارتفع سعر الخبز.. فهل سيخطو العسكر فوق الخط الأحمر؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق