قمح أوكرانيا بين عزيز مصر ووزير الغلابة!
عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمي
ثقافة المصريين في التعامل مع رغيف الخبز وموقعه على مائدتهم، بل وفي أمثالهم وخريطة حياتهم يدعو إلى التأمل، فقد وصل الأمر بهم إلى أن أطلقوا عليه “العيش”، فيقولون “رغيف العيش”، ويجعلونه مرادف الرزق “أكل عيش” و”متقطعش عيشي”، ودليلًا على قِدم العلاقة ومتانة العهد “بينا عيش وملح!“.
وعلى كثرة ما تعرفت إليه من عادات الشعوب في الطعام، لم أجد شعبًا يأكل الخبز في الوجبات الثلاث إلا الشعب المصري، بل كنا في مراحل الدراسة نأكل “الكشري” بالخبز، لأن الطلاب لا يستطيعون شراء ما يشبعهم من هذه الأكلة الشعبية المنخفضة الثمن، وربما يقترب من مكانة الخبز عند المصريين، الأرز عند الخليجيين ولذا يسمونه “عيش” أيضًا!!
ولعل هذا يفسر ارتباط مصر بالقمح، وأنه سلعة حاجية واستراتيجية، وظهر هذا بجلاء مع غزو روسيا لأوكرانيا، وهما معتمد مصر الأساس في استيراد القمح، ومنذ القِدم كان اختبار الله للمصريين في زمن نبي الله يوسف -عليه السلام- في نقص الميرة وقلة القمح والحبوب، كما جاء في رؤيا الملك التي فسّرها يوسف -عليه السلام- بتحذيرهم من قدوم سبع سنوات عجاف، فعليهم أن يستعدوا لها قبل قدومها بسبع سنوات من أيام الرخاء والوفرة، ووضع لهم الخطة الزراعية والاقتصادية والتموينية التي تعبر بهم إلى عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وبه تنتهي الأزمة، لكن الملاحظ أن ملك مصر في وقتها -وكانت تحت حكم الهكسوس وليس الفراعنة- أخذ بنصيحة الخبير بعدما اطلع على مواهبه ووضعه في المكان اللائق به، وأطلق يده في التخطيط والتنفيذ بعدما سمع منه وعرفه بإمكاناته (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
وبالفعل نجت مصر من مجاعة مهلكة، وبقيت عزيزة تحت حكم عزيز جديد، الذي خرج من السجن إلى الحكم -ولعلها سنة- وصارت قبلة لمن يفد عليها من الأماكن البعيدة بحثًا عن الطعام والميرة، حيث جاء إخوة يوسف من أرض كنعان كما جاء في آيات القرآن (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).
مصر الآن
أما مصر الآن ومن عقود سابقة، وهي تشكو من أزمة قمح خانقة، حتى حلّت في المرتبة الأولى في ترتيب الدول المستوردة للقمح وهي بلد زراعية، وتأتي في المرتبة الرابعة شقيقتها وشطرها الثاني السودان صاحبة المساحات الشاسعة، وهما بلاد النيل أطول الأنهار التي تجري على وجه الأرض! ولا شك أن الأزمة ستتفاقم مع اكتمال مشروع سدود إثيوبيا على مجرى النهر العظيم.
ومع تكرار أزمة القمح سنويًا بقيت الحلول وقتية في صورة مسكّنات تُخفف الألم ولا تُذهب العلل، إلا في المدة التي حكم فيها الشعب نفسه، وتقدم للأمانة القوي الأمين في عصره، ذلك الأستاذ الشاب في كلية الهندسة الذي تحمّل مسؤولية وزارة التموين بعد ثورة يناير، وحقق في مدة وجيزة صورًا من النجاح الباهر حتى لقب بوزير الغلابة، إنه الدكتور باسم عودة الذي اتفق على تفوقه كل من عرفه أو عمل معه، فقد وضع خطة محكمة لضبط منظومة الخبز وتوفير السلع الأساسية، وحفّز الفلاحين على زراعة القمح وساعدهم، وتغلّب على كثير من مشاكلهم، وكانت الخطة من شأنها تحقيق درجات متقدمة متدرجة من الاكتفاء الذاتي من القمح، وفي مقدمتها بناء الصوامع لحفظ القمح المحلي الذي يوضع في “الشون” وهي أماكن التخزين المهملة التي يفسد فيها القمح خلال بضعة أشهر، وأجرى معنا في وزارة الأوقاف في حينها اتفاقية شراكة عملاقة، تتلخص في أن توجّه الأوقاف بعض استثماراتها المتعددة إلى بناء الصوامع وتؤجرها لوزارة التموين، بما يحقق للأوقاف عائدات مضاعفة أكبر مما تستثمر فيها أموالها، وتحقق هدفًا قوميًا للدولة، وأُلغي الاتفاق بعد اعتقال باسم عودة، وحكم عليه بالسجن المؤبّد بتهمة قطع الطريق، وبالفعل كاد باسم عودة أن يقطع الطريق على أزمة القمح، وينجو بمصر من السنوات العجاف، ولعل هذه المقدمة التي بدأتها عن قصة يوسف مع مصر والقمح تجعلني أتناولها بالتفصيل.
ولنا “عودة”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق