الدكتاتورية كشرط للهيمنة
الدكتاتورية في انتهاكاتها الجسمية للحريات والحقوق العامة، يختلف لونها ما بين "الحكم الفردي" و"السطو المؤسساتي" للدول، كما أنّ الظاهر منها يبرز حجم المآسي الناجمة عن الأنظمة الشمولية مقارنة بمدى الاستلاب الناعم الذي تمارسه المؤسساتية الغربية، إذ إنّ تركة الأنظمة المركزية المثقلة بالديون الاقتصادية والتبعية السياسية تناطح شعوبها الأزمات والآفات، حتى إنها جففت منابع الثورة وصاحت في وجه الحقيقة حينما قامت تنادي بالعدالة الاجتماعية، إما أن "يستمر النظام" أو تكون "الفوضى" البديل المكلف، كأنما قدر الشعوب مزيد من الاستعمار في ثوبه الأبيض الحضاري كي يبقيها في قاع التخلف والخوف.
غير أنّ الدكتاتورية التي تتزين بالتحضر والديمقراطية والقيم الأوروبية ليس بمقدورها التخلي عن قهر النزعة التحررية وخذلانها للإنسان، ومع كل امتحان أخلاقي وتاريخي للمجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية، يتجدد التساؤل عما إذا كان يحق للغرب التمسك بادعاءاته الحضارية والإنسانية؟
التفكير بعيدا عن السردية النيوليبرالية
وفقا للمانيفستو الأوروبي، فإنه يحق للغرب الادعاء بحماية قيمه الحضارية خارج حدود الاتحاد، وذلك وفق التوصيف النيوكولنيالي الذي يتبناه الغرب للظفر بأحقية تمدد إمبراطوريته، كالتهديد المحتمل وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن ومع المأزق الذي أوقعت فيه الحرب الروسية الأوكرانية الأوروبيين، تعزز الوعي المناهض للسردية الغربية عن القيم المشتركة، فبعد موجة نزوح الأوكرانيين نحو أوروبا توالت التصريحات العنصرية والفوقية للغرب، وبدا الأمر أكثر وضوحا حينما ضجت سماء الأوروبيين بموجة "هيستيريا العقوبات" المفروضة على الرياضة والثقافة والأدب الروسي.
لا يتحرك الغرب إلا وفق نزعة توسعية مقابل الأطماع الروسية والصينية التي تغزو الاقتصادات الهشة في المنطقة، مهددة مصالح إمبراطوريته في ضفاف جنوبها الملتهب، حينها تتجيش الأمم المتحدة ومؤسساتها وملحقات الاتحاد الأوروبي لتجريم إبادة الروهينغيا وغيرهم من مسلمي غربي آسيا الوسطى، كورقة سياسية تفتقد للالتزام الإنساني والأخلاقي للحضارة الغربية، غرضها تحجيم نفوذ الصين. موقف وإن خالف ادعاءات ما تنكره الحكومة الصينية من عدم وجود إبادة جماعية ضد أقلية الروهينغيا، فإنّه لطالما عززته المصلحة الاقتصادية للدول الاستعمارية الجديدة لتقليم سيطرة روسيا والصين على المنطقة العربية.
من الخطأ ترك السردية الغربية حول جرائم الصين الشعبية ضد الروهينغيا لأن تكون ضمن "ثنائية نيوليبرالية" مفادها: الاقتصاد أو الحرية، إذ إنّ الصين في تمثّلها نموذجا لنظام شمولي قمعي، ليست إلا صورة منعكسة في مرآة الحضارة الغربية "غير المسؤولة كما يروج لها الكثير ممن ألفوا الارتماء في حضن التبعية والانبطاح" عن الفظائع التي تتسبب بها آلتها الصناعية والعسكرية. فالصين بحاجة إلى أكثر من تريلون دولار في احتياطاتها لاستمرارية نشاطها الاقتصادي، كما أنّها مستعدة لاستقبال الآلاف من المصانع المنتجة لغاز الدفيئة للحفاظ على حركة النشاط الصناعي العالمي.
تبدو الصين كمصنع كبير يستغل الملايين من البروليتاريا لزيادة فائض أرباح الأوليغارشيا الأوروبية، لكنها لا تختلف عن الغرب في تعاطيها مع المخاوف بسبب موجات التحرر، فسقف الحرية لدى القادة الأوروبيين لا يتخطى حاجز شهوة الاستهلاك المادي للحضارة، مقابل "الالتزام الكامل" للحفاظ على هيمنة شركاته المتعددة الجنسيات، يؤكد ذلك ما نشرته صحيفة لوفيغارو في نوفمبر/تشرين الأول 2011 في تقرير مفاده أنّ النسبة الغالبية من الفرنسيين المقدرة بـ54%، تقول إنّ من يتحكم بالسلطة في فرنسا هو -بالمقام الأول- الأسواق المالية، قبل رئيس الجمهورية والحكومة اللذين حصلا على 49%، وذلك بالتساوي مع "الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات".
مع أنّ "التعبير عن الرأي" واختيار القادة الغربيين بوسائل ديمقراطية "حضارية"، يعزز كل الجهود الرامية لتعزيز مبدأ الديمقراطية في العالم، فإنّه يتهاوى بمجرد خروج حركات مناهضة للعنصرية والاستغلال البشع للرأسمالية والدكتاتورية المؤسساتية (المؤسسارتية)، حينها تنبري الشرطة بعنفها للتصدي لتلك الحركات بشتى وسائل القمع الوحشية. ولعل فرنسا -بلد "الحريات" و"التنوير"- لا يتأخر قادتها الليبراليون المنغمسون في خطاباتهم الشعبوية العنصرية، في تسمية حركة "السترات الصفراء" بالمنظمة المهددة للديمقراطية الأوروبية، فأن تكون "ليبراليا" فهذا يعني أن تقبل "الشرط الحضاري" من منظور الهيمنة الغربية، إذ الحرية لا تعني بالضرورة الوقوف أمام السطو الممنهج للثروة، فأنت حر في اختياراتك الثقافية والجنسية وفق عبور آمن نحو التحديث الحضاري المستلب للإنسان، أما المطالبة بحياة أكثر عدالة وانصافا مثلما تظهرها بورصات أثرياء العالم، فإنّ الأمر منوط بمدى رضا القروض الاستهلاكية التي تمنحها البنوك الغربية بفوائد خيالية، على أولئك الذين يدفعون المزيد من الضرائب والأرباح، بل إنّ التأخر في دفع المستحقات الشهرية لأقساط القروض ثمنه الاستحواذ المباشر على "العقار" كما حدث في الولايات المتحدة، وتشريد الملايين من المقترضين في الشارع دون النظر إلى الواقع الاقتصادي المتأزم.
تشبه عمليات "التهجير الداخلية" التي قامت بها البنوك الأميركية وهي تطرد متعامليها الاقتصاديين من بيوتهم إلى الشارع، كعملية تحقيق "شروط حضارية إنسانية" للسجناء والمجرمين، بدل تحييد مسببات الجرم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذ إنّ معيار الجرم يتحقق وفق "القانون المُؤَسس" لا "الالتزام الأخلاقي" تجاه الإنسان. فتقنين "العنف المشروع" بحمل السلاح يقابله السّجن في حالة ارتكاب جريمة مخالفة "للقانون"، وأخذ القروض البنكية الاستهلاكية ما هو إلا غطاء عن الجرم الذي ترتكبه "الدكتاتورية الغربية المؤسساتية" في حق الإنسان، العنف المشروع ذاته لا يعاقب عليه القانون الدولي في حالة ممارسة النيوكولونيالة غطرستها على الدول، إذ إنّ تطويع القرار الأممي وفق الإمبراطورية الغربية لم يتجاوز معاييرها الحضارية في ترخيص لمحتوى تهديدي معادٍ لروسيا، ومع أنّ الغربي يولي اهتماما كبيرا لتدخلات جيوشه خارج حدود اتحاداته، فإنّه غير مهتم بالتفكير في التكلفة الإنسانية لآلة القتل البربرية.
ما تورط به الغربي ضمن عالم تسيره المصلحة المطلقة، انفلاته عن "الالتزام الحضاري بالقيم الإنسانية" التي يتعايش الناس وفقها، مما يدعه رهينة "دكتاتورية مؤسساتية احتكارية" لفائض التحويلات المالية والشركات الناهبة لها، فحياة الرفاهية التي تصطنعها الرأسمالية لمواطنيها وفق إطار تحدده تدفقات السلع الخدماتية والإنتاجية، لا يمثل "أقصى الرفاه الإنساني" حينما تتصدر حركات تحررية الدعوة لتقسيم عادل للثروة، إذ إنّ السلع الاستهلاكية مع كثرتها واختلافها لم تعد تكفي "القدر الذي منحه الخبز" لفكرة الحياة والعيش الكريم إبّان عصورهم المظلمة، حيث كان الأوروبيون يتقاتلون على رغيف خبز واحد.
ومع فارق الانتقال الحضاري والتطور الإنساني، تحول "الخبز الذي أوصى به المسيح أتباعه أن يأكلوه بدل المنّ الذي تجرأ أسلافهم على رفضه، وما إن أكلوه حتى طلبوا استبداله بالذي هو أدنى" إلى مادة سلعية محددة القيمة والفترة، وهي ضمن استهلاك يومي بالكاد يسد حاجة الفرد الغربي من القيم التي تعززها العدالة الاجتماعية في تقسيماتها للثروة، بل إنّ الخطر الأكبر الذي يتهدد الغربيين في مرحلة تتحسس فيها الإنسانية شروط بقاء الحضارة، هو تسليع الديمقراطية والحرية والإنسانية ضمن قوالب نيوكولونيالية، وعبودية مقنعة، وعنصرية موحشة، وقتل ممنهج للعالم البشري.
فوبيا نحو الحرية
في المقابل، ومع الفروقات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية مع نظريتها الغربية، فإنّ الانفلات الأمني لم يكن بمعزل عن التحولات الجارية في الشمال، ولعل "الفوضى الخلاقة" التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس على أنّها "الربيع العربي" بـ"مآلاته المكلفة"، لم تكن على القدر الذي منحته الثورة لأولئك المنتفضين في وجه بقايا الكولونيالية الغربية، فلأكثر من نصف قرن كان حراس المحميات من الكلاب الضالة يذودون عن الحدود التي أورثها لهم الاستعمار، ومع تصدع جدران القومية والوطنية بسبب الارتدادات الشعبية التي تتوق للحرية والعدالة، سارع حفارو القبور الجدد للظفر بالتحولات التي فرضتها اللحظة التاريخية، لإعادة إنتاج كومبرادويات أكثر هوانا وطوعا.
من المفارقات التي يراهن الغرب عليها أن يتم المحافظة على "آخر الناجين الكومبرادويين"، المستمر في قتل الحياة السياسية والاجتماعية لبلدانهم حفاظا على أمن إسرائيل، في تجسيد فاضح لما بلغه النظام العالمي من تشظ وانقسام تجاه القضايا الإنسانية العادلة، يمكننا أن نسمع الدعوات للتطبيع مع أنظمة قتلت مئات الآلاف من الأبرياء في سبيل بقائها على سلم الترتيب النيوكولنيالي، علّها تغيّر سلوكها العدواني والبربري، لكن تجاه من؟
الأكيد أنّ السلوك الذي يتم التدليل عليه في سبيل استرضاء اعتراف الامبراطورية بجدوى الحفاظ على الدكتاتوريات العربية، مرهون بمدى قرابتها مع نظام العنصرية الإسرائيلي، وحجم التنازلات التي يمكن أن تكون الضامن لاستمرارية السطو الإمبريالي على الثروة الوطنية، إلى جانب العمل على "تشكيل نظام مَلَئي" مستحوذ على السلطات بتفرعاتها، حتى المؤسسة العسكرية ليس بمقدورها إزاحة "المافيا السياسية" المهددة لاستقرارها وأمنها، إلا بضوء أخضر من لدن سادة الديمقراطية والحرية الغربيين، فالبورجوازية الحاكمة بعد الربيع العربي لا تتعدى كونها دكتاتوريات بائسة، يتواصى بها خدّام الاستعمارية الجديدة لاستعادة حظائر الطاعة والإذعان التي انفلت عقدها، وهدّمت جدرانها، وتشايع أهلها نحو الحرية والعدالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق