القاهرة في أيام سعاداتنا الأولى
كانت "حنونةً" علينا في اللقاء، وكأنّها قرانا وقد فرشت لنا سبائط النخيل والحصر والأعراس في ميادينها ومقاهيها، وكنا نحن على قدر استحمال لوْعتها وقسوتها على الغرباء، وكم كانت رحيمةً بنا، بالناس والأصدقاء والغرف الضيقة التي كانت تتسع لنا وكأنّها "منادرنا"، رغم حيّزها الضيق، وضيق حتى الشوارع في أطرافها التي نمت فجأة، غربها وشرقها وشمالها وجنوبها، حتى سطوح عماراتها كانت مرحبة بنا، رغم استغراب سكّانها القدماء قدومنا أو خروجنا ضاحكين، نحن الغرباء عنهم، وفي أيدينا بعض الكتب، ونتشاكس في كلام غريب عنهم، بعدما باتت الدنيا للناس جميعاً هي المأكل والملبس والجنيه والسفر إلى الخارج، وماركات السيارات والبناء والتعمير وإعلانات القيشاني والمطابخ والحمّامات.
كنّا كمن جاء إليهم من هناك، وبكلام من هناك، وقد صاحبنا الكتب والضحكات وبعض الصخب ليلاً، وكان هذا أكثر ما يضايقهم منا.
كنا قد كبرنا بلا زواج، ولا شقق. وبعضنا دخل في زيجات وانتهت بالفشل مع الإصرار على تكرار المحاولة بالفشل السابق نفسه وتكراره. ذلك كله مع نفورنا من الأحزاب ورجال السياسة بعدما ضاقت الهوّة كثيراً ما بينهم وبين السلطة، وتطوّعت السلطة بتعيين فتيات تلك الأحزاب في جرائد الدولة المتخصصة وقنواتها، والقنوات الفضائية، مخرجين ومعدّين ومصورين، فغابوا عنا في وضعهم الجديد، بعدما صرنا أغياراً في الملبس والسكن والهيئة وانتقاء الأصحاب وأماكن السهر.
قسمونا إلى فئتين، وفئة ثالثة اختارت الخارج طوعاً، وصاروا كنواة لمترجمين أو دكاترة للأدب في الغرب، وصنعوا حواجزهم أيضاً مع القاهرة، وصاروا أقرب إلى التهكّم عليها كمستشرقين منا استوطنوا الغرب معيشة وكتابة وصمتاً أيضاً، أو حياداً لا ينمّ عن أنهم كانوا هنا معنا ..
غريب ما تفعله القاهرة بالناس، محبةً كانت أم قاسية. والأغرب منها هم الناس حينما تختبرهم الأيام.
كنا نمشي في القاهرة وكأنّنا نطير، ونتعارك وكأنّنا نهوّن عن أنفسنا الضجر أو لؤم الأحلام التي كانت عصيّة، ونفرح وكأنّها مدينتنا وحدنا من دون سائر أصحابها، ونسهر وكأنّنا أصحاب مغانم أثقل من جبل المقطّم، كنّا نصعد جبال رقّة الحال وكأننا أغنياء.
كانت بنوكنا عامرة بالصبر وفارغة من المال، والميادين تتّسع لضحكاتنا وكأنّنا أحفاد أثرياء قدماء. كانت القاهرة تعطينا كلّ شيء تقريباً: الكسرة والحب والقلق والصبر والكتابة، ولم يكن معنا أيّ شيءٍ كي نخسره، إلّا كرامتنا، وتلك كنا متشبثين بها إلى غاية أكبر مدى، بل ونربطها بجوارنا فوق كراسي المقاهي الفقيرة وأماكن أعمالنا البسيطة التي كانت شبه طاردةٍ لنا، ولولا الصبر على عيالنا وخوفنا عليهم لكنا تركناها.
كانت القاهرة وحدها هي المدينة التي تطبطب علينا بعد كلّ يوم طويل من الخسائر، إلّا الكتابة وحدها هي التي كانت تجود، وتلك غرابة أخرى ليس مكانها هنا.
كنا نجري وراء أوهامنا سعداء بخطواتنا القليلة نحو أمجادنا البسيطة التي نحلم بها في المقاهي. كنا نحسّ أنّ القاهرة تعرفنا أكثر من سكّانها وأصحابها وملّاك أبراجها العالية وبنوكها ومكاتب صرافاتها والأثرياء هناك.
كنا سعداء بشيءٍ غامض ما فيها، شيء كأنه الكتابة، بل أكبر من الكتابة، شيء كأنّه الحلم، لكنّه حلم ممسوكٌ ويمشي معنا في الشوارع المليئة باليافطات في مواسم الانتخابات التي لم نكن نتابعها أو نهتم بها أو نراها أصلا، كالأحزاب التي كانت دائماً متكوّرة في حياء خلف عجيزة السلطة، أو رديفة لها، في خجل ولؤم معاً وبجاحة كذلك، ونمرّ على الحروب التي تحدُث، وكأننا نمرّ على تمثيلياتٍ تلفزيونيةٍ بشكلٍ ما، تمثيلياتٍ يقودها الملوك والرؤساء.
كنا سعداء في القاهرة بشيءٍ غامض نلمسه أو نمسكه أحياناً، أو يلمسنا ويمسكنا من دون أن ننتبه لأهميتنا .. هل بعدت القاهرة عن القاهرة نفسها، هل اختلفت، هل ضحكت علينا بأوهامنا عنها، هل خدعتنا؟ هي فقط فطمتنا منها، ولم تترك لنا، للأمانة، أيّ جراح منها، سواء ما تعمّدنا نحن أن نُحدِثه في جلودنا أو ترسّب داخلنا من دون أن نشعر بألمه.
كنا ننسى ونتناسى، فيداري كلّ نسيان ما سبقه من نسيان، ونمشي فيها إلى الأمام من دون أن ننتبه أو نلتفت حولنا حتى وصلنا إلى الستين، وتركناها خلف ظهورنا إلى قرانا، فهل خنّاها وهي في ضعفها؟ خصوصاً بعدما كثرت الكاميرات في كلّ مقاهيها وميادينها وأزقتها وتركناها، وعدنا إلى قرانا نتأمل الحمام بعدما هدموا أيضاً أبراج الحمام في قرانا أيضاً، وارتفعت الأبراج الخرسانية مكان النخيل وغيطان العنب ورحل أصدقاء الشباب أو كثرت عليهم أحزانهم أكثر منا بكثير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق