أوكرانيا واللعنات الثلاث
خليل العناني
الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فالأصل في العلاقة بين البلدين التنافس والصراع وليس السلم والتعاون. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن الحرب الأولى بين البلدين لم تشتعل في 2014 حين استولت روسيا على جزيرة القرم وقامت بفصل مقاطعتي (لوغانسك ودونيتسك) عن بقية الأراضي الأكرانية بدعوى أنهما روسيتان قلبًا وقالبًا، ولكنها تعود إلى بدايات القرن الـ20، وتحديدًا منذ قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. فقد قامت موسكو باجتياح أوكرانيا عام 1920، وبعد ذلك بعامين ضمتها إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي التي تشكلت آنذاك كي تصبح جزءًا من الاتحاد على مدار 70 عامًا خضعت فيها أوكرانيا لهيمنة روسية متواصلة.
الروس يعتقدون أن أوكرانيا امتداد طبيعي لهم، وأنها جزء أصيل من الإمبراطورية الروسية التاريخية، وأن ثمة مشتركات تاريخية وثقافية ولغوية ودينية وإثنية تجمع الشعبين الروسي والأوكراني بشكل يجعل أوكرانيا امتدادًا طبيعيا لروسيا حسب اعتقادهم.
تعاني أوكرانيا من 3 لعنات في علاقتها بالجارة الكبرى روسيا:لعنة التاريخ، ولعنة الجغرافيا، ولعنة السياسة. أما لعنة التاريخ، فالعلاقة بين أوكرانيا وروسيا تعود إلى ألف سنة على الأقل، وهي علاقة يتداخل فيها الدين والثقافة واللغة والعرق إلى الدرجة التي يكاد يصعب فيها الفصل بين الشعبين الروسي والأوكراني بخاصة في المناطق الشرقية من أوكرانيا. وعلى الرغم من أن العلاقة بين الطرفين قد شهدت حلقات من التوتر والتعايش، فإن الخيط الناظم بينهما هو الارتباط العرقي وانتماؤهما إلى ما يسمى بشعوب السلاف الشرقيين. وحتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، كانت أوكرانيا جزءا من تاريخ الاتحاد السوفياتي واستمرت تحت عباءته نحو 7 عقود، بل كانت أوكرانيا من أكبر الجمهوريات السوفياتية الـ15، وكان لديها واحد من أكبر مخازن الأسلحة النووية السوفياتية في مرحلة الحرب الباردة، وهو ما جعلها ثالث أكبر قوة نووية في العالم في أوائل التسعينيات بعد كل من روسيا والولايات المتحدة.
والأكثر من ذلك أن كثيرا من الروس يعتقدون أن أوكرانيا امتداد طبيعي لهم، وأنها جزء أصيل من الإمبراطورية الروسية التاريخية، وأن ثمة مشتركات تاريخية وثقافية ولغوية ودينية وإثنية تجمع الشعبين الروسي والأوكراني بشكل يجعل أوكرانيا امتدادًا طبيعيا لروسيا حسب اعتقادهم. حتى بعد استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات، فإن الارتباط التاريخي بينها وبين روسيا لم يغب يوما عن صنّاع القرار في موسكو باعتبار أن أوكرانيا جزء أصيل من الأمة الروسية الكبيرة يجب استعادته حين تُتاح الظروف لذلك. كذلك لم يكن غريبًا أن يصرّح الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في خطاب غزوه لأوكرانيا بأن "أوكرانيا الحديثة شُكّلت من قِبل روسيا في أوائل القرن الـ20".
أما لعنة الجغرافيا، فأوكرانيا كانت دوما رقعة جغرافية ملتهبة تقف على حواف الصراع بين القوى الكبرى طوال القرنين الماضيين، وذلك نتيجة لموقعها الجغرافي الفاصل بين العالميْن الأوراسي والغربي. بل إن البعض يشير إلى أن أحد معاني كلمة (أوكرانيا) هو "أرض الحدود" (borderland) التي تفصل بين إمبراطوريات وعوالم مختلفة. وعلى مدار قرون ادّعت كل من الإمبراطورية النمساوية-المجرية والإمبراطورية الروسية وبولندا وليتوانيا أن أوكرانيا تقع ضمن حدود فضائها الجغرافي وسيادتها؛ هذه الحتمية الجغرافية كانت سببًا أساسيًّا في أن تعاني أوكرانيا من محاولات التدخل والتأثير وهو ما لم يتوقف على مرّ العقود الثلاثة الماضية. لعنة الجغرافيا تعني لروسيا أن تكون أوكرانيا دولة محايدة أو عازلة بينها وبين الغرب، بحيث لا تمثل تهديدًا لأمنها القومي، ولعل هذا أحد الأهداف الرئيسة للحرب الروسية على أوكرانيا.
أما لعنة السياسة، فهي محصلة طبيعية لكل من لعنتي التاريخ والجغرافيا. فأوكرانيا كانت ولا تزال بمنزلة الجائزة الكبرى التي تسعى روسيا من جهة، والغرب بخاصة أوروبا وأميركا من جهة أخرى للفوز بها ضمن نطاق نفوذها السياسي والإستراتيجي، وذلك جعلها دوما منطقة صراع وتوتر بين الطرفين على مدار العقود الثلاثة الماضية. فروسيا بوتين ترى أوكرانيا ضمن نطاق هيمنتها ونفوذها الإستراتيجي في أوروبا، وأنه لا يمكن بحال التفريط فيها في ظل تصاعد التوتر مع الغرب بخاصة الولايات المتحدة نتيجة للتوسع المتزايد للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ووصوله إلى حدودها، فذلك يمثل تهديدا جيوستراتيجيا للأمن القومي الروسي، وهو ما لا يخفيه الرئيس بوتين ومسؤولوه، بل يتحدثون صراحة عن أن أهم أسباب الحرب الدائرة حاليا هو "ارتماء" أوكرانيا في أحضان الغرب، وتحوّلها إلى "دمية" في أيديه كما صرّح بوتين. أما الغرب فيرى أن أوكرانيا دولة ذات سيادة، ويجب أن تتمتع بالاستقلال السياسي والإستراتيجي حتى إن تطلب الأمر الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وذلك بغض النظر عن الرفض الروسي. ولعل هذا هو ما أسهم إلى حد بعيد في اندلاع الأزمة الحالية.
بكلمات أخرى، تبدو أوكرانيا كدولة واقعة بين عملاقين كبيرين: روسيا من جهة، والغرب من جهة أخرى، وهي تدفع فواتير الصراع بين الطرفين، وذلك على غرار ما حدث على امتداد تاريخها الحديث، وذلك يجعلها دوما ضحية التاريخ والجغرافيا واللعبة السياسية. وحيث لا يمكن لكييف تغيير لعنتي التاريخ والجغرافيا، فليس أمامها سوى المناورة السياسية والتوصل إلى تسوية تاريخية مع روسيا بعيدا عن الرهان على المعسكر الغربي الذي لن يستطيع محو التاريخ أو تغيير الجغرافيا، مهما قال أو فعل عكس ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق