الأحد، 20 مارس 2022

المساواة والتمكين| النسويّة اليهودية.. ركوب الموجة الأولى (11)

 المساواة والتمكين النسويّة اليهودية.. ركوب الموجة الأولى (11)

محمود عبد الهادي


مظاهرة للحركة النسوية في العام 1970 

هل سيأتي زمن على الدول العربية والإسلامية تحقق فيه الحركة النسوية فيها ما حققته الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، وتم تعميمه على العالم فيما بعد تحت لافتة الأمم المتحدة؟ سؤال نطرحه اليوم في ظل تزايد أعداد المنتمين والمؤيدين للحركات النسوية في بلداننا، وتغلغلها في شتى المجالات وعلى كافة المستويات، وما نشهده من بسط لأفكارها وقيمها وسلوكياتها، وتمكينها من أدوات النفوذ الوطنية والدولية، السياسية والاقتصادية والقانونية، التي تساعدها على فرض تصوراتها وتنفيذ خططها، وتحقيق أهدافها.

مهدّت القيادات النسوية اليهودية الطريق أمام الجيل التالي من النسويات اليهوديات المتأثرات بأفكار هذه القيادات، حول الدين والسياسة والحرية والجنس، ليقدن الموجة النسوية الثانية، ويفتحن الباب على مصراعيه أمام مطالب المساواة والتمكين والحرية، بصورة مطلقة لا تعطي اعتبارا للأسس الدينية والاجتماعية القائمة.

الخطر المحدق

رأينا في المقالات السابقة كيف أن الحركة النسوية اليهودية لم تقم بإحياء أسطورة ليليث فقط، بل عملت على تبرئتها وإعادة تقديمها للمجتمع اليهودي والعالم كنموذج للتحرر المطلق، والإرادة القوية المصرّة على المساواة والتمكّن والسيطرة، ورفض الاستسلام للثوابت الدينية والاجتماعية. وقد ساعد ذلك على زيادة تغلغلها في المجتمع اليهودي، المحافظ والتقليدي والراديكالي، في الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وعلى قيادة الحركة النسوية في الولايات المتحدة عامة، وحضورها بقوة في أنشطتها القومية والإقليمية والدولية من جهة أخرى، مما أدى إلى الانحراف بالفكر النسوي الغربي عن مساراته الأولى التي انطلق منها، وإحداث تغييرات جوهرية في البنية الفكرية والاجتماعية والسلوكية، وتصديرها عالميا بما في ذلك الدول العربية والإسلامية، التي باتت مهددة بالوصول إلى المصير نفسه الذي انتهت إليه حاليا معظم دول العالم.

فتحت أسطورة "ليليث" أمامنا الباب واسعا لفهم دور الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة، بصورة أشمل، ولتناولها بشكل أعمق لم يسبق إليه أحد على المستوى العربي، وقادنا ذلك إلى اكتشاف الجذور الفكرية والسلوكية لما تروّج له الحركة النسوية العالمية في السنوات الأخيرة، وما تطالب به من استحقاقات، باتت على رأس أولويات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

كما قادنا إلى التعرف على رائدات الحركة النسوية اليهودية، والأدوار التي قمن بها، والنجاحات التي حققنها، واكتشاف مدى الخطورة المترتبة عليها، والتي لا تتعامل الدول العربية والإسلامية معها بالجدية المطلوبة، رغم شراسة الهجمة النسوية التي تجتاح العالم منذ عدة عقود، وتكاد تصل إلى ذروتها في السنوات القليلة القادمة. ولذلك، كان علينا تخصيص مساحة أكبر في هذا المقال، والمقالات القادمة، للتعرف عن قرب على أبرز محطات مسيرة الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة، معتمدين في ذلك، بشكل كبير، على ورقتين بحثيتين، الأولى للمؤرخة الاجتماعية "د. باولا إي. هيمان" بعنوان "الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة"، وتم تحديثها بواسطة "د. راشيل كرانسون"، والثانية للدكتورة "د. جويسي آنتلار" أستاذة التاريخ والثقافة اليهودية الأميركية ودراسات النوع (الجندر) والجنس بجامعة برانديز، وهي مؤلفة الكتاب الشهير "دور المرأة اليهودية في تشكيل أميركا الحديثة". وجميعهن من قيادات الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة.

ركوب الموجة الأولى

كانت الموجة النسوية الأولى في الولايات المتحدة بروتستانتية بأغلبية ساحقة، ومع ذلك فقد شهدت انخراط عشرات الآلاف من المهاجرات اليهوديات من الطبقة العاملة في حركة المطالبة بحق الانتخاب، وتحسين ظروف المرأة العاملة، أفرزت مجموعة من القياديات اليهوديات، وعلى رأسهن إرنستين روز، ومود ناثان، وكلارا ليمليش، وروز شنايدرمان، اللواتي كان لهن دور كبير في حركة المطالبة بحقوق المرأة في الولايات المتحدة.

عُرفت إرنستين روز (1810-1892) بميولها الليبرالية وموقفها الملحد الصريح المعادي للدين، وكانت من أوائل الناشطات اليهوديات في مجال تكافؤ الفرص للمرأة، ورائدة في الكفاح من أجل إصلاح قوانين ملكية النساء المتزوجات، وحق المرأة في الانتخاب، وإلغاء عقوبة الإعدام، على مستوى ولاية نيويورك، ثم على مستوى الولايات المتحدة. وقد أثار ذلك قلق النسويات اليهوديات المتدينات، ومع ذلك وقفت روز بشدة ضد معاداة السامية. رفضت روز الزواج من الرجل الذي اختاره لها والدها الحاخام بوتوفسكي. ثم سافرت إلى برلين وباريس وإنجلترا وأخيرا نيويورك حيث بدأت نشاطها السياسي بحلول عام 1850، وكان تركيزها على حركة حقوق المرأة ومناهضة العبودية والدعوة إلى حرية الفكر، وكانت الأجنبية واليهودية والملحدة الوحيدة في الحركة. بعد الحرب الأهلية، أصبحت المتحدثة البارزة للحركة النسائية المبكرة في الولايات المتحدة.

بعد روز، برزت مود ناثان (1862-1946)، التي شغلت منصب نائبة رئيس الرابطة البلدية النسائية في نيويورك، وكذلك منصب رئيس رابطة المستهلكين. كانت تعتقد أن توعية المستهلكين بمعاناة العمال ستضع ضغوطا اقتصادية كافية على أصحاب العمل من أجل فرض إصلاح حقيقي. برزت ناثان باعتبارها الزعيم اليهودي الأكثر أهمية في حركة المطالبة بحق المرأة في الانتخاب، وفي عام 1897 أصبحت أول امرأة تُدعى للتحدث في كنيس يهودي. وقد عملت بشدة من أجل تشريع يحمي النساء العاملات، في وجه المعارضين الذين كانوا يصوّرون النساء المؤيدات لحق المرأة في الانتخاب على أنهن نساء عدوانيات "ذكوريات"، قصيرات الشعر، وقصيرات التنانير. وكانت ناثان تعرف بفكرها الديني، وغالبًا ما كانت تقتبس من النصوص التوراتية ما يظهر قابليتها للتطبيق في المجتمع المعاصر.

أما كلارا ليمليش (1886-1982) فقد كانت ناشطة، وزعيمة نقابة عمال الملابس النسائية الدولية، ومؤسسة المجالس النسائية التقدمية. بصفتها عاملة ملابس مهاجرة في مدينة نيويورك، بدأت ليمليش في تنظيم النساء في الاتحاد الدولي لعمال الملابس للسيدات في عام 1905، مما أجبر قادة النقابات (الرجال) على إشراك النساء العاملات في الإضرابات. في اجتماع الإضراب عام 1909، أطلق خطاب ليمليش الناري انتفاضة الـ20 ألفا الشهيرة، وهو أكبر إضراب من قبل النساء العاملات حتى ذلك التاريخ. كما ساعدت في تأسيس ما أصبح فيما بعد "مجالس المرأة التقدمية".

وكان من بين رائدات هذه المرحلة، النسوية اليهودية إيما غولدمان (1869-1940)، كاتبة وناشطة ومتحدثة عامة، تتمتع بشخصية كاريزمية. أثارت بأفكارها ومعتقداتها التحررية الكثير من الجدل، وأوجدت لها العديد من الأعداء الأقوياء. تبنّت غولدمان اللامركزية السلطوية بسبب التعامل غير العادل من قبل الشرطة والمحاكم مع الاحتجاجات العمالية، فقد انتقدت المؤسسات من جميع الأنواع لإساءة استخدامها للسلطة، ودافعت عن حقوق العمال، وطالبت بحريات أكبر للمرأة والحب الحر، مما عرّضها مرارا للاعتقال والمضايقة من السلطات والمنع من التحدث. وقد شجعت بذلك الكثيرين على الضغط من أجل حماية حرية التعبير، مما أدى في النهاية إلى إنشاء "اتحاد الحريات المدنية".

أما روز شنايدرمان (1882-1972) فكانت أول امرأة تُنتخب لمنصب في اتحاد عمالي على مستوى الولايات المتحدة. وبحلول عام 1906، كانت نائبة رئيس رابطة نقابات عمال نيويورك النسائية، وساعدت في تنظيم انتفاضة الـ20 ألفا للنقابة الدولية لعمال الملابس النسائية في عام 1909. وأصبحت رئيسة رابطة نقابات عمال نيويورك النسائية (NYWTUL) من 1917 إلى 1949، ورئيسة رابطة نقابات العمال النسائية الوطنية (WTUL) من 1926 إلى 1950 على مستوى الولايات المتحدة، ووزيرة للعمل في ولاية نيويورك من 1937 إلى 1943. وقد أدت صداقتها مع "إليانور روزفلت" زوجة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ومحادثاتهما حول قضايا العمل والعمال، إلى تعيينها عام 1933 في المجلس الاستشاري الوطني للعمل. كما كانت عضوًا رئيسيا في المؤتمر الدولي الأول للنساء العاملات عام 1919، والذي كان يهدف إلى التعريف بظروف عمل المرأة في المؤتمر السنوي الأول لمنظمة العمل الدولية. كما لعبت دورًا رئيسيا في تشكيل قانون علاقات العمل الوطنية، وقانون الضمان الاجتماعي، وقانون معايير العمل العادلة.

في عام 1915، قدمت الأحياء اليهودية في مدينة نيويورك أقوى دعم انتخابي لحق المرأة في التصويت، وكانت منطقة التجمع الوحيدة في مانهاتن التي صوتت لصالح الانتخاب، يهودية في معظمها. إلا أن التردد في الإشارة إلى اليهود صراحة أدى إلى إخفاء الدعم النسوي اليهودي المبكر للحركة النسوية الأميركية، حيث كانت النسويات اليهوديات حينها يخشين أن يتم التعرف عليهن مع اليهود الراديكاليين، الذين ارتبطوا بشكل بارز في العقل الشعبي بالاشتراكية الشيوعية، فكثيراً ما كن يتعرضن إلى تصرفات عنصرية ضد السامية والصهيونية والمهاجرين.

شاركت النسويات اليهوديات، والمنظمات النسوية اليهودية، في العديد من جوانب الحركة النسائية الغربية، التي تجاوزت حق الانتخاب والحقوق السياسية للمرأة، إلى قضايا مثل إصلاح ظروف عمل المرأة، وتوزيع وسائل تحديد النسل، وإلغاء الاتجار بالنساء. وكان لهن دور بارز في الحراك وقيادة الحملات، التي لم تكن تقتصر على الولايات المتحدة فحسب، فقد كان لهن دور مماثل في العديد من الدول الأوروبية، مثل هولندا والمجر وألمانيا وحتى في فرنسا وإيطاليا.

أسهمت القيادات النسوية اليهودية في الحراك النسوي الذي ساد الدول الغربية آنذاك مطالبا بحق المرأة في الاقتراع والعمل والتعليم، ممهدة الطريق أمام الجيل التالي من النسويات اليهوديات المتأثرات بأفكار هذه القيادات، حول الدين والسياسة والحرية والجنس، ليقدن الموجة النسوية الثانية، ويفتحن الباب على مصراعيه أمام مطالب المساواة والتمكين والحرية، بصورة مطلقة، لا تعطي اعتبارا للأسس الدينية والاجتماعية القائمة، وتفتح المجال لحدوث انهيارات شديدة الخطورة في البنية الاجتماعية والدينية والسلوكية.

يتبع… (قيادة الموجة الثانية)


المساواة والتمكين| كيف برّأت النسوية اليهودية "ليليث"؟ (10)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق