نظرات وعبرات في الذكرى الـ94.. هل تنجح الحرب على الإخوان؟محمود عبد الهادي
قبل أيام احتفلت جماعة الإخوان المسلمين في إسطنبول بذكرى مرور 94 عامًا على تأسيسها على يد مؤسسها الداعية حسن البنا -رحمه الله- عام 1928.
يأتي الاحتفال وسط ظروف معقدة تمر بها الجماعة لأول مرة في تاريخها، فالهجمة الشرسة التي تشنّها عليها مجموعة من الدول العربية ما زالت مستمرة، والانشقاق الذي أصاب قيادة الجماعة ما زال مستمرًا، وبات يهدد التنظيم بالانهيار بعد أن صمد طوال العقود السابقة من عمره.
لم تتوقف الأعمال المعادية لجماعة الإخوان المسلمين منذ العقود الأولى لنشأتها حتى الآن، إلا أن العداء الذي واجهته في العقد الماضي، في أعقاب ما يعرف بثورات الربيع العربي، كان عداء استثنائيًّا يستهدف القضاء التام على الإخوان المسلمين، قبل أن يتمكنوا بعد 6 أعوام من الاحتفال بمرور قرن على تأسيس الجماعة.
فهل ستنجح هذه الدول في القضاء على الإخوان المسلمين؟
إن إصرار جماعة الإخوان المسلمين على المبادئ والأفكار التي أسسها حسن البنا، ظنًّا منها أن المساس بهذه المبادئ والأفكار قد يهدم الفكرة الرئيسة التي قامت عليها، أو قد يؤدي إلى تفكيك الجماعة، أو قد ينطوي على مخالفة شرعية لا تريد قيادتها أن تتحمل مسؤولية وزرها، أو غير ذلك من المبررات، هذا الإصرار لا يعفيها من مسؤوليتها عن واجب المراجعة والتفكير والتطوير بحثًا عن صيغ وحلول تجنّبها الاستمرار في مسلسل المواجهة الدامية مع أنظمة الحكم.
هل تنجح خطة الحرب على الإخوان؟
يعود أصل العداء السياسي للإخوان المسلمين داخليًّا وخارجيًّا إلى مجموعة المبادئ والأفكار التي قامت عليها الجماعة، والتي جعلت منها الخصم السياسي الأكبر للأنظمة العربية من جهة، وللمخططات الصهيونية والغربية في المنطقة العربية والإسلامية من جهة أخرى. ورغم الصدمات الفادحة المتلاحقة التي تلقتها الجماعة على مدى تاريخها، في أكثر من دولة، فإنها ظلت مصرّة على مبادئها وأفكارها، ولم تقم بأي مراجعة لها، لتعديلها بما يتناسب مع السياق التاريخي الذي مرّت به المنطقة العربية في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. ظلّت جماعة الإخوان مصرّة على المبادئ والأفكار التي أسسها حسن البنا، ظنًّا منها أن المساس بهذه المبادئ والأفكار قد يهدم الفكرة الرئيسة التي قامت عليها، أو قد يؤدي إلى تفكيك الجماعة، أو قد ينطوي على مخالفة شرعية لا تريد قيادتها أن تتحمل مسؤولية وزرها، أو غير ذلك من المبررات، هذا الإصرار لا يعفي الجماعة من مسؤوليتها عن واجب المراجعة والتفكير والتطوير بحثًا عن صيغ وحلول تجنّبها الاستمرار في مسلسل المواجهة الدامية مع أنظمة الحكم، وهو ما يحتاج إلى تناول في مقال مستقل بإذن الله.
قبل ما يعرف بـ"ثورات الربيع العربي" تفاوتت مواقف الأنظمة العربية من الإخوان المسلمين؛ من القمع والتنكيل كما حدث في مصر عبد الناصر وسوريا حافظ الأسد وتونس بن علي وليبيا القذافي، إلى التحييد كما في عدد من الدول الخليجية، إلى الاستيعاب كما في الأردن والمغرب، إلى الاستغلال كما في مصر السادات والسعودية.. كل وفقًا لحساباته ومصالحه السياسية الداخلية.
أما بعد "ثورات الربيع العربي"، فقد اتخذت المواجهة شكلًا جديدًا، مستحكمًا في عداوته، واستثنائيًّا في قيادته ومنطلقاته ورؤيته وأساليبه وحدّته، تحت شعار "الحرب على الإخوان"، على غرار شعار "الحرب على الإرهاب"، حيث أصبحت كلمة "الإخوان" المرادف القانوني لكلمة "الإرهاب":
أما قيادته، فلأول مرة يجتمع عدد من الدول العربية على موقف عدائي موحد ضد الإخوان المسلمين، يتفق على رؤية واحدة. أما منطلقاته، فتتلخص في أن جماعة الإخوان المسلمين هي الخطر الأكبر الذي يهدد استقرار المنطقة العربية، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ العداء مع الإخوان المسلمين، فدائمًا كان الكيان الصهيوني هو الخطر الأكبر الذي يهدد المنطقة العربية، أما في هذه الحملة فقد صار الإخوان هم الخطر الأكبر، وصار الكيان الصهيوني حليفًا. وأما هدفه الرئيس فهو القضاء التام على الجماعة، وعدم السماح لها بالقيام مرة أخرى، حتى يتسنّى للمنطقة العربية أن تنعم بالاستقرار والرفاه. أما رؤيته، فتتبلور في إقامة منطقة عربية خالية من الإخوان المسلمين. أما أساليبه، فهي نوعية واستئصالية متسقة مع الهدف، حيث أطلقت الدول التي تقود هذه الحملة، وللمرة الأولى في تاريخ العداء مع الإخوان، صفة الإرهاب على جماعة الإخوان المسلمين، ومن ينتمي إليها ومن يتعاون معها، وسعت إلى تعميم ذلك عربيًّا ودوليًّا، ورغم أنها لم تنجح نجاحًا كاملًا في ذلك فإنها نجحت في دفع العديد من الدول العربية والغربية إلى التضييق على الإخوان ومراقبة تحركاتهم ومنع أنشطتهم.
لقد أثرت هذه المواجهة وما صاحبها من اعتقالات ومصادرات واسعة النطاق كثيرًا على منتسبي الجماعة في الدول العربية والعالم، فلم يعد بمقدورهم الكشف عن هويتهم الفكرية، ولا المشاركة في الفعاليات والوقفات التي تدعو إليها الجماعة، كما لم يعد بمقدور الجماعة ومنتسبيها تنظيم أي أنشطة أو فعاليات اجتماعية أو علمية أو حقوقية باسم الجماعة، وقلّما تجد كاتبًا يدافع عنهم، أو متحدثًا يطالب برفع الظلم عنهم، بل إن كثيرين من منتسبيهم نأوا بأنفسهم عن أنشطتهم، وربما انقلبوا عليهم، حتى يبرّئوا أنفسهم من شبهة الانتماء لهم.
الخلاف القائم في قيادة الإخوان المسلمين حاليًّا لا ينبغي الاستهانة بآثاره وتداعياته المستقبلية على قوة التنظيم، وقد ينجح في النهاية في ما فشلت فيه جميع المحاولات العدائية السابقة والحالية للقضاء على الإخوان. وإذا فشل الإخوان في حل هذا الخلاف، فكيف لهم أن ينجحوا في التعامل مع أولويات المرحلة القادمة، التي تعدّ أكبر وأعمق بكثير من الخلاف القائم؟
فهل تنجح هذه الحرب في ما فشلت فيه المحاولات السابقة للقضاء على الإخوان المسلمين؟
الإجابة عن هذا السؤال تأخذنا إلى مساحة غيبية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن استعراض محاولات العداء السابقة ضد الإخوان المسلمين تؤكد أن احتمالات نجاح الحرب الحالية في تحقيق أهدافها ضعيفة، ولكنها ليست منعدمة، بخاصة في ضوء ما تتعرض له الجماعة حاليًّا، على مستوى التنظيم والأفراد، وما حدث لها من اختراقات، وما انبثق عنها من جيوب وتشكيلات؛ يمكن أن يؤدي في النهاية إلى عملية تفكيك تدريجية تفقد الجماعة تموضعها السابق، خصوصًا ونحن لا ندري ماذا بقي في جعبة الدول التي أعلنت الحرب على الإخوان، من هجمات تكميلية.
قوة الفكرة أم قوة التنظيم؟
الصمود الذي تبدو عليه جماعة الإخوان المسلمين في وجه الحرب الشرسة الموجهة إليها هو صمود اصطلاحي، لا ينفي أن الجماعة تعرضت لضربات شديدة، لو تعرض لها غيرها من الجماعات لما بقي لها أثر. ورغم شراسة الحرب التي تتعرض لها، وفداحة الخسائر التي منيت بها، والتصدعات التي أصابتها، فإنها تصرّ على أنها ما زالت صامدة ومتماسكة، فهل يرجع ذلك إلى قوة المبدأ والفكرة؟ أم إلى قوة التنظيم؟ أم إلى كليهما؟
من المعلوم أن الأفكار الناجحة يتم تبادلها وتناقلها عبر الأجيال والبلدان، بطرائق عدة ووسائل كثيرة، من دون حاجة إلى تنظيم، ولكن عندما يتوفر لها تنظيم يتبنّاها فإنها تصبح منهج حياة، وكلما قوي التنظيم طال أمده، وتعززت فكرته، فالقوة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين هي في التنظيم أكثر منها في الفكرة، وهذا لا ينفي أن قوة الفكرة تزيد من التفاف أفراد التنظيم حولها، وهذا ما جعل العديد من الدول تعمل على خلخلة تنظيم الإخوان المسلمين، قبل "الربيع العربي" وبعده. ولكن هذا الصمود والتماسك يجب ألا يشغل قيادة الجماعة عن حقيقة ما تتعرض له في الداخل والخارج، وعن حقيقة سنن الحياة التي لا تجامل أحدًا، ولن تكون الجماعة أمامها عصيّة على الانهيار.
الغريب في أمر جماعة الإخوان المسلمين أنها في الوقت الذي تحاول فيه الصمود أمام الهجمات الاستئصالية الحالية المتلاحقة، وفي الوقت الذي تحتفل فيه بالذكرى الـ94 على تأسيسها وتنتظر الاحتفال بالمئوية الأولى، نجدها تنهزم وتستسلم للشرخ الحاد الذي أصاب قيادتها، ولا تجد حلًّا مناسبًا للتغلب عليه سوى القبول به، وبقاء الأمر على ما هو عليه، وهو ما جعل بعض المراقبين لا يستبعدون وجود أيادٍ أمنية رسمية وراء هذا الخلاف. هذا الخلاف الذي لا ينبغي الاستهانة بآثاره وتداعياته المستقبلية على قوة التنظيم، هذا الخلاف قد ينجح في النهاية في ما فشلت فيه جميع المحاولات العدائية السابقة والحالية.
إن الأولويات التي تقف أمام جماعة الإخوان المسلمين في هذه المرحلة التاريخية الحرجة أكبر بكثير جدًّا من هذا الخلاف، فكيف ستنجح في التعامل مع هذه الأولويات، وقد فشلت في معالجة "مجرد خلاف"؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق