الحمد لله وبعد،،
تأمل معي هذه المشاهد الخمسة قبل أن نتناقش سوياً في تحليل هذه الظاهرة البشرية المدهشة:
1- تجد بعضنا حين ينشر المصحف بين يديه ليتلو شيئاً من القرآن، يدب إليه بعد هنيهة استطالة الزمن، فلا يمضي ربع ساعة إلا وتراه تارة يَعُدّ الصفحات المتبقية على نهاية الجزء؟ وتارة ينظر إلى الساعة كم مضى وكم بقي؟ وتارة يفكر في أشغال يرى أنه أجّلها، وأنها عذر لقطع التلاوة، أو أنه بحاجة لقسط من الراحة والنوم.
ثم إذا وضع رأسه على الوسادة فتح جواله باتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، وأخذ يلتهم التعليقات، ويركض إبهامه فوق التغريدات يسحبها كالمستزيد، وتمضي ساعة كاملة وأكثر وهو فاغر فاه ساكن ما شعر بنفسه، حتى أنه أحياناً يضطر لإرغام نفسه على قفل الجوال تجنباً لتطاول السهر.
كيف يا ترى يستطيل بعض الناس أن يقرأ القرآن نصف ساعة، بينما يخبت أمام تويتر والواتساب ونحوها ساعات منهمكاً ما شعر بنفسه؟!
2- حين يزورنا الضيف الغالي رمضان، يبدأ بعض الناس بالتهامس حول أسرع إمام مجاور في صلاة التراويح، وتأتيك الأخبار وكأنها أخبار ماراثونات لا شعائر صلوات، ثم إذا وجد أسرع إمام مجاور ووقف في صلاة التراويح لا يلبث أن ينظر في الساعة عدة مرات، ويعيد حساب الوقت المتبقي.
بل وبعضهم بعد عدة أيام من بداية رمضان ينقطع كلياً عن صلاة التراويح، ويغادر المسجد مستدبراً الناس وهم واقفون بين يدي ربهم، وربما حدثك أن الوقوف شاق، وأن أرجله تؤلمه، أو أن الأئمة هداهم الله يطيلون، ونحو ذلك.
ثم تجد هذا الشخص بعينه، لا غيره، يذهب للأسواق التي تقلب ليل رمضان نهاراً، ويذرع السوق طولاً وعرضاً أكثر من ساعة، ولا يحس بالألم حتى يجلس ويتفطن لتقلص عضلات قدميه من إعياء المشي، وربما استلقى يدلك رجليه من العناء.
وبعض هؤلاء يغادر التراويح ويذهب لاستراحته ليتقاذف كرة الطائرة مع أصدقائه عامة الليل، أو تجده يقف في صفوف شعر المحاورة عدة ساعات بين المتصايحين شطر الليل ولا يحس بالتعب، ثم يستثقل الوقوف في صلاة التراويح ثلث ساعة!
كيف يا ترى يصور بعض الناس لأنفسهم التعب والمشقة من القيام ثلث ساعة في صلاة التراويح، بينما يتلذذون بتسكع الأسواق، وقفز الملاعب، وصياح الملعبة، لعدة ساعات؟!
3- تجد في كثير من المراهقين والشباب إظهار التفاني في "الفزعة" للأصدقاء، حتى أنني كنت أتعجب من قصص أسمعها من بعض القريبين، تجد الشاب يسافر مسافة 300 كلم ويعود في نفس اليوم لأن صديقه خارج الرياض طلب منه أن يوصل له غرضاً يحتاجه، وتجد بين هؤلاء الشباب أنهم يستقصرون المسافات للنزهة مع أصدقائهم، فلو أرسل له أصدقاؤه رسالة جوال أنهم في المكان الفلاني خارج المدينة لنفض فراش الراحة وأقبل يطوي المسافات للحاق بهم، وليس بين عينيه وهو في الطريق إليهم إلا خيالات فكاهتهم ومرحهم.
وفي نفس الوقت تجد هذا الشاب المتفاني في قطع المسافات الطويلة مع أصحابه يكون أحياناً في المنزل مضطجعاً في وقت راحة، فتطلب منه والدته أن يأتي بخبز أو لبن من البقالة المجاورة، فيتلكأ ويتأفف، وربما قال لوالدته: الله يهديك ليه ما أرسلتوا لي قبل آصل البيت؟ ما تجي طلباتكم لين أجي أرتاح؟!
بل وأقسى من هذا المشهد أن تكون والدته في حاجة لموعد مراجعة دورية في مستشفى، وأصحابه في موعد مع وليمة هامة، فيبلغ به الهم مبلغه، ويتدبر لأمه الأعذار لعل شخصاً آخر يأخذها من أقاربه، فإذا حصل وغلبت الروم وذهب بها هو فيذهب بها ونفسه على طرف أنفه!
ما زلت أتأمل وأتساءل .. كيف يستقصر بعض الشباب المسافات الطوال في رضا أصحابه، ويستطيل مشوار البقالة المجاورة في رضا والدته؟!
4- يدق منبه الجوال صباحاً ليوقظه للدوام، فتبدأ يده تطوف في الطاولة المجاورة يتلمس جواله ليتأكد من الساعة، لقد جاوزت الساعة الثامنة بكثير، فيقوم فزعاً مهرولاً، ويتوضأ بسرعة، ويفرش سجادته ويصلي صلاة الفجر بعد أن ارتفعت الشمس وطعن وقت الضحى أول النهار، ولم يكن وهو يصلي الفائتة مطرقاً ذليلاً تتقطع نياط قلبه حسرة على فوات عمود الإسلام، لا، بل كان أثناء صلاة الفجر الفائتة يعيد في ذهنه حساب مسافة الطريق، ومتى سيصل لدوامه؟ وهل سيعكر ذلك على توقيع حضوره الصباحي؟! وينتهي من صلاته المنقورة ويلف سجادته ويقذف بها في ركن الغرفة، ويلبس ملابسه بسرعة وينطلق لدوامه، ويدخل مقر عمله وقلبه منقبض متحسس من موقف رئيسه منه على هذا التأخر، مترقباً ماذا سيقول رئيسه؟ وما أنسب جواب تجاه أي عتب؟ أما موقف ملك الملوك وجبار السموات والأرض من إضاعته عمود الإسلام عن وقتها؛ فهذا قد اضمحل من قلبه بسبب ما ألفه من إخراج صلاة الفجر عن وقتها، فقد مات ألم الذنب في قلبه بموت قلبه، وما لجرح بميت إيلام، وأعظم من الذنب نفسه موت القلب وعدم إحساسه بلسعة الندم على المعصية.
ومن الطريف حقاً أن مثل هذا المعتاد على إخراج الفجر عن وقتها، مع الالتزام ببداية الدوام الصباحي؛ ينظر لنفسه على أنه شخص ناجح ومنضبط في حياته، بل ربما أسدى بعض النصائح لبعض اليافعين حوله: كيف ينجحون في حياتهم بالانضباط والالتزام بالمواعيد والجدية في الحياة، ولا يرفّ له جفن على صلاة الفجر التي ينقرها كل ضحى!
5- وتجد المرء يستسهل أن ينفق على تبديل جواله، أو ينفق على عشاء في مطعم فاخر، أو ينفق في رحلة سياحية، آلاف الريالات، ثم إذا اُلتمِس منه النفقة على إخوان له في العقيدة والإيمان تهراق دماء أطفالهم، ويعتدى على نسائهم، في الشام الجريحة، أصيبت محفظته بانقباض معوي!
وترى المرأة تصرف المبالغ الباهضة في ملابس السهرات وحقائب الماركة والحلي الثمينة، ثم إذا سمعت داعي النفقة تصدقت ببقايا الفكّة في شنطتها!
إخواننا في الشام يحتاجون الهللة الواحدة، يشترون بها عصابة جرح ينزف، وخبزة جائع يتضور، ورصاصة يستنقذ بها الشرف.. بينما نحن في غاية البرود نصرف أموالنا في الكمالات الشخصية والمنزلية!
والواجب على الدول طبعاً أضعاف أضعاف الواجب على الأفراد.
حسناً .. انتهت المشاهد الخمسة التي بحوزتي، دعونا نتفحص الآن دلالات هذه المشاهد، فالحقيقة أنني دوماً أستحضر مثل هذه الوقائع ونظائرها في حياتنا الاجتماعية، وهي كثيرة جداً، ثم أتساءل محتاراً:
كيف يجد المرء في نفسه خفة لعمل معين إذا أريد به الدنيا، ويجد تثاقلاً عظيماً لنظير ومثيل هذا العمل إذا كان لله؟!
فالقراءة عمل من جنس واحد، فكيف تكون القراءة ثقيلة عند قراءة القرآن، وتكون القراءة ذاتها لذيذة عند قراءة التغريدات والواتسبيات؟!
والوقوف والقيام عمل من جنس واحد، فكيف يستثقل المرء الوقوف في صلاة التراويح، ويستسهل الوقوف ذاته في الأسواق والملاعب والحفلات وصالات التخسيس الرياضي؟!
وقطع المسافات عمل من جنس واحد، فكيف يستطيل بعض الشباب مشواراً قصيراً لأجل والدته، ويستقصر المسافات الطويلة لإيناس أصدقائه؟!
والاستيقاظ من النوم عمل من جنس واحد، فكيف يستثقل المرء الاستيقاظ لصلاة الفجر عمود الإسلام، ويفز ناهضاً مرعوباً لأجل دوامه؟!
وإنفاق المال عمل من جنس واحد، فكيف تندلق محفظة المرء للكماليات الدنيوية، وتنخنق عند الضرورات الدينية؟!
لماذا نجد النشاط والهمة والعزيمة في أمور دنيانا، ونجد التثاقل والتكاسل في أمور الآخرة؟!
والحقيقة أن مثل هذه المقارنات تفتح أبواباً لإيقاظ الأرواح وتزكيتها، وتقطع أعذاراً وتعلاّت تتعلق بها النفوس لحظة تقصيرها.
ولكن هل جاء في كتاب الله مثل هذه المقارنات بين العمل إذا كان للدنيا ونفس العمل إذا كان لله؟ هل استعمل القرآن مثل هذه الطريقة في تحريك القلوب إلى باريها؟
نعم، مثل هذه المقارنات بين الهمة الدنيوية والتثاقل الديني نبّه إليها كتاب الله في عدة مواضع، فمن ذلك:
تأمل –مثلاً- كيف قارن القرآن نشاط أهل الجاهلية في ذكر مفاخر قبائلهم، وفتورهم في ذكر الله، فقال سبحانه (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة:200].
وتأمل كيف نبّه القرآن على أكفٍ ترتفع لتدعو بحظ الدنيا فقط، وتفتر عن الدعاء بحظ الآخرة: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) [البقرة:200].
وتأمل كيف نبّه القرآن على نفوس تنقاد وتسلّم إذا كان الحكم الشرعي موافقاً لميولها، وتنفر إذا كان الحكم الشرعي لا ينسجم مع ذوقها، كما قال الله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)[النور:48-49].
وحين تخلف من تخلف عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى تبوك، نبّه القرآن إلى أنه لو كان في هذا السفر عرض من أعراض الدنيا لجاؤوا: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ)[التوبة:42].
وتأمل كيف استعمل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هذه الآلية القرآنية في ضرب الأمثال، فقارن بين همة البعض في الوصول للطعام، وتثاقله في الخروج للصلاة: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم، أنه يجد عَرْقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء)[البخاري:644]
والعَرْق هو العظم عليه لحم، والمرماتين هما ظلفي الشاة، والمقصود أن هؤلاء الذين يستثقلون الخروج لصلاة العشاء، ولو وجدوا وجبة عشاء صغيرة لجاؤوا!
فهذه المقارنات في العمل المعين بين الدين والدنيا نوع من (ضرب الأمثال) في القرآن، وضرب الأمثال هو الأسلوب المفضل في القرآن في التوضيح والاحتجاج، والأمثال هي النظائر كما قال الله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وقال سبحانه (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقال سبحانه (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وقال سبحانه (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
والأمثال كما ذكر أهل التفسير هي الأشباه والنظائر، وليست التطبيقات والنماذج والجزئيات والماصدقات التي تندرج تحت قاعدة معينة، أي أن الله يذكر شبهاً يعتبر الناس به ويقيسون عليه، ولذلك قال الإمام ابن تيمية عن أمثال القرآن (والأمثال المضروبة هي القياسات العقلية)[بيان التلبيس:2/130] وكرر هذا المعنى رحمه الله في مواضع كثيرة جداً من كتبه.
وأريد هاهنا أن أقدم لأخي القارئ تجربة شخصية، ذلك أنني لاحظت أن استعمال هذا الأسلوب القرآني في وعظ النفس وزجرها من أنجع الوسائل والأساليب، فكلما وجدت نفسك تفتر وتستثقل عملاً من أعمال الآخرة، ورأيت عقلك يبتكر العلل والمعاذير والمسوغات، سواءً كان هذا العمل تلاوة قرآن، أو صلاة، أو بر والدين، أو طلب علم، أو نفقة في سبيل الله، أو صلة رحم، الخ، فضع نظير ومثيل هذا العمل الديني في صورة عمل من أعمال الدنيا، أو في أقرب صورة من أعمال الدنيا لهذا العمل الديني، ثم تأمل كيف تنشط نفسك في هذا العمل الدنيوي، ثم عاتب نفسك وازجرها كيف تنشط في عمل الدنيا وتفتر في نظيره من أعمال الآخرة؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أبو عمر 26 رجب 1434هـ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق