لا صوت يعلو فوق صوت العنصرية! (1)
د.أميرة أبو الفتوح
"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، شعار أطلقه عبد الناصر بعد هزيمة حزيران/ يونيو 67، ليخرِس به الألسن التي تطالب بمراجعة الأخطاء ومحاكمة من تسببوا في الهزيمة النكراء، استبدل اليوم في حرب روسيا وأوكرانيا ليحل محله شعار كنا نحسبه من الإرث العربي حصرياً منذ الجاهلية الأولي، فإذا بنا نراه في الغرب الذي لطالما بهرنا بصورته الحضارية، فيخلع هذا الرداء الراقي، ويظهر بصورته العنصرية المقيتة التي تتحدث عن نفسها "لا صوت يعلو فوق صوت العنصرية"، بعد أن تم إقحام الدين والعرق في الحرب. ولا أحد اليوم يتكلم عن الديمقراطية ولا الحرية ولا عن أي قيمة إنسانية أخري، فلقد طويت جميعها في ثياب العنصرية البغيضة!
لقد تم استدعاء الدين وتوظيفه كذريعة لغزو أوكرانيا، من قِبل مجرم الحرب بوتين، ففي خطابه الذي ألقاه قبل الغزو بثلاثة أيام، قال إن أحد أهدافه من الحرب هو "إنقاذ الأرثوذكس التابعين لروسيا، الذين تقوم أوكرانيا باضطهادهم"..
وذات الحديث عن ظلومية الأرثوذكسية وما تتعرض له من مخاطر وتهديد وجودي، تناوله أيضا وزير خارجيته "سيرجي لافروف" في حديثه للقناة الروسية "آر تي"، زاعماً إأن الأرثوذكسية في العالم الغربي تتعرض لعملية تخريب في أوروبا الغربية وأمريكا وليس فقط في أوكرانيا، بل أيضا في دول البلقان ودول البحر الأبيض المتوسط، في إشارة إلى سوريا ولبنان..
وليس هذا الكلام بعيداً عما قاله البطريرك "كيرل"، الراعي السادس عشر للكنيسة الأرثوذكسية الروسية أو ربما عول بوتين عليه في غزوه لأوكرانيا. ففي عام 2019 قال وهو يبكي: "إن أوكرانيا ليست في ضواحي كينيستنا، نحن نلقب كييف "أم المدن" الروسية، كييف هي قدسنا. الأرثوذكسية بدأت هناك ومن المحال أن نتخلى عن هذه العلاقة التاريخية والروحية"!!
أما الغرب الذي تغني بقصائد حقوق الإنسان وحق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة، والمساواة بين البشر جميعا، فحينما وقعت الواقعة، إذا بهذا القناع المزيف يسقط من على وجهه ليظهر وجهه العنصري القبيح!!
نعم لقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن وجه الغرب الحقيقي، العنصري بالفطرة والذي كان يجمله بتلك الشعارات الجوفاء، التي لا يؤمن بها وبالتالي لا يطبقها في حياته، فقد رأينا على شاشة التلفزيون ذلك الصحفي الأمريكي، مراسل قناة "سي بي أس" في العاصمة الأوكرانية، يقول عبر القناة: "إنهم أوروبيون بيض ذوي شعر أشقر بعيون زرقاء، أوكرانيا ليست العراق أو أفغانستان، فكييف مدينة متحضرة"!
وحذا حذوه ذلك مذيع بريطاني بقناة الجزيرة الإنجليزية، الذي وصف اللاجئيين الأوكرانيين الفارين من الحرب بأنهم ليسوا كاللاجئين في الشرق الأوسط، ويقول: "هم مثلنا وكأنهم جيراننا من الطبقة الوسطى"!
وها هو حفيد ملكة بريطانيا الملكة إليزابيث، الأمير وليام، دوق كامبريدج، يدلي بتصريح مليء بالعنصرية والدونية للأفارقة والآسيويين ويقول: "اعتدنا على رؤية الحروب والصراعات في أفريقيا وآسيا، لكن من الغريب جدا رؤية هذا في أوروبا"..
وتناسى هذا الشبل أن بلاده كانت تحتل آسيا وأفريقيا، وهي مَن أشعلت الحروب فيها على مدي قرون من الزمان، وهي التي خلفت الدمار والخراب والمآسي في دول إمبرطوريتها العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، ولكنها حجبتها عن تلك الدول المحتلة!
ألم يقرأ وهو الثاني في ولاية العرش البريطاني، عن الحروب الدينية داخل القارة الأوروبية ذاتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر بين الكاثوليك والبروتستانت؟!
ألم يطلعه مستشاروه على حروب أوروبا في القرن العشرين في ألبانيا، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك، وقبرص، وأيرلندا، واليونان، وبلاد الباسك، ودول البلطيق، والحرب الأهلية الإسبانية، والنمسا، وهنغاريل؟ وهل لم يعلم شيئاً عن الحربين العالميتين اللتين دمرتا أوروبا وحصدت ملايين من القتلى الأوروبيين؟!
هذه فقط بعض الحروب والصراعات المسلحة في أوروبا في القرن العشرين، نتلوها عليك لتعرفها قبل أن ترث العرش ذات يوم!
ربما نلتمس لهذا الشبل البالغ من العمر أربعين عاماً، العذر عن جهله وهو يري منذ نعومة أظافره الحروب تُخاض في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد في منطقتنا العربية، ولكنها تُدار من الغرف السوداء في بلاده!
أحيانا الجهل يفيد بقدر ما يريح صاحبه، فالحرب الروسية الأوكرانية تُعد أول حرب كبيرة تندلع في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فلم تقم دولة بغزو أخرى في القارة الأوروبية أو تسعى إلى احتلالها وتغيير نظامها منذ خمسة وسبعين عاماً، كان هذا يحدث فقط في الشرق الأوسط بتخطيط الغرب وبدبابات عملائهم في المنطقة..
وهي أيضا أول حرب تحدث خارج منطقتنا العربية المُثخنة بويلات الحروب، بدءاً من حرب فلسطين عام 48، واحتلالها من قِبل الصهاينة، وإقامة كيانهم على أرض فلسطين التاريخية، والتي كانت بلد هذا الأمير الشاب (بريطانيا) وراء إنشائه بوعد بلفور اللعين، ثم حرب 56 التي شاركت فيها بلده في العدوان الثلاثي على مصر، ثم حرب 67 التي احتل فيها الكيان الصهيوني القدس الشرقية وضمها إلى القدس الغربية وأعلنها عاصمة لكيانه الغاصب، واعترفت بها الولايات المتحدة التي اعترفت أيضا بضمه هضبة الجولان السورية، وهي والغرب عامة يدينون ويشجبون اليوم العدوان الروسي على أوكرانيا، ويفرضون أقسى العقوبات الاقتصادية على روسيا!
لكن لم يتحرك هؤلاء ولم يهتز لهم جفن على المجازر الوحشية التي يرتكبها الصهاينة في حق الفلسطينيين، ولم يتم التصدي للكيان الصهيوني في عدوانه المستمر على قطاع غزة، بل يقدم له الغرب دعماً صريحاً له ويوفر له غطاءً دبلوماسياً لجرائمه ضد الإنسانية، كما يُمنح شروطاً تجارية تفضيلية. ويغمض الغرب أعينه تماماً عما يستقطعه الصهاينة من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وطرد أهلها ويضمها إلى كيانه المغتصب، بينما يتصدى اليوم للغزو الروسي!
حقا لقد كانت منطقتنا العربية منذ منتصف القرن المنصرم ساحة للحروب وحروب الآخرين على أرضنا، كما يحدث الآن في اليمن، وكما حدث من قبل في لبنان مروراً بحربي الخليج الأولى والثانية، ثم الغزو الأمريكي للعراق والذي ارتكبت فيه أمريكا مجازر وحشية في حق الشعب العراقي، والفلوجة خير شاهد عليها، بينما تُذرف الدموع الآن على الشعب الأوكراني، ربما لأن عيون العراقيين ليست زرقاء.
أما ما فعله مجرم الحرب بوتين في سوريا، فحدث ولا حرج، فقد استخدم كل أنواع الأسلحة المُحرمة دولياً ولم يلمه أحد، ولكن حينما اعترف جيشه باستخدام قنبلة فراغية في أوكرانيا، أصيب الغرب بالهلع والرعب، وصرخ: هذه جرائم حرب ضد الإنسانية. أوليس ما فعله هذا المجرم في سوريا الحبيبة جرائم حرب ضد الإنسانية؟!
الإنسانية أيها الغرب لا تتجزأ، ألم تقولوا "إن الإنسانية عالمية وتحتاج إلى نهج عالمي" وظللتم تكررونها على مسامع العالم منذ عقود؟! أنسيتم أم كنتم مخادعين؟!
لقد لجأ المجرم بوتين في سوريا لسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها في غروزني بالشيشان، ودمر المدن وقتل وهجر نصف الشعب السورى، مع صمت وتواطؤ العالم معه، ولم تهرع محكمة الجنايات الدولية لملاحقة القتلة كما تعتزم اليوم تقديم قاتلي الشعب الأوكراني للمحاكمة..
لا يساورني شك في أن الغرب اليوم يدفع ثمن صمته بل شراكته في جرائم بوتين ضد الشعب السوري، وجرائم الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وهكذا تدور الدوائر..
وللحديث بقية.
twitter.com/amiraaboelfetou
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق