أثر الانفتاح العالمي في الدعوة (نظرة استشرافية)
ترجمة مختصرة للشيخ سلمان العودة
المقدم: الحمد لله الكريم المنان، ذو الفضل والإحسان، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت سبحانك على نفسك، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان.
أيها الإخوة الأكارم! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحييكم في هذه الليلة المباركة ليلة الختام، فأهلاً بكم في مسك الختام وختام المسك، ومع المحاضرة الرابعة بعنوان: أثر الانفتاح العالمي في الدعوة، نظرة استشرافية، لفضيلة الشيخ العلامة الداعية سلمان بن فهد العودة حفظه الله، ونفع بعلمه.
يدير هذه المحاضرة الدكتور سمير بن سليمان العمران.
الدكتور سمير بن سليمان العمران حصل على البكالوريوس في هندسة التعدين من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وحصل على دبلوم في تحليل صور الأقمار الصناعية من الولايات المتحدة الأمريكية، وحصل على بكالوريوس في السنة وعلومها من جامعة الإمام محمد بن سعود، وحصل على الماجستير في السنة وعلومها، والدكتوراه في السنة وعلومها من نفس الجامعة، عين أستاذاً مساعداً في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في قسم الدراسات الإسلامية، يعمل الآن مديراً عاماً لكليات البنات بـالمنطقة الشرقية، نترككم مع الدكتور ومع ضيفنا الكريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نأمل فضلاً جزاكم الله خيراً إغلاق الجوالات.
الدكتور سمير العمران: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات ربي وسلامه عليه.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك.
اللهم إنا نسألك قلباً خاشعاً، ولساناً صادقاً، ودعوةً مستجابة، وعملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين. وبعد:
أيها الأحبة في الله! لا يخفى عليكم ما للانفتاح العالمي الذي يشاهده ويلمسه كل ذي نظر وبصيرة، ما لذلك من آثار على كثير من الجوانب والقضايا إن لم نقل كلها، مما يعم أو يخص، ويظهر أو يخفى، ومن هذه القضايا مما ينبغي أن نعتني به كمسلمين على وجه العموم، وكمعنيين بأمور الدعوة والدعاة والعمل الدعوي على وجه الخصوص، أثر الانفتاح العالمي في الدعوة نظرةً استشرافيةً، وهو عنوان هذه المحاضرة في هذه الليلة المباركة.
والندوة العالمية للشباب الإسلامي لتشكر وتشكر ضيفها على إجابته هذه الدعوة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته وميزان حسناتنا أجمعين.
محاضرنا أيها الأحبة! وضيفنا علم من أعلام الأمة، بل جبل من جبالها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياه على الحق حتى نلقاه سبحانه وتعالى وهو راض عنا، هو الشيخ سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، من مواليد عام (1376) للهجرة، كان ميلاده في قرية البصر، وهي قرية صغيرة في ضواحي مدينة بريدة من منطقة القصيم، كانت نشأته في تلك القرية، ثم انتقل إلى الدراسة في بريدة، ودرس فيها سنتين من الدراسة الابتدائية، ثم التحق بعد ذلك بالمعهد العلمي في بريدة، وقضى فيه ست سنوات دراسية، كان المعهد آنذاك يضم نخبةً من فضلاء مشايخ البلد، منهم الشيخ صالح السكيتي، والشيخ علي الضالع، والشيخ صالح البليهي رحمهم الله جميعاً وأمثالهم كثير.
أتاحت له الدراسة فرصة الجلوس بين أيديهم، والأخذ من علمهم ومن أخلاقهم، واستفاد من ذلك، كما أن التحاقه بالمعهد أتاح له فرصة الاستفادة من مكتبة المعهد آنذاك، إذ كانت عامرةً بعدد كبير من الكتب.
حفظ عدداً من المتون، منها على سبيل المثال الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، ومتن الآجرومية في النحو، ومتن الرحبية في الفرائض، وكذا كتاب زاد المستقنع في الفقه الحنبلي، ولعلكم تعلمون أن هذا من أشهر متون الحنابلة وأكثرها مسائل، وقد قرأ جزءاً كبيراً من شرحه في المعهد العلمي، وقرأ شرحه على عدد من المشايخ منهم الشيخ صالح البليهي رحمه الله.
وكذا حفظ في المصطلح مختصر الحافظ ابن حجر المسمى بـنخبة الفكر، وحفظه كما ذكرت زمن الطلب، ودرسه لطلابه، وحفظه إياهم.
تتلمذ على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وكان يحضر عنده ويجالسه ويأخذ عنه، كما أن الشيخ رحمه الله سمع العديد من دروسه، وقرأ العديد من كتبه، وعلق وقرض كتاب العزلة والخلطة.
وكذا حضر دروس فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في الإجازات الصيفية وفي الجامعة، وكان بينهما لقاءات كثيرة ومراسلات، واستفاد من علم الشيخ وأدبه.
صدر له عدد من الكتب، منها: الغرباء الأولون، وصفة الغرباء، والعزلة والخلطة، وحوار مع الشيخ محمد الغزالي، ومن يملك حق الاجتهاد، وضوابط للدراسة الفقهية، ومجموعة كبيرة من الرسائل تناهز الخمسين رسالة، وهذه الرسائل أيها الأحبة موجودة في موقعه الإلكتروني islamtoday.net.
كما أن فضيلة الشيخ يقوم بالرد اليومي على أسئلة المسلمين عبر بريده الإلكتروني salman@aloadah.com ، والذي كتب من خلاله نحو عشرة آلاف رسالة، غالبها محفوظة في خزانة المراسلات في موقع الإسلام اليوم، ولعل الشيخ يأذن أن نخبر الإخوة أنه يجيب على الأسئلة من خلال هاتفه الجوال، ورقمه (054250250)، إضافةً إلى إعداده لمجموعة من مؤلفاته ومحاضراته وتجهيزها للطباعة والنشر، وقد صدر له أخيراً كتيب مقولات في فقه الموقف.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح عليه ليشنف آذاننا، فليتفضل مشكوراً.
وقفة مع تغير المجتمع الخليجي ثقافياً واجتماعياً
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزى الله الندوة العالمية للشباب الإسلامي والقائمين عليها كل خير على تيسير هذا اللقاء المبارك، واختيار هذا العنوان أيضاً، فقد كان هذا العنوان من بنات أفكارهم، وهذا ما حداني إلى أن أنظر فيه، وأبذل جهدي في الحديث عن أثر الانفتاح العالمي على الدعوة، في هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة (26) من شهر شعبان من سنة (1423) للهجرة.
وحول هذا الموضوع الكبير الواسع حاولت أن أطل إطلالات متنوعة متفرقة، أولها عبارة عن مقدمة.
بعد أعوام قليلة مقبلة سوف لن تجد الخليج داخل الخليج، وقد تضطر من أجل التعرف على هذه المنطقة إلى أن تفتح ألبوم الذكريات فقط، هذا ما قاله تقرير نشر في إحدى الصحف الكويتية، وإذا كان هذا التقرير يقدم هذه النتيجة الخطيرة فإنه لا يتحدث عن الخليج ككيان سياسي ولا كوجود جغرافي، وإنما يتحدث عن الخليج كوجود ثقافي واجتماعي، وربما نتحفظ على هذه الكلمة أو هذه النتيجة الخطيرة، ولكن يزول عجبنا حينما ندري أن المقصود بهذه الكلمة مجموعة من الظواهر السلبية التي أصبحت تنتشر كثيراً في منطقة الخليج العربي.
على سبيل المثال ما يتعلق بعادات اللباس التي اعتاد الخليجيون على لبسها؛ كالثوب والغترة والعقال أحياناً ونحوها، فإنك تجدها بدأت تزول من أوساط الشباب، ويحل محلها لباس الجينز، أو كما يسمونه الكاجوال أحياناً.
كذلك عادات الطعام، فإن الموائد الخليجية المعروفة التقليدية كادت أن تضعف في أوساط الشباب، واستبدلوا بها ألواناً من الوجبات السريعة أو البوفيهات المفتوحة ونحوها، ومثل ذلك ما يتعلق بالشراب أيضاً، فقد أصبحت المشروبات الغازية بألوانها جزءاً لا يتجزأ من حياة الشباب والصغار، ولا يستغنون عنها بحال من الأحوال.
وربما لو سرحت طرفك وأنت تسير في أحد الشوارع في الكويت، أو في مسقط، أو في الرياض لوجدت أن كثيراً من الشباب بسياراتهم الفارهة ذات اليمين وذات الشمال، وتسمع أصوات الموسيقى الصاخبة، وأصوات الأغاني الغربية، وتجد أنك كما يقول التقرير نفسه: تكاد أن تظن أنك في أحد شوارع فلوريدا؛ بسبب هذه الأغنيات الأجنبية، التي ربما لا يكون الشاب يفقه مدلولها أو معناها، وهؤلاء الشباب يرتدون ألواناً من الإكسسوارات الغربية والغريبة والعجيبة والمتوافقة مع هذا اللحن الصاخب، ولا تفاجأ أحياناً حينما تجد كلباً يطل برأسه من نافذة السيارة، وربما يطلع أو يخرج لسانه للمارة.
أما اللهجة فقد أصبحت عند طوائف من الشباب والصغار مزيجاً من اللهجة الخليجية المحلية واللغة الإنجليزية المكسرة.
أما على صعيد المعرفة والثقافة فربما بدأت الثقافة المحلية الواقعية بدأت تطل برأسها وتظهر، ولكن على خجل واستحياء بعدما قطعت الثقافة المنافسة شوطاً بعيداً وتقدمت في ذلك المضمار.
إن الحديث عن هذه النماذج التي نراها للشباب -كما يقول ذلك التقرير- لا يخلو من المبالغة، لكن يجب علينا أن ندق نواقيس الخطر، وفي هذا السبيل فلا حرج في نظري من تقبل هذه المبالغة أو هذه المجازفة باعتبار أنها تلفت أنظارنا إلى ظواهر خطيرة بدأت تنتشر في مجتمعنا.
المتغيرات في حياتنا
ثانياً: المتغيرات.
المتغيرات جزء من طبيعة الحياة البشرية
المتغيرات جزء من طبيعة الحياة البشرية؛ أنه لا استقرار لهذه الدار، ومن الأبيات المشهورة التي قالها بعض المسلمين لما سقطت الأندلس، ومني المسلمون بتلك الهزيمة النكراء:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
فهذه سنة الله تبارك وتعالى في العباد.
يرشد إلى ذلك القرآن الكريم في الكثير من نصوصه، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الأنفال:53]، ويقول سبحانه: ((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ))[الرعد:11].
إذاً في الخير والشر يقع التغير، ويقع التبدل، وهذه الحياة البشرية في هذه الدنيا فيها ارتفاع وانخفاض، وعلو وسفل، وقوة وضعف، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وهذا من معاني قول الله تبارك وتعالى: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، من شأنه أن يفقر أقواماً، ويغني آخرين، ويرفع هذا، ويضع ذاك، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، فهو المتصرف في الأمر سبحانه، حتى قال الله تعالى عن الجنة وأهلها: ((خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا))[الكهف:108]؛ لأن أمر الجنة مختلف عن مقاييس هذه الدنيا وقوانينها ومعاييرها، ولهذا أهل الجنة راضون قارون فيما هم فيه، ((لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا))[الكهف:108]، أما أهل الدنيا فهم في تحول مستمر لا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال.
ولذلك فإن وتيرة المتغيرات من حيث الأصل ثابتة في الحياة البشرية، ولكنها تتفاوت في قوتها وضعفها، في تسارعها أو بطئها، وتتفاوت أيضاً في حجم تأثيرها، ففي بعض الدول وفي بعض المراحل التاريخية ربما تقطع البشرية فترةً طويلة جداً وهي في مرحلة معينة، كما يتحدثون مثلاً عن مرحلة الصيد، أو مرحلة الرعي، لكن في حالات أخرى يصبح التسارع في الحياة البشرية سريعاً جداً، ربما يقاس لا أقول: بالسنة، وإنما بالشهر وأحياناً بالأسبوع أو باليوم، وربما بالساعة أو الدقيقة، فنحن في كل لحظة الآن نشهد اختراعاً جديداً واكتشافاً جديداً وتطوراً سواءً في مجال الإنترنت، أو في مجال الكمبيوتر، أو في مجال الحياة البشرية كلها.
اختلاف حجم التغيرات
كما أن حجم هذه المتغيرات يختلف في ضخامته وتأثيره.
الله سبحانه وتعالى يشير كثيراً إلى هذا المعنى في القرآن الكريم: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ))[السجدة:27]، ((أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ))[الأنبياء:44]، ((أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ))[يس:77].
إذاً الإنسان بمفرده والحياة البشرية تمر بهذه التطورات وهذه التغيرات.
أنواع التغيرات
يبدو لي أن هذه التغيرات ينبغي أن يلاحظ أنها تنقسم إلى ضربين:
الضرب الأول: تغيير إيجابي يعمله الإنسان بجهده، ويستفرغ فيه طاقته، فيحاول الإنسان أن يسعى إلى مستوى أفضل مما هو فيه، سواءً في طاعته لله سبحانه وتعالى والتزامه بأمره، أو فيما يتعلق بمصالحه الدنيوية التي جاءت الشريعة بحفظها وصيانتها، فهذا اللون من التغيير تغيير إيرادي يقع بإرادة الإنسان أولاً الذي حاول هذا الشيء، ثم يوفقه الله سبحانه وتعالى ويأذن له بذلك.
فهذا اللون من التغيير يقع بجهد الإنسان ومشيئته الخاضعة لمشيئة الله تعالى، ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29].
النوع الثاني: هو التغيير القسري القهري الذي يجري نتيجةً لمقدمات وأسباب فرط فيها الناس، فابتلوا نتيجةً لذلك ببلاوي في أنفسهم أو أموالهم، ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ))[الروم:41].
ولهذا أقول: إن على الذين يتكلمون عن المتغيرات وعن الانفتاح الدولي، وهم يترقبون أن هذا الانفتاح وهذه المتغيرات سوف تأتيهم بما يطلبون وما يحلمون من الإصلاح، من العدل، من الفرص، إن على هؤلاء أن يعيدوا النظر فيما يظنون، وأنهم إذا لم يبذلوا لذلك الأسباب فلن يحصلوا على هذه النتيجة.
يجب أن نقول: إنه في أسوأ الظروف يمكن للإنسان الجاد أن يعمل عملاً ناجحاً إذا توفرت عنده الإرادة الصادقة، وتدرع بالأسباب الصحيحة، وأن نقول أيضاً: إنه في أحسن الظروف، فإنه لن يحصل الإنسان على شيء إذا اقتصر على مجرد الانتظار أو التمني.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
الوعي في حياة الناس
النقطة الثالثة: الوعي.
توقف الوعي
قد يتغير حول الإنسان أشياء كثيرة وهو لا يشعر، وهذا يمكن أن نعبر عنه اصطلاحاً بتوقف الوعي.
ولا زلت أذكر شيخنا الذي ذكره أخي المقدم الدكتور سمير؛ شيخنا الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله، وكان مربياً ومؤدباً ومعلماً، فكثيراً ما كان يداعبنا ويضحك ويقول: مثلكم يا أولادي كمثل رجل قد جرفه السيل، وذهب به الوادي، وهو ينظر إلى السماء ويقول: ما شاء الله تبارك الله، اليوم غيم.
فـهذا يشير إلى قضية أن كثيراً من الناس يغيبون عن الواقع، ويخلطون بين ما يتمنونه وبين ما يعايشونه، وقد يرون في تجاهل بعض الأوضاع سلواناً لأنفسهم، كالذي يغمض عينيه ثم يتخيل الأشياء كما يريد.
التربية على الوعي بالمتغيرات
في فترة مبكرة من العهد المكي نجد أن الله سبحانه وتعالى ينزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سورة الروم: ((أَلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ))[الروم:1-5].
هذه الآية الكريمة التي ذكر الله تعالى فيها حادثاً بشرياً في غلبة الروم، وهم أهل كتاب، وهزيمتهم أمام الفرس الذين كانوا وثنيين لا كتاب لهم، فيذكر الله سبحانه وتعالى هذا المعنى.
هذا حديث مبكر في العهد المدني يتكلم عن صميم المتغيرات الدولية، ودعوة إلى الوعي بأبعاد هذه التوازنات بين القوتين العظميين آنذاك فارس والروم.
إن المسلمين حين ذاك كانوا يخافون على أنفسهم، ولم يكن لهم من الأمر شيء، ولا كان لهم دولة، ولا صولة، ولا قوة، ولكن الله تعالى كان يربيهم بالوعي بالمتغيرات وإدراكها، ومعرفة هذه التوازنات، وهذا يحتمل أكثر من معنى:
يحتمل أولاً أن المسلمين حزنوا لهزيمة الروم، وهم أهل كتاب، وهم بالتالي أقرب إلى المسلمين من الفرس، فالله سبحانه وتعالى سلى المسلمين بأن الأمر سوف يعود لصالح الروم، وسوف ينتصرون على الفرس.
ويحتمل معنىً آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى يشير للمسلمين إلى أنه سوف ينتصر الروم، وسوف تكون العاقبة للمسلمين، وأياً ما كان الأمر فإن هذا هو الذي وقع تاريخياً، فـإن الله تعالى أعاد الكرة للروم، وانتصروا على الفرس، وصادف هذا الانتصار يوم معركة بدر الكبرى، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، ففرح المسلمون بنصر الله ينصر من يشاء، كما فرحوا بانتصار الأمم الكتابية على الأمم الوثنية.
وأياً ما كان هذا المعنى ففيه تربية كبيرة للمؤمنين، وتعليم لهم على أن يكون لديهم وعي بالمتغيرات.
نعم، لقد كان ذلك إخباراً بالغيب، إلا أنه توجيه للوعي البشري للتفكير في أمر المستقبل، وليصير المسلم حينما يشهد الأحداث من حوله يدرك أن الحكمة تستدعي أن يكون متحسباً لهذه الأحداث؛ حمايةً لدينه ومصلحته ومصيره ومصير دعوته ومصير أمته، ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلف ويراهن كفار قريش على أن الدائرة سوف تكون للروم على الفرس، وهكذا كان، وكسب أبو بكر رضي الله عنه الرهان.
وليس من الصدفة أن الآية الكريمة في سورة الروم نفسها التي يقول الله تعالى فيها: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))[الروم:9]، والآية الأخرى التي ذكرناها قبل قليل: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ))[الروم:41]، والآية التي بعدها: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ))[الروم:42].
إذاً هذا المعنى يتكرر كثيراً في القرآن الكريم، دعوة الناس إلى أن ينظروا، وأن يتأملوا، وأن يدركوا، وأن يستقرئوا السنن الربانية التي بموجبها تقع الأحداث، سواءً كانت أحداثاً تتعلق بحياة البشر، أو كانت أحداثاً تتعلق بالطبيعة نصراً أو هزيمة، قحطاً أو جدباً، أو ما أشبه ذلك، المهم أن يدرك الناس أن هذه الأشياء كلها تتم وفق نواميس وسنن ربانية عليهم أن يستقرئوها ويدركوها، وأن يعملوا وفقها.
إنها دعوة إلى الاستقراء العلمي التجريبي، واستجلاء النواميس والسنن، والاعتبار بها، وبقراءة الماضي نستطيع أن نقرأ المستقبل، وأن نعد له الإعداد الصحيح.
فـالقواعد والمنطلقات التي تحكم التاريخ هي التي تحكم الحاضر، وهي التي تؤسس للمستقبل، ولا بد من استحضارها خاصةً في المنعطفات التاريخية والأزمات الضخمة كالأزمات التي يعيشها المسلمون اليوم.
إقامة منهج يقوم على الوعي والرصد
الآية الكريمة إذاً ليست إشارةً لواقعة خاصة تاريخية مضت وانتهت، ولكنها تأسيس لمنهج يقوم على الوعي وعلى الرصد وعلى الاستقراء.
وبنفس الشعور الذي كان لدى المسلمين الأولين فإن المسلم اليوم قد يشعر بشيء من اليأس والقنوط والإحباط والقلق من تفوق الآلة الغربية، سواء كانت فيما يتعلق بآلتهم العسكرية أو الإعلامية، أو ما يترتب على ذلك من تفوقهم في الجوانب الاقتصادية وغيرها، أو شعور المسلم بأن الأمة الإسلامية وأن العالم الإسلامي أصبح هدفاً لهذه المتغيرات، وأن الإعلام العالمي يكاد أن يرشح المسلمين اليوم، أو يرشح دين الإسلام نفسه أيضاً ليكون هو العدو المرتقب دون أن يكون للإسلام أو المسلمين حليف أو نصير، فهل الأمر كذلك؟ وهل هي ضربة لازب؟ كلا، علينا أن ندرك تماماً أن ثمة شروطاً وأسباباً إذا عملنا بها حصلنا على المراد، والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
هذه المتغيرات الدولية التي نعيشها اليوم بما فيها من جوانب سيئة، إلا أنه يجب علينا أن ندرك أنها لا تخلو من مداخل وثغرات، ويمكن توظيفها بشكل جيد وإيجابي لصالح الأمة، ولصالح الدعوة.
إن القدرات الذاتية للأمة والدعوة هي الفيصل الحاسم في أي تغيير أو تطوير أو تحسين، وإن المتغيرات الدولية كلها هي عوامل مساعدة، أو قل: عوامل معاندة، ولكن حتى حينما تكون عوامل مساعدة فإن الذي لا يساعد نفسه لا يمكن أن يساعده أحد، والذي لا يستطيع أن يقوم فهو ليس بحاجة إلى كبير مواجهة من عدوه للقضاء عليه.
خطورة النظرة الشمولية لمستقبل الإسلام
أيها الأحبة! من الخطر أن ننظر للمستقبل الإسلامي نظرةً شمولية، فإننا حينما نتكلم عن كلمة المستقبل لهذا الدين، أو نسمع محاضرة أو نقرأ كتاباً، أو ندير حديثاً بيننا حول هذا الموضوع يخيل إلينا أن مستقبل الإسلام إنما يتحقق بصعود قوىً عظمى تمثل الإسلام، وهبوط قوىً عظمى تعاند الإسلام كقوة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أو غيرها من القوى الشرقية أو الغربية.
وكأن تحقيق مصلحة الإسلام لا يمكن أن يتحقق ويتم إلا من خلال هذه الصورة التي ربما تكون بعيدة، وربما تحتاج إلى مجاهدة، وإلى صبر، وإلى سنين، وإلى ربما فترة طويلة من العمر، والله تعالى أعلم متى وأين وكيف وهل.
لكن علينا أن ندرك أن الآية الكريمة السابقة آية سورة الروم تنبهنا إلى معنىً تربوي مهم وهو النظرة التفصيلية وأيضاً النظرة التفضيلية.
أما النظرة التفضيلية، فأعني بها أن المسلمين من شأنهم أن ينظروا في مجريات الأحداث، ويدركوا أنها وإن كانت كلها قد تكون شراً أحياناً، إلا أنه كما قيل: حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وأن المسلمين عليهم أن يكون لهم مواقف، ولهم نضج، ولهم رسوخ في بعض هذه الأحداث الدولية، وإن لم يكونوا طرفاً مباشراً فيها.
أما ما يتعلق بالنظرة التفصيلية، فأعني بها أن ندرك أن مستقبل الإسلام إنما يتم ويتحقق من خلال المجهود البشري الذي نقوم به، ومن خلال الأعمال والإنجازات المحدودة التي يمارسها فرد أو جماعة أو طائفة.
بإمكاني مثلاً أن أنظر إلى هذا المؤتمر الطيب لمدة ثلاثة أيام، والذي حشد له عدد كبير من الوجهاء والدعاة وأكابر أهل العلم والدعوة في العالم الإسلامي، فأعتبر أن هذا نوع من النجاح، ونوع من صناعة المستقبل لهذا الدين.
وبإمكاني أن أنظر إلى مؤسسة أو مدرسة أو جامعة أو كتاب أو شريط أو معهد أو حتى شخص أو مسلم جديد، أو مهتدي جديد كان ضالاً أو كان كافراً، أن أنظر إلى أننا بهذه الأعمال نصنع ونبني مستقبل الإسلام، بل وأكثر من ذلك حتى حينما أنظر إلى أمر يتحقق في مجال الاقتصاد مثلاً، أو في مجال التعليم، أو في مجال الأمور الدنيوية البحتة، إذا كان هذا الأمر يتحقق وفق معايير وأطر صحيحة أن هذا جزء من صناعة المستقبل لهذا الدين.
إن القوى العظمى أيها الأحبة لا تهبط فجأة، وأيضاً القوى العظمى لا تمشي إلى الواقع وإلى المنصة بسرعة الصاروخ.
قال لي أحد الشباب يوماً: رأيت رؤيا، وسألت المعبرين عنها، فقالوا: أمريكا تسقط بعد شهرين، فقلت له: سبحان الله! لو كانت أمريكا طائرة لكان هذا التأويل والتعبير صحيحاً، فالطائرة من الممكن أن تسقط خلال ثوانٍ، أما دول وقوى وإمبراطوريات لها رسوخ ولها تمكين، فإن هذه لا يمكن أن يتخيل فيها مثل هذا، ثم هب أن هذه القوة أو تلك سقطت وتهاوت بهذه المدة أو أقل منها أو أكثر، دعنا ننظر هل يوجد فينا في ذواتنا نحن المسلمين من القوة والقدرة والتطوير ما يجعلنا سوف نستقل بأمرنا، أم إننا سوف نبقى في انتظار طرف آخر يكون له نوع من النفوذ، وله نوع من التأثير، وربما يكون مثل تلك القوة أو أقل منها أو شراً منها.
إنه ما لم يكن لدينا قدرة على بناء الذات، وعلى تطويرها أفراداً، أو جماعات، أو شعوباً، أو مؤسسات، أو دولاً، فإنه علينا ألا نطمع بكبير تغيير على هذا المستوى.
الانفتاح في واقع الناس
الفقرة الرابعة: الانفتاح.
مصطلح الانفتاح
الانفتاح -كما هو واضح من عنوان هذه المحاضرة- يطلق على الخير والشر، وفي القرآن الكريم تجد أنه يستخدم لهذا وذاك، كما في قول الله تعالى مثلاً: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا))[الفتح:1]، ((نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))[الصف:13]، ((فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا))[الشعراء:118]، وقد يستخدم في ضد ذلك، كما في قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ))[المؤمنون:77]، أو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه).
إذاً كلمة الفتح أو كلمة الانفتاح نستطيع أن نقول عنها: إنها كلمة محايدة، مصطلح لا يعطي معنى، لا يدل على تأييد لهذا الانفتاح، ولا على اعتراض عليه، ولكنه يؤكد حقيقةً مهمة، وهي أن العالم يشهد انفتاحاً إعلامياً واقتصادياً وسياسياً لا يمكن المجادلة حوله.
ظهور الانفتاح واندفاعه
هذا الانفتاح كان مندفعاً ضمن تيار العولمة كما يسمى، أو النظام الدولي الجديد الذي بشرت به الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في حرب الخليج الثانية، بعد الحرب الباردة كما يقال، غير أن أحداث (11) سبتمبر ربما شوشت وعكرت على هذا الانفتاح، خصوصاً فيما يتعلق بالانفتاح على الحركات الإسلامية، وما يتعلق بالانفتاح السياسي.
لكن يبقى من المؤكد أن وسائل الانفتاح كالقنوات الفضائية مثلاً، أو الإنترنت، أو وسائل الاتصال، أنها لا تزال فعالةً وقائمة، بل في نمو وازدياد مطّرد.
إن حركة دمج العالم، أو العولمة -القولبة كما تسمى- هي موجودة عبر العصور، أو محاولتها موجودة عبر العصور بشكل أو آخر، ولكنها أخذت تتسارع الآن وتيرتها خلال التسعينات وإلى اليوم بشكل خاص، واستمدت هذه السرعة من الثورة العلمية والتكنولوجيا والتطورات المدهشة في وسائل الاتصال، وفي المعلومات التي تقود الطريق إلى المستقبل.
هناك في هذه اللحظة -كما يقول توفلر صاحب صدمة المستقبل: في هذه اللحظة هناك لحظة مليئة بالفرص، ومليئة بالمخاطر، ومليئة بالاحتمالات، وكل فئة ربما تنظر إلى جانب واحد من هذه الجوانب الثلاثة: الفرص، والمخاطر، والاحتمالات.
اختزال العولمة والموقف منها
إنه لا يمكن اختزال العولمة بسرد مجموعة من السلبيات ربما نتحدث عنها مثلاً، وغالبها مما يضر بقوى الدول الضعيفة، العالم الثالث، الدول النامية على الصعيد الاقتصادي، أو الإعلامي، أو الثقافي، باعتبار أنه غير قادر على المواجهة وعلى المقاومة وعلى المنافسة.
كما أنه لا يمكن أيضاً تلخيص العولمة بإيجابياتها والمبالغة في ذلك، المهم هو أن نستطيع أن نشخصها، وأن نوازن بين ما لها وما عليها.
هناك الموقف الرافض- وهذا كثير- الذي يرفض العولمة، وعلى سبيل المثال كتاب فخ العولمة، وهو كتاب ألماني ربما يحكي عن الاتجاهات اليسارية الرافضة للعولمة، أو كتاب ضد العولمة، أو كتاب عولمة أم أمركة، إلى غير ذلك من العناوين التي تدل على اتجاه أول ينحو إلى رفض العولمة باعتبارها خطراً يهدد العالم الإسلامي.
هناك اتجاه آخر يبالغ في التبشير بمحاسنها واستثماراتها والمعرفة المترتبة من جرائها، ويبشر بالنعيم الموعود أو الجنة المزعومة من ورائها، وهذا أيضاً ضرب من الخيال.
المهم هو إدراك أن هذا الأمر واقع، وأنه سواءً قبلنا أو رفضنا، إلا أن علينا أن نتساءل: ما مدى قدرتنا على مواجهة هذه التحديات، وعلى استثمارها أو دفع شرها عن الشعوب الإسلامية؟
إن العالم بدون شك يسير باتجاه إلغاء الحدود والفواصل القائمة بين الأفراد والمجتمعات والثقافات والدول، والعولمة ليست بالضرورة إلغاءً لخصوصية شعب بعينه أو أمة بعينها، وذاته الداخلية، ولكنها إلغاء للحدود بين الأشياء المحلية وبين الأشياء العالمية.
إن العولمة عبارة عن دخول في منافسة شديدة بين الأمور العالمية وبين القضايا المحلية، سواءً كانت اقتصاداً أو ثقافةً أو إعلاماً أو غير ذلك.
فهل لدينا القدرة على المنافسة؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه.
من المدهش مثلاً أن يتمكن أكثر من ثلاثة مليارات فرد، أي: 50% تقريباً من سكان الكرة الأرضية، أن يتابعوا حدثاً عالمياً ربما في معياري ومعيارك تافهاً، ألا وهو مباريات كأس العالم، إن هذا أمر يؤشر فعلاً على أن العولمة قطعت شوطاً كبيراً ووسائلها وأدواتها في التواصل بين العالم، وإمكانية حشد الناس، أو تقريب وجهات نظرهم واهتماماتهم حول قضايا معينة.
حلول لمواجهة الانفتاح والعولمة
والذي يكتب الحل بالضرورة لا يلزم أن يكون هو الذي يملك الحل، فـكثيرون من الإسلاميين أو الدعاة أو العلماء قد يطرحون حلولاً للعالم الإسلامي تجاه هذه العولمة، لكن يبقى السؤال المعلق: من الذي يستطيع أن ينفذ هذه الحلول؟ ومن يستطيع أن يقوم بها؟ ومن يحولها من كتابة على ورق أو تنظير إلى واقع عملي، ولو كان هذا الواقع صغيراً ومتواضعاً.
إن ثمة حلولاً كثيرة.
والإسلام نفسه له عولمته الخاصة: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107]، ((إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ))[يوسف:104]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (بعثت إلى الناس كافة)، ولكن تحويل هذا النمط الشرعي وهذا النظام العام الإسلامي إلى حلول واقعية على الأقل تحمي المسلمين، أو حتى نكون أكثر واقعية تحمي بعض مكاسب المسلمين، وتقلل من خسائرهم، هذا هو الأمر الذي يحتاج إلى نظر.
أولاً: المحافظة على الثوابت الشرعية والأخلاقية لهذه الأمة، هذه من أهم القضايا التي يجب السعي إليها.
ثانياً: بناء التكتلات الاقتصادية، سواءً تكتلات دول، أو شركات ضخمة تستطيع أن تواجه ما يسمى بالشركات العابرة للقارات والاقتصاد الغربي القوي، الذي ربما تكون الشركة رأس مالها أحياناً مائة مليار دولار أو أكثر، ومع ذلك تتحالف مع شركات أخرى ليصبح رأس المال أحياناً أضعاف ذلك.
الأمر الثالث: الاستفادة من آليات التحديث المعاصرة، ومن تجاربه ووسائله، الاستفادة من التكنولوجيا ومن المعارف ومن المعلومات التي أصبحت متاحةً للناس اليوم.
الأمر الرابع: الاستجابة للتحديات المستقبلية، واستخدام الأساليب الذكية من أجل الاستفادة من العولمة؛ فإن كل أزمة فهي في الوقت نفسه فرصة إذا أحسن الناس استخدامها.
الأمر الخامس: توفير مناخ الحريات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومراعاة المبادي التي تتلاقى مع الثوابت الشرعية، وسوف أشير إلى هذه النقطة بعد قليل.
السادس: تحديث أنماط التفكير والنظر التي تحكم الفرد والمجتمع والجماعة في العالم الإسلامي، وتربية الناس على الرؤية الصادقة المعتدلة مع إتاحة الفرصة للتعددية في الرأي إذا كانت ضمن إطار الشريعة.
والأمر السابع: إزالة الحدود الخاصة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسلامية.
إنه من المدهش ونحن نعيش في عصر العولمة أن تجد أن كثيراً من الأفراد المسلمين ربما بنى أحدهم حول نفسه سوراً، وأصبح غير قادر على التواصل مع إخوانه ومع أقرب الناس إليه، وعلى افتعال ألوان الخصومة في قضايا ربما تكون ثانوية أو في الدرجة الثالثة، وربما لا تكون قضايا شرعية أصلاً، فمتى نستطيع أن نتخلص نحن من خصوصياتنا الفردية، أو خصوصية الجماعة أو الحزب، أو خصوصية الطائفة، أو خصوصية الشعب؛ لنعيش في بحبوحة الانتماء الشريف الراقي لهذه الأمة التي ميزها الله تعالى واختارها واصطفاها، ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:92]، ((وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ))[المؤمنون:52].
فضاء الإنترنت الواسع
خامساً: الإنترنت.
الإنترنت هو أحد أدوات هذا الانفتاح، ولكنه أداة ضخمة.
إحصائيات عن استخدام الإنترنت
إن (10%) من سكان العالم مرتبطون اليوم بالإنترنت، أي: ما قدره أكثر من خمسمائة وثمانين مليون إنسان هم على علاقة مباشرة مع الإنترنت، دعك من الأشخاص الذين يتصلون بها بشكل غير مباشر عن طريق الآخرين، ويتوقع أنه خلال بضع سنوات في عام (2005م) أن يصل عدد المرتبطين بهذه الشبكة إلى مليار مستخدم.
عدد الصفحات في هذه الشبكة أربعمائة وأربعون مليون صفحة، وسوف يتوقع أن يزداد إلى ثمان مليارات صفحة عام (2002م).
(85%) تقريباً في الولايات المتحدة الأمريكية من مستخدمي هذه الشبكة يستخدمونها لأغراض غير جيدة غالبها مشاهدات جنسية، أو دخول إلى مواقع جنسية، أو محادثات غير صافية.
الاستخبارات الأمريكية الـ (fbi) تقول: إن تجارة الدعارة تعتبر ثالث مصدر على الشبكة الإلكترونية للجريمة المنظمة بعد المخدرات وبعد تجارة القمار، وبأيدي تجار الدعارة (85%) من أرباح المجلات والأفلام الإباحية وغيرها.
هذا فيما يتعلق بالإنترنت كأداة، ولا نريد أن نتحدث عن تاريخها.
حجم المواقع العربية والإسلامية في الإنترنت
ولكن دعونا أن نسأل: أين الوجود العربي والإسلامي في هذه الأداة؟
المواقع العربية والإسلامية على الإنترنت لا تتجاوز (0.5 %).
في المملكة دخلت الإنترنت عام (1419هـ)، وكانت في البداية في مستشفى الملك فيصل التخصصي، ثم تم تعميمها بعد ذلك.
هناك إحصائيات تؤكد أن غالبية الدخول على المواقع في المملكة أن غالبية الدخول على مواقع جنسية، أو على مواقع يسمونها الترفيه أو اللهو البريء كمواقع الأغاني ونحوها.
ومدينة الملك عبد العزيز وهي تقوم بجهود طيبة في مراقبة هذه الشبكة، وحجب بعض المواقع السيئة، إلا أنها تصدر أيضاً تقريراً وإحصائية عن حجم الدخول بشكل منتظم شهري ربما، وكلما قرأت هذا التقرير شعرت بأننا بحاجة إلى مزيد من الجهد.
نعم هناك دخول على المواقع العربية والإسلامية جيد، وهناك اهتمام راقٍ، ولكن مع ذلك تظل المواقع السيئة هي أكثر المواقع دخولاً، علماً أن المدينة لا تستطيع أن تعمل إحصائيات لمن يدخلون المواقع السيئة باعتبارهم يدخلون بطريقة غير شرعية، كما يقال: عن طريق كسر البروكسي، وتجاوز المدينة بكاملها.
تأثير الإنترنت على الأسر والمجتمعات
نجد فيما يتعلق بتأثير هذه الشبكة على الأسر وعلى المجتمعات أن (80%) من النساء تشتكي من تأثير سلبي لهذه الشبكة على العلاقة مع الأزواج، وأن (50%) يشكون من فقدان التواصل بين الأسرة بسبب الانشغال.
ومن الطرائف والنكت أحياناً أنه في بعض الكاريكاتيرات الأم إذا جهزت الغداء ترسل بريداً إلكترونياً لولدها المنعزل في غرفته حتى يأتي لتناول طعام الغداء.
عدد المستخدمين في السعودية خمسمائة وسبعون ألفاً مستخدم حسب آخر إحصائية.
يبقى أن أشير إلى أن نصف شريحة المجتمع السعودي هم من الشباب، ربما أعمارهم في الخامسة عشرة، يعني: المجتمع السعودي ينقسم إلى قسمين: (50%) من المجتمع السعودي من الكبار، و(50%) هم من الشباب وربما دون العشرين، هذا على سبيل العموم، وبطبيعة الحال إذا تخيلنا هذا فإن غالبية الذين يدخلون على الإنترنت، أو يتعاملون معه هم من هذه الفئة العمرية الصغيرة.
مرتكزات الإنترنت
الإنترنت يركز على الأشياء الثلاث، ما يسمونها بالمحرمات الثلاث: الدين، والسياسة، والجنس.
أما فيما يتعلق بالدين فهناك بطبيعة الحال مواقع إسلامية جيدة، سواءً كانت من داخل المملكة أم من الخليج أم مواقع في بلاد الغرب، ومواقع شخصية ومواقع عامة، وهذه تحظى باهتمام جيد ولا بأس به، وإن لم يكن محصوراً في هذا البلد ولكن على المستوى الإسلامي العام.
ولكن في المقابل فإنك تجد أن الإنترنت فتحت مجالاً خصباً وخطيراً بالتأثرات الدينية، نحن نجد أن ثمة مواقع مثلاً، ولا بأس بالتسمية: الحوارات في موقع إيلاف، أو الحوارات في موقع طوى تنحو منحىً خطيراً يشكك في وجود الله تبارك وتعالى، وأكثر من هذا أنه يتبنى في بعض المواقع الإلحاد الصريح، وفي أحيان كثيرة ليس الإلحاد فقط، بل النيل من ذات الله تبارك وتعالى، وبطريقة فظة قذرة، أعتقد أنه لا يوجد أي نظام في العالم يمكن أن يسمح بها، نعم والحمد لله تم حجب ما يتعلق بهذه الحوارات، ولكني وجدت أن ثمة موقعاً آخر بل مواقع ورثت هذا الأمر، وأصبحت تجد شباباً وفتيات يتكلمون في قضايا إلحادية وبطريقة في غاية البذاءة والفحش وقلة الأدب، حتى لو أن إنساناً تكلم عن زميله أو صديقه أو عن عدوه بمثل هذه الطريقة لكان مرفوضاً مرذولاً، فكيف وهو يتكلم عن رب العالمين وأرحم الراحمين!
فهذا نوع من النمط الذي يؤثر على عقليات الشباب وتربيتهم وتأثيرهم.
زد على ذلك إمكانية الاطلاع على كثير من المواقع النصرانية مثلاً، أو مواقع الفئات المنحرفة التي أوجدت عند فئات من الشباب ألواناً من الريب، وألوناً من الشك، وقد أصبحت أتلقى في فترة أخيرة ربما من سنة وأكثر من ذلك أسئلة جادة من شباب مخلصين وصادقين، ولكنهم يبحثون عن شفاء لشبهات وقرت في قلوبهم، ولم يجدوا منها مخلصاً.
أما فيما يتعلق بالجانب الثاني وهو الجانب السياسي فهناك مواقع أيضاً إخبارية محترمة ولها اعتبار ومصداقية.
وفي المقابل هناك مواقع حوارات كثيرة ربما تنحو منحى شخصي أو منحى كما يعبرون فضائحي، ومثل هذه الأشياء ربما تشبع لدى كثير من الشباب طموحاً أو رغبةً معينة، وربما يجدون فيها قضية أن كل ممنوع مرغوب، خصوصاً وأن الشباب في منطقة الخليج العربي في مثل هذه القضايا ربما لم يتعودوا أن يسمعوها أو يتحدثوا عنها.
وفي تقديري أن هذه القضية وإن كانت قضية سلبية؛ لأن التربية على الحوار الناضج والصادق والمعتدل لا بد منه سواءً كان في المجال الشرعي أو الديني أو في المجال السياسي، أو في أي مجال آخر.
يجب أن يتربى الشباب على روح الحوار المتعقل، وعلى اللغة الراقية البعيدة عن الانحطاط في اللفظ أو المعنى، لكن مع ذلك ربما نقول على سبيل التفاؤل: إن هذا المجال على ما فيه إلا أنه ربما يستطيع أن يستخرج من الشباب أو ينفس بعض ما في صدورهم، وبالتالي قد نفلح فيما بعد في تحويلهم إلى أناس أكثر هدوءاً وأكثر وعياً وأكثر اعتدالاً وأكثر قابليةً للحوار.
الموضوع الثالث هو موضوع الجنس، وإذا كان في الولايات المتحدة الأمريكية التي تحظى بقدر كبير جداً من الانفتاح الجنسي، وهناك (80%) ممن يستخدمون هذه الشبكة يدخلون على مواقع إباحية أو مواقع جنسية، فكيف تتوقع في بلاد عربية وإسلامية وبلاد أحياناً محافظة، لا شك أن الرقم هو ذاته، وكثير من التقارير والإحصائيات التي قرأتها عن منتديات الإنترنت مثلاً الرجالية أو النسائية، أو عن الشباب، أو حتى عن الدخول الشخصي، تؤكد أن هناك عدداً كبيراً من الشباب يدخلون في هذه المواقع ربما في البداية بدافع الفضول وحب الاستطلاع، ويتطور الأمر إلى أن يتحول إلى نوع من الإدمان، واكتساب العادات السيئة.
عملت استبياناً أو استطلاعاً لمائة من شباب الدعوة، وسألتهم عن إمكانية استخدام الدعوة للإنترنت ومدى تحفظهم على ذلك، فوجدت أن هناك إطباقاً وإجماعاً على وجوب استخدام هذه القناة وهذه الشبكة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى أنه لا بأس أن تستخدم أيضاً في بعض الأمور المباحة التي ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم.
انتشار القنوات الفضائية
أما المتغير أو الأداة الثانية فهي القنوات الفضائية.
واقع القنوات الفضائية
وهناك في العالم ربما أكثر من خمسمائة قناة فضائية، هذه عامة، فضلاً عن القنوات الكثيرة المشفرة، وربما يومياً تجد حزماً من هذه القنوات التي يتحدث الناس عنها (showtime) مثلاً، الأوائل، (orbit)، (a.r.t.).. إلى غير ذلك مما لا يأتي عليه العد والحصر، وهي تشمل مناشط الحياة المختلفة من الأمور الترفيهية، إلى الرياضة، إلى اللهو، إلى التسلية، إلى الدعوة، إلى التعليم، إلى الدعاية، إلى الطب، إلى أشياء كثيرة جداً.
دول الخليج من الناحية التقليدية تعتبر إلى حد ما موحدة في الرأي السياسي وفي الرأي الاجتماعي، حتى جاء البث الفضائي فبدأت الآراء تختلف، وبدأ الناس يعيدون نظرهم في كثير من مسلماتهم.
أيام ضرب العراق .. أيام ضرب بغداد من قبل التحالف الدولي شاهد هذه الأحداث خمسمائة مليون إنسان، يعني: نصف مليار إنسان شاهدوا هذه الأحداث على القناة الأمريكية الـ (cnn)، وبعد ذلك أصبحت القنوات الأخرى تشترك في هذا الأمر، وتقتسم هذا القدر الكبير من المشاهدين، قناة الجزيرة مثلاً، أو قناة الـ mbc أو غيرها، قنوات للجد، وقنوات للهزل، وكثير منها تستحوذ على أعداد كبيرة من المشاهدين، فخلال ضرب أفغانستان مثلاً حظيت قناة الجزيرة بنصيب الأسد من المشاهدين والمتابعين.
نوعية البرامج المقدمة في القنوات الفضائية
هناك في هذه القنوات:
أولاً: الحوارات المفتوحة بدون قيود، والتي يستمع إليها الإنسان، فيستمع إلى كل شيء، وربما كانت قناة الجزيرة تصلح نموذجاً لذلك، فهذه القناة ذات طابع سجالي سياسي ساخن، وهي عبر برامجها الحوارية، وعبر نشراتها أيضاً وأسلوب العرض الإخباري، والبث المباشر الذي تستقبل فيه مكالمات من المشاهدين، وعبر استضافتها لشخصيات كثيرة مثيرة للجدل استطاعت أن تستقطب اهتمام المشاهد الخليجي، وأن تكسبه لجانبها؛ وذلك لما وجده فيها من متنفس وحرية نسبية يفتقده لجزء أكثر مما كان عليه، وجعل اهتمامات الناس أكثر سعةً وأكثر وعياً، ويظهر هذا في طبيعة الاتصالات التي يجريها المشاهدون مع هذه القناة، وما يتداوله الناس أيضاً في مجالسهم وأحاديثهم الخاصة وما بات يكتب وينشر، إضافة إلى الجدل الطويل في الصحافة العربية في مصر، والأردن، والسعودية، والكويت، حول قناة الجزيرة وأهدافها، ومن يقف وراءها، فهذا يؤكد الدور الذي تمارسه هذه القناة في المجال السياسي، وفي المجال الإخباري.
النموذج الثاني في موضوع القنوات هي المشاهد المثيرة كالأغاني المصورة، أو ما يسمى بالفيديو كليب، أو إثارة جنسية وشهوانية للشباب بأي شكل من الأشكال.
وأعتقد أن القنوات اللبنانية تحوز قصب السبق بهذا دون منازع، فمثلاً ما يسمى بقناة (lbc) وقناة المستقبل، واعذروني على ذكر هذه الأشياء، هذه أمور قرأتها في بعض التقارير وفي بعض الكتب وفي بعض الصحف، وجمعت هذه الدراسات وهذه الإحصائيات من أجل أن نكون أكثر وعياً وأكثر إدراكاً لهذه الأمور، ربما أكثركم أدرى مني بمثل هذه الأشياء، ولكن من باب المشاركة وجمع المعلومات.
فهذه القنوات أثرت تأثيراً كبيراً جداً على الشاب الخليجي ذكراً كان أو أنثى، وأعطته مجموعة من المتغيرات السلوكية، وظواهر برزت في السطح، من هذه الظواهر مثلاً التبدل السريع في نوعية الحجاب الذي تلبسه المرأة المسلمة في السعودية والكويت وعدد من دول الحجاب، فقد أصبح هذا الحجاب يتطور بشكل سريع وواضح وملفت، ويتحول من لباس للستر إلى لباس للزينة والاستعراض الجسدي أحياناً، والتخفف من كثير من الأعباء عبر اختراع موديلات جديدة تمتاز بحداثتها، ولا يمكن ملاحقتها.
كذلك تطور لباس الفتيات الخليجيات فيما وراء الحجاب حتى في المنزل أو في المدرسة، فأنت ترى كثيراً -حتى لدى الصغيرات- من أنماط الملابس التي شاهدتها الفتاة على الشاشة أو رأت عليها الممثلة أو المذيعة أو الراقصة، فاقتبستها وأصبحنا نجد كثيراً من الأشياء ليس لها عندنا معنى ولا تفسير، التفسير الوحيد أن هذه الفتاة رأتها فيمن أحبتها وتعلقت بها، وصارت هي المرأة التي تقلدها وتقتبس عنها، وهكذا الشباب كما ذكرنا قبل قليل.
وكذلك إعادة صياغة علاقة الشباب مع الفتيات، فإن الشباب الذين تربوا على قدر كبير جداً من الحشمة، والفصل بين الجنسين، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في مثل هذه المعاني، حتى إن المسلم يشعر أنه حين تتاح له مثل هذه الوسائل فإن عليه من الله تعالى رقيب، وعليه من الملائكة رقيب، ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ))[الانفطار:10-12].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وكان عمر رضي الله عنه يعس فسمع امرأةً تقول:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة رب العرش جل جلاله وأكرم زوجي أن تنال مراتبه
فيكون عند الإنسان حتى مع إتاحة الفرصة له يكون عنده تقوى ومراقبة، وهذا ولد في المجتمع المسلم عبر العصور قدراً كبيراً جداً من المحافظة والفصل بين الرجال والنساء، بينما هذا الأمر تعرض لاهتزاز عميق جداً بسبب الفضائيات، ومشاهدة الروابط، والبرامج التي تخصص للشباب وتقدم لهم، ومن خلالها يظهر الأولاد والبنات في مقتبل العمر وبأجمل زينة وأجمل صورة، وبينهم من ألوان المداعبات والممازحات والاتصال والاحتكاك الشيء الكبير، وهذا بكل تأكيد لا بد أن يؤثر على المتلقين، ويعطيهم نموذجاً عملياً لما يحلمون أن يكونوا عليه في المستقبل.
كذلك أن هذا كسر الحاجز النفسي أمام مشاهدة أو رؤية الأشياء المحرمة، سواءً رؤيتها على الشاشة أو رؤيتها في الواقع، فيصبح هناك ضعف في شعور الأب أو شعور الأم أو شعور المربي، الأستاذ مثلاً، أو المسئول، أو الداعية حتى تجاه الانحرافات التي يراها بعدما أدمن مشاهدتها أو مشاهدة شيء منها على الواقع.
إضافة إلى تغيير نمط وفهم كثير من الشباب والفتيات لمفهوم الهوية التي ينتسبون إليها، شعورهم بالانتماء لهذا الدين ولهذه الأمة، ولهذه الثقافة، فضعف هذا الأمر عندهم، وأصبح انتماؤهم في كثير من الأحيان ربما يكون انتماؤهم النفسي والمعنوي إلى أمم وإلى شعوب وإلى بيئات وإلى أوضاع مختلفة عما يعيش عليه مجتمعهم، وهذه وتلك لا شك لها آثار بعيدة المدى.
تأثير القنوات الفضائية على الشباب
الدكتور سعيد عبد الغني أعد رسالة، وعمل فيها إحصائيات عن تأثير هذه الوسائل على الشباب، فمن ضمن الإحصائيات يقول مثلاً: (85%) من الشباب، حقيقةً أنا أشك في هذه الإحصائيات، لكن هكذا وجدتها في دراسة علمية.. يشاهدون أفلاماً إباحية، ولا شك أنه ربما يتحدث عن شريحة معينة، وقد تكون هذه الشريحة خاصة.
(53%) وطبعاً هذا أيضاً الشريحة نساء (53%) من الفتيات قلت لديهن الرغبة في أداء الفرائض الدينية كالصلاة وغيرها، (32%) ضعف لديهن الرغبة في التحصيل الدراسي، (42%) من الفتيات أصبحن يتطلعن للزواج المبكر، أياً كان هذا الزواج، (22%) تعرضن للإصابة بأمراض نسائية نتيجة اقتباسهن لبعض العادات السيئة.
السفر في حياة الناس
الأمر السابع: هو أمر السفر. فيما يتعلق بالسفر عدد المسافرين من المملكة في عام (1421هـ) خمسة ملايين، منهم: ثلاثة ملايين ذكر، ويشكلون (72%)، وحوالي مليون ونصف من الإناث.
أكبر نسبة للسفر إلى أين؟ هذا لا بد أنكم تعرفونه؛ لأنه مما لا يضن به على أحد هي إلى البحرين، عدد المسافرين إليها يشكل (48%) حسب التقرير الإحصائي السابع الصادر عن وزارة الداخلية في المملكة .
الخليجيون يدفعون سبعة وعشرين مليار دولار على الاستجمام والسفر.
هذا السفر بطبيعته أولاً السؤال: لماذا يكون السفر؟ وقد أجرت مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة المعارف استطلاعاً جيداً في هذا المجال نختصره لضيق الوقت، وتبين أن عدداً كبيراً من الشباب يسافرون لأهداف ربما لا تكون جيدة.
الجانب الثاني: أنه حتى الذين يسافرون لأهداف أخرى فإنهم من خلال الاتصال يقتبسون ألواناً وأنماطاً من العلاقات والمعرفة والثقافة.
التحولات الاجتماعية في المجتمعات الخليجية والإسلامية
النقطة الثامنة: هي التحولات الاجتماعية في المجتمعات الخليجية والإسلامية.
ذكرت قبل قليل أن (50%) من المجتمع السعودي هم من الشباب ربما دون سن العشرين.
المملكة ربما تكون أكثر الدول العربية محافظةً، ومع ذلك فإن رياح التغيير تهب بشدة، وهناك تحولات عديدة وملفتة للنظر تتضح من خلال هذه الأرقام الإحصائية.
معدل البطالة في المملكة يصل إلى (20%) حسب تقرير البنك السعودي الأمريكي في الرياض .
لا شك أن البطالة لها آثارها على الشباب وعلى تكوين الأسر.
معدل الطلاق يصل أيضاً إلى (35%) حسب بعض الإحصائيات، بمعنى أن أكثر من نصف حالات الزواج تتحول إلى انفصال، ولا شك أن الطلاق أيضاً له أثر كبير جداً وسلبي على المرأة وعلى الرجل.
المملكة هي رابع دولة في العالم من حيث عدد المدخنين، هناك خمسة عشر مليار سيجارة تدخن في العام الواحد في المملكة، هناك مليار ومائتا مليون ريال تكلفة السجائر السنوية.
عدد المدخنين حسب الإحصائيات ستة ملايين، الإنفاق اليومي على السجائر ثلاثة ملايين ونصف مليون ريال.
هناك -وهو خطير- ما بين سبعة وعشرين إلى خمسة وثلاثين -على تفاوت الإحصائيات- من الطالبات في المرحلة الثانوية والمتوسطة من المدخنات، وهذه إحدى الإحصائيات أجريت في المنطقة الشرقية .
طبعاً انتشار ظاهرة التدخين عند البنات هي ظاهرة غريبة جداً على المجتمع السعودي.
الخادمات في المملكة أكثر من سبعمائة وخمسين ألف خادمة، يوجد في البيت ما بين واحدة إلى اثنتي عشرة خادمة.
نسبة الأمية في المملكة (12%) وهذه تعتبر نسبة متدنية، بمعنى أن مستوى التعليم في المملكة يعتبر متفوقاً، وربما من أفضل الدول العربية حسب إحصائية وزارة المعارف.
أما كيف يقضي الشباب السعودي وقته؟ فحسب دراسة سعودية (70%) من الوقت في الرياضة، يعني: حسب الاستطلاع: (70%) يفضلون الرياضة، و(42%) يفضلون التلفاز، (32%) زيارة الأصدقاء، (55%) في المنزل، و(21%) في الشارع.
الظواهر والمتغيرات وأثرها على الدعوة
الأثر على الدعوة.
خلال هذا العرض السريع يتاح المجال للتعليق على هذه الظواهر والمتغيرات؛ لأنه يهمنا الحديث عن أثر هذه المتغيرات على الدعوة.
الدعوة الإسلامية جزء من المجتمع وجزء من الحياة، هي خطاب بشري واقعي، يراعي ظروف الناس وأحوالهم.
والله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ))[إبراهيم:4]، اللسان هو اللغة، هذا فيما يتعلق بالأنبياء السابقين، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد بعث إلى الناس كلهم، ولهذا فإنه يفترض أن الإسلام يصل إلى الناس كلهم بلغاتهم؛ لأن الله تعالى ائتمن المسلمين والعلماء والدعاة على أن يوصلوا هذه الرسالة إلى أمم الأرض وشعوبها كافة، فهي شريعة خاتمة إلى نهاية التاريخ، وشريعة شاملة لكل البشر.
إن مقصود الرسالة البيان، والبيان يستوعب فهم المخاطبين، ويستدعي معرفة اتجاهات فكرهم، ونوع المشكلات، وكيفية الوصول إليه.
كما أن من مشكلات الدعوة التي نعانيها خصوصية الخطاب حتى داخل المجتمعات الإسلامية.
وهنا أعلق بعض التعليقات السريعة:
تفاوت حركات الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي
أولاً: نجد أن حركات الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي أو في التاريخ الإسلامي كانت حركات متفاوتة، فنجد مثلاً عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كمجدد يختلف عن الشافعي كمجدد، عمر كان يجدد من خلال سلطته ومن خلال نشر العدل، بينما الشافعي جدد من خلال وضع نظام للاجتهاد جمع به أهل الحديث مع أهل الرأي الذين كانوا في خصومة كما قال الإمام أحمد، حتى جاء الشافعي فأصلح بينهم.
إذاً نمط التجديد عند عمر بن عبد العزيز غير نمط التجديد عن الشافعي .
ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب نمط آخر، كلاهما إمام، له دور وأثر في التجديد، ولكنك تجد أن ابن تيمية رحمه الله في سعة معلوماته وكتاباته وتأليفه ومحادثاته واتصالاته وردوده على الفرق شيء، بينما تجد أن الدعوة الوهابية والإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ جانب توحيد الألوهية وجانب الإصلاح الواقعي وطبقه بشكل جيد، فنجح في إقامة كيان وإقامة مجتمع وإقامة دعوة صادقة انبعثت من هذه الجزيرة، وكان لها تأثير في أفريقيا وفي الشام وفي الهند وفي أماكن مختلفة.
إذاً نمط التجديد والدعوة عند ابن تيمية يختلف عن نمط التجديد والدعوة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
بل قبل ذلك نحن نجد الرسل كانوا يخاطبون أقوامهم بما يتناسب مع ظروفهم ومتغيراتهم وانحرافاتهم، فمن الرسل من كان يقول لقومه: أن يوفوا الكيل والوزن، ومنهم من كان ينهاهم عن أن يرتكبوا الفحشاء والمنكر، وإن كانوا جميعاً يتفقون في الدعوة إلى التوحيد، هناك من الناس الذين ندعوهم أنهم ضحايا الشهوات، وهناك ضحايا الشبهات، وهناك الغارون الغافلون.
تطور الدعوة بتطور وسائل المعرفة
الملاحظة الثانية: ما يتعلق بالمعرفة، فالمعرفة وهي من أهم متغيرات العصر، فهو عصر المعلوماتية الهائلة الضخمة، هذه المعرفة هي ذات علاقة قوية جداً بالدعوة، ونحن ندرك أن علياً رضي الله عنه كان يقول كما ذكر عنه البخاري: [ حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ]، والكثيرون يفهمون من كلمة علي رضي الله عنه حجب بعض المعلومات عن الناس لئلا يكذبوا بها، وهذا المعنى صحيح حينما يكون الجهل غالباً على الناس، لكن يمكن أيضاً أن نفهم كلمة علي رضي الله عنه فهماً إيجابياً نقصد من ورائه أن نراعي تطور معلومات الناس وسعة عقولهم، وأن العقول الواعية المدركة تحتاج إلى خطاب راقٍ لا يولد لديها الازدراء أو التحقير.
نحن أحياناً ربما نريد إسلامياً خطاباً يقنعنا بذاتنا، أو يرضي أنفسنا أكثر مما نريد خطاباً نستطيع أن نصل به إلى الآخرين، ونخاطب به عقولهم ونفوسهم وظروفهم.
توازن الدين بين الهداية والنكاية
الملاحظة الثالثة: هذا الدين الخاتم يتمتع بقدر كبير جداً من التوازن بين الهداية والنكاية.
الدعوة الإسلامية دعوة رحمة وعطف، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمةً للعالمين، وما يروجه القسس اليوم في عدد من الوسائل الإعلامية في الولايات المتحدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ودمويته، وأنه رجل إرهابي متعطش للدماء هو نوع من التهريج الرخيص.
النبي صلى الله عليه وسلم ظفر بأعدائه فأطلقهم، ظفر بـغورث بن الحارث كما في صحيح مسلم : (الذي رفع السيف وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ فقال: الله، فسقط السيف، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك ألا أحاربك، ولا أكون مع قوم يحاربونك، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
عفا عن ثمامة بن أثال الذي ربطه في المسجد، ومرة ومرتين وثلاثاً: (ما عندك؟ فقال: عندي يا محمد خير، وفي الأخير يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة بن أثال، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، والحديث في مسلم أيضاً.
النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة الذين حاربوه وطاردوه، ومنهم أبو سفيان الذي كان يقول:
لعمرك إني يوم أحمل رايةً لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
دعاني داع غير نفسي ودلني على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمةً من محمد
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ يقولون: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، يقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
هؤلاء خصومه وأعداؤه عفا عنهم في ساعة واحدة.
الحروب التي شنها المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت حروباً ضرورية لا بد منها لدفع الأعداء أو لإقامة الدعوة، ولإزالة الظلم، وعدد الذين قتلوا في معارك النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز بضع مئات، بينما نحن نستطيع أن نقول بكل سهولة وبدون مراجعة للتقارير والإحصائيات: إن الذين قتلوا في لحظة واحدة في اليابان أكثر من مائتين وخمسين ألف قتيل، دفنوا فيما يسمى بحفرة الموت في لحظة واحدة بسبب ضربة السلاح النووي الأمريكي.
نعم أيها الأحبة، الإسلام ليس ديناً بلا مخالب ولا أنياب ولا أظفار، هذا لا يوجد في الأرض كلها، لا يوجد دولة ليس فيها دفاع عن النفس وجيوش تحميها، ولا يوجد ملة ولا دين إلا وفيه ذلك، حتى الديانة النصرانية التي يردد أهلها أحياناً: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، يوجد فيها أيضاً ما ينسبونه إلى يسوع أنه كان يقول: (ما جئت لأصنع سلاماً بل جئت لأصنع سيفاً)، وهم في واقعهم يفعلون مثل ذلك أيضاً.
الإسلام يؤمن بل يطالب ويوجب الدفاع عن النفس والمقاومة الشرعية الصادقة، فما يقوم به المسلمون اليوم في بلادهم المحتلة، في فلسطين، في كشمير، في الشيشان وفي أي أرض يحتلها الأعداء هو حق مشروع، ليس بالإسلام فقط، بل في الديانات السماوية كلها، وفي الشرائع الأرضية البشرية من حق المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يقاوموا عدوهم.
وإذا كان العالم ينظر ويتخلى وربما يداهن، وربما يكون متواطئاً مع هذا العدوان الغاشم الذي يذهب ضحيته النساء والأطفال والأبرياء، فإن من واجب المسلمين اليوم أن ينصروا إخوانهم نصراً مؤزراً بكل ما يستطيعون، وأقل ذلك أن يقفوا معهم بقلوبهم وأموالهم ومواقفهم وألسنتهم وبما يستطيعون.
إن المقاومة المشروعة شيء آخر، إنها ليست عدواناً بل هي رد للعدوان، وإذا كان المسلمون اليوم ضعفاء ولا يستطيعون أن يوصلوا صوتهم إلى المحافل الدولية فعليهم أن يصبروا ويصابروا، والدهر دول، ويوم لك ويوم عليك.
الانفتاح وحقوق الإنسان
الفقرة الرابعة: هي أن لغة الانفتاح المعاصر احتفلت كثيراً بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وبالحرية، وبالمساواة إلى غير ذلك من العبارات.
هذه القضايا أيها الأحبة من صميم الدين، وحين نتحدث عنها فلسنا نقول شيئاً جديداً، ولكننا نأخذ بآذان المتحدثين، لنبين لهم أن دين الإسلام ارتقى بهذه الأشياء من كونها حقوق إلى كونها واجبات، وندفع عن ديننا شبه المتطرفين من أعداء الدين.
إن من الخطأ الفادح يا أيها الأحبة ألا نعالج قضايا الحرية وقضايا الحقوق إلا ضمن ردنا على الأطروحات الغربية، لا، ينبغي أن نطرحها ابتداءً ونتحدث عن قيم الإسلام في هذا الجانب.
كما أن من الخطأ أن نعتبر أننا حينما نتحدث عن هذه المعاني والقيم نتحدث عن الواقع الإسلامي سواءً كان واقعاً سياسياً أو اجتماعياً، وكأنه هو الإسلام الذي ندافع عنه، كلا.
إن واقع المسلمين ليس بالضرورة هو الصورة الصحيحة للإسلام، علينا أن نقدم الإسلام كما هو، أما واقع المسلمين فقد يكون متطابقاً في بعض جوانبه مع الإسلام، ومخالفاً في جوانب أخرى.
جدلية النقاش حول استخدام وسائل التقنية
الفقرة الخامسة: تقنية العصر.
حملت إلينا القنوات الفضائية والإنترنت وهي من باب الوسائل، وكم هو محزن ألا نزال نتجادل نحن حول استخدام هذه الوسائل، بينما يستقطب اهتمام الملايين من المسلمين ومن العالم مثل هذا الأسلوب.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بكل مباح ونافع، وربما صار هذا المباح واجباً أحياناً إذا ترتب عليه واجب، ولذلك فإنني أقول: إن الحوار أو الجدل أو السجال الفقهي حول هذه الأساليب لا ينبغي أن يكون جدلاً أو خلافاً بين الحاظر والمبيح، بل ينبغي أن يكون حواراً بين الموجب والمبيح؛ لأن من الممكن أن نقول: إن هذه الوسائل يجب أن تستثمر للدعوة حيث لا يمكن إيصال الدعوة إلا من خلالها، ولهذا (النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى غيرهم قيل له: يا رسول الله! إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً ونقشه: محمد رسول الله، وبدأ يكتب لهم)، والحديث رواه الشيخان عن أنس .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من خبرات الأمم المختلفة في المجالات الاجتماعية وغيرها مما لا يتسع المجال لطرحها.
ضرورة الاستفادة من وسائل التغيير والانفتاح
حقيقةً كنت باعتبار أن هذه المحاضرة جزء من نشاط الندوة العالمية الذي هو عبارة عن مؤتمر، فلذلك أحببت أن أتقمص شخصية هذا المؤتمر، فكتبت مجموعة من التوصيات، التي هي عبارة عن عناوين صغيرة، ولكن جاءني الإنذار الأخير بأن الوقت قد انتهى، فلذلك أعتذر إلى الإخوة عن ذكر هذه التوصيات، مع أني ربما وضعت فيها كثيراً مما كنت أقوله، لكن أختصر منها في نقطة واحدة فقط وهي:
أن مجرد الاقتصار على المنع اليوم سواءً كان منعاً رسمياً حكومياً أو فردياً أو جماعياً، إن هذا الأسلوب وحده لا يكفي، نعم أحياناً بودك من تحبه أن تجعله في قلبك على حد الشاعر الذي يقول:
أغار عليك من نفسي ومني ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني وضعتك في فؤادي
لكن هذا ربما لا يكون متاحاً في كل الظروف، فـعلينا أن ندرك أنه مع استخدام ما يمكن من وسائل الحجب والمنع والحياطة والحفظ والصيانة، إلا أن الواجب اليوم يتطلب من المسلمين أن يكون عندهم إنجاز عملي سواءً في مجال الأسرة، أو في مجال المدرسة، أو في مجال الدعوة، أو في مجال الأمة الإسلامية بشكل عام أن يكون عندها من الوسائل والإمكانيات ما تستطيع أن تخاطب به شبابها وشعوبها وتربيهم على المعاني، بل أكثر من ذلك ينبغي أن يكون عندنا تخطيط لمخاطبة المسلمين في الدول الغربية الذين يحتاجون إلى أشياء عندنا ليست عندهم، كما نحتاج نحن إلى مخاطبتهم لنا في أمور يملكونها ولا نملكها، وأيضاً أن نستطيع أن نخاطب الأمم الغربية بدعوة الإسلام، وليس بالضرورة أن يكون هذا من خلال مثلاً قنوات فضائية، نعم إذا توفر وجود قنوات فضائية تقدم الإسلام للغرب فنعم ونعمة عين، ولكن ربما يكون الغرب اليوم يحمل شعوراً سلبياً تجاه المسلمين، وتجاه ما يقدمونه، فبإمكاننا أن نقدم برامج إعلامية كثيرة تصل إليهم من خلال الوسائل التي تعودوا على تلقيها سواءً كانت مجلةً أو قناة أو غير ذلك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيد لهذه الأمة عزها ومجدها، وأن يرزقنا وإياكم العمل الصالح الصادق لهذا الدين، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأشكر للإخوة الذين رتبوا هذا اللقاء ونظموه، وأعتذر إليكم عن التقصير والإخلال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام.
نشكر فضيلة الشيخ سلمان العودة على هذه المحاضرة الرائعة، وهذه الإحصائيات المفصلة، ولعلي أول مرة أعرف بأن الشيخ يعرف الفيديو كليب وغيرها من الأمور التي ذكرها في المحاضرة.
مداخلة الأستاذ خالد مشعل حول الانفتاح العالمي
المقدم: بين يدي أيها الأحبة طلبات كثيرة للمداخلة، ولعلنا نأخذ بعض هذه المداخلات، وليسمح لنا بعض الإخوة أو الإخوة الآخرين؛ لأن الوقت لا يسمح لذكر هذه المداخلات وطرحها، فيعذرونا في ذلك.
المداخلات الثلاث الأولى المداخلات الرئيسية تعطى كل منها خمس دقائق:
المداخلة الأولى لـأبي الوليد الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، فليتفضل.
مداخلة: جزاك الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
جزى الله فضيلة الشيخ سلمان على هذه المحاضرة القيمة، وعلى هذه الروح المتوازنة الواثقة.
من وحي محاضرة فضيلة الشيخ وتطبيقاً لها على واقعنا العربي والإسلامي والفلسطيني، وفي ظل صراعنا مع أعداء الأمة وفي طليعتهم اليهود، أحب أن أتقدم بهذه التعليقات الخمس:
مواجهة الانفتاح والتغلب عليه
الأولى: من خلال سياق المحاضرة الكريمة نستخلص حقيقة مهمة أيها الإخوة والأخوات، أن هذا قدرنا، قدر الأمة أن تحيا وتتطور وتنمو وتصارع، وتخوض معاركها على كل الجبهات في جو مفتوح، لا تعيش فيه وحدها، بل يشاركها غيرها، وفي جو زاخر بما يرضينا ولا يرضينا.
مهمتنا أن نحصن أنفسنا ضد ما لا يرضينا، وأن نستعمل ما يرضينا وما يصلح لنا نستعمله في خير هذه الأمة، هذه حقيقة ينبغي أن نعيش فيها.
الانفتاح أصبح أمراً حتمياً، فإما أن نتعايش معه، ونمخر العباب نحو أهدافنا، وإما أن نستسلم له، ونصبح ضحايا هذا الانفتاح.
وأعتقد أن الأمة كما كان الصحابة والتابعون من قبل أهلاً لهذا الانفتاح، فالحضارة الإسلامية وهي في ريعان شبابها انفتحت على كل الحضارات، أخذت منها، ولفظت خبثها، وطورت ما عندها، وقدمت للبشرية خلاصةً رائعة.
تغلب الشعوب على مساوئ الانفتاح
الأمر الثاني: ما أشار له فضيلة الشيخ التغير في المجتمعات الخليجية، هنا أستشهد بمثل عاشه شعبنا في فلسطين بشكل أقسى مما صوره الشيخ في مجتمعات الخليج، وهو أهلنا في (48) الذين تعرضوا للتهويد والأسرلة، حتى كادوا يفقدون لا أقول: دينهم فقط، بل حتى لغتهم العربية، ولكن الصحوة العربية الإسلامية، صحوة الدين، صحوة الانتماء للأمة أيقظتهم، فتبخرت كل سنوات الأسرلة، وإذا بمكر الله تعالى يحول أهلنا في (48) بعد انقطاع عن شعبهم في الضفة والقطاع وعن أمتهم يحولهم إلى رقم واحد كحماة للأقصى، أليس هذا من قدر الله؟ الذين بلطوا المسجد المرواني الذي كان يسمى إسطبلات سليمان، الذين حموا المسجد الأقصى وأحيوه ونظفوه، الذين اليوم يحييون الصلاة فيه بعد أن حرم أهل القدس والضفة من الصلاة فيه هم إخوانكم في (48)، أليس ذلك من قدر الله تعالى؟ نعم.
إن أي شعب يحمل قضية يستطيع أن يتغلب على التذويب وعلى التهويد وعلى التغريب وعلى الإفساد.
وأذكر أنني عام (1975م) زرت فلسطين، زرت بلدتي وهي بلدة قرب رام الله، وبلدتي مشهورة بالتدين، فصعقت، غادرتها في (1967م)، وعدت إليها في (1975م) أي: بعد ثمان سنوات، فوجدتها قد تغيرت بسبب التهويد الصهيوني والتأثير الإفساد، لدرجة والله ذهبت يوماً إلى مسجد البلدة لأصلي العشاء، فكدت أبكي حين رأيت الإمام يصلي وحده، بينما أسمع اليوم فإذا بالإسلام الحمد لله حي في بلدتي وفي كل فلسطين .
نعم، إن أي أمة صاحبة قضية تستطيع أن تصنع المستحيل.
النظرة الشمولية والتفصيلية
النقطة الثالثة: أنا مع فضيلة الشيخ في موضوع النظرة الشمولية والتفصيلية، ولكن أضعها في السياق التالي:
نعم مع النظرة الشمولية في الوعي وفي رسم الصورة الكلية للصراع وللنمو وللتطور، ومع النظرة التفصيلية في التغيير والمبادرة، وأسوق مثلاً عشناه نحن أبناء فلسطين، عندما كنا نفكر ونحن على مقاعد الدراسة في الثانوية والجامعة في بداية السبعينيات واجهتنا عقبة عندما كنا نفكر مشروع فلسطين، لا نجد في الساحة الفلسطينية إلا الفصائل العلمانية، وكانت الشيوعية واليسار والماركسية تجتاح شعبنا، واللا دين يجتاح شعبنا، وكنا نقول لعلمائنا ومشايخنا ومن سبقنا في هذا الطريق: أين نحن في الساحة الفلسطينية؟ فهنا وجدنا أننا أسرى مقولة: الدولة أم التحرير، أيهما يسبق؟ وتغلبنا على هذه المقولة، وقلنا: كلاهما يسير متوازياً مع الآخر، نبني المجتمع، ونبني الدين، ونسعى إلى الدولة، وفي ذات الوقت نضع أقداماً على طريق التحرير، ولا يجوز أن نترك ساحة فلسطين للقوى الأخرى، والحمد لله بني المشروع وانطلق المشروع الذي نفخر به اليوم، كنا في الماضي عندما نستشهد بالدور الإسلامي على أرض فلسطين نستشهد بحرب الإخوان في (48)، وسنة ونصف أو سنتان معسكرات الشيوخ في الأردن، والآن نحن نعيش حاضرنا ونحن نصنع الحاضر اليوم على أرض فلسطين بفضل الله تعالى.
إزالة الحدود بين الجماعات والحركات
النقطة الرابعة: أنا مع أيضاً ما قاله فضيلة الشيخ: إزالة الحدود بين الجماعات والحركات، ومع أن القطيعة أيها الإخوة والأخوات والجفوة لا تجوز بين القوى والجماعات في جميع الأحوال، لكن إن جاز لنا أن نبقى على هذه الحالة في وقت السعة، لكن لا يجوز أن نكون كذلك في وقت الخطر.
إن استشعارنا للخطر يدفعنا إلى إزالة الحدود بين الجماعات والحركات، حين ندرك أننا مهددون ليس في هوامش الخلاف بيننا، ولكن مهددون في أصل وجودنا، وفي أصل الدين، وهذا الذي دفع الحركات اليوم كي تتقارب كما دفع الحكومات والشعوب أن تتقارب.
وأعطيكم مثلاً عظيماً على هذا: هل تعلمون أن ملحمة جنين، هذه الملحمة العظيمة التي اضطر الموساد أن يتدخل في إدارة المعركة فيها، والتي استشهد فيها خمسون من أبناء المخيم مقابل قتل خمسة وعشرين من جنود العدو، ملحمة عظيمة، هذه الملحمة من صنعها؟ صنعتها القوى الفلسطينية في مخيم جنين بقرار محلي، لم يدفعهم أحد أنه اصمدوا أو انسحبوا، بل أخذت حماس وفتح والجهاد الإسلامي وكل القوى أخذت قراراً أن ندافع عن حياضنا، وصنعوا هذه الملحمة.
إذاً استشعار الخطر يدفع الجميع لإزالة الحدود.
الاستفادة من فضاء الإنترنت والفضائيات
النقطة الخامسة والأخيرة في التعليق على الإنترنت والفضائيات:
يا إخوتنا! يا أخواتنا! هذه مساحات واسعة لخوض الصراع والمعركة.
أسوق لكم مثلاً مما يجري اليوم من معارك على جبهة الإنترنت كما هناك معارك على أرض فلسطين ومع الأعداء في كل مكان، من هذه: في بداية الانتفاضة أحب الشباب المسلم عبر مواقع الإنترنت أن يقدموا صورة محمد الدرة كصورة إنسانية عالمية، وفعلاً نجحوا في ذلك، فهب اليهود في العالم ليواجهوا هذه الخطوة العربية الإسلامية، ماذا فعلوا قاتلهم الله؟ جاءوا بصورة كلب في مواجهة محمد الدرة، أيهما أجمل صورة محمد الدرة أم صورة الكلب؟ وهنا جرت المعركة، استنفر المسلمون أنفسهم، واستنفر اليهود أنفسهم، وكان النصر في النهاية للمسلمين.
إذاً المسلمون قادرون على أن يخوضوا المعركة وينتصروا، ولا يجوز أن نختبئ خلف العجز؛ لأننا أمام معطيات فيها إفساد.
بعض الأمثلة على التحدي والنجاح للمقاومة في فلسطين
أقول كما قال الشيخ: معطيات الانفتاح والمعطيات المادية هذه معطيات حيادية الأصل أن نتجاوز خبثها، وأن نسخرها لمصلحة قضيتنا، ونحن أمة اليوم من حقنا أن ندافع عن أنفسنا بكل الوسائل، ونحن لسنا قاصرين عن خوض المعركة، حتى ولو لم تكتمل كل أدوات النصر، ولكننا على الأقل نملك أدوات المغالبة، والمجادلة، والصراع.
وأسوق لكم بعض الأمثلة على التحدي الذي نجحنا فيه، كان الموساد أسطورة، أسطورة لا تغلب ولا تقهر، ولكن شاباً هو مرافقي محمد أبو سيف الذي كان صائماً يوم الخميس، عندما تعرضت لمحاولة الاغتيال، هذا الشاب لم يكن مسلحاً، وقد مكنه الله من عملاء الموساد الذين سبق أن اغتالوا الدكتور فتحي الشقاقي رحمه الله، وهم مدربون، شاب بلا سلاح قهر عملاء الموساد، إذاً حطمنا صورة الموساد.
الميركافا أشهر دبابة.. أكثر الدبابات تصفيحاً خاصة (سيجما 3)، هذا الجيل الثالث من الدبابات شبابنا دمروه بدون مضادات الدروع، بدون الـ (آر بي جي) الذي يعز في أرض فلسطين، صنع الشباب عبوة قادرة على قهرها، الآن قهر الشباب في فلسطين أكثر من عشر دبابات ميركافا، لدرجة أن الصين والهند كانت قد تعاقدت مع الكيان الصهيوني على شراء صفقة، أوقفوا هذه الصفقة؛ لأنه ثبت إن الميركافا قهرها الفتية المؤمنون على أرض فلسطين .
أيضاً تصنيع السلاح- هذه آخر نقطة شيخنا- عز السلاح في فلسطين، والعرب يحرسون الكيان الصهيوني كما يحرسه الصهاينة والأمريكان للأسف، من أين نحصل على السلاح؟ قبل شعبنا وأبطالنا وأبناء الفصائل الفلسطينية قبلوا التحدي، لا يوجد الصاروخ، فصنعوا الصاروخ، لا يوجد الهاون صنعوا الهاون، لا يوجد متفجرات أو (tnt) أو غيرها صنعوا متفجرات، هل تعلمون أن الشباب في فلسطين ومن مواد أولية صنعوا متفجرات قوتها (1،7) من قوة (tnt)، إنها الإرادة، وإنه الإيمان، ونحن نقول في زمن العولمة والانفتاح: قادرون على الصمود، قادرون على الحفاظ على الهوية، وعلى الدين، وعلى الذات والخلق، قادرون أن نعبر هذا المحيط المتلاطم، ونصل إلى أهدافنا برضا رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله.
المقدم: نسأل الله أن ينصركم، ويثبت أقدامكم.
مداخلة الأستاذ عبد الله جاب الله حول الانفتاح العالمي
المقدم: المداخلة الثانية للأستاذ عبد الله جاب الله رئيس حزب الإصلاح الوطني في الجزائر فليتفضل.
الأستاذ عبد الله جاب الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
في البداية أشكر فضيلة الشيخ سلمان على محاضرته القيمة التي تناول فيها الكثير من المحاور، إلا أنني أرغب في التركيز على نقطتين أساسيتين:
الأولى تتعلق بموضوع العولمة، وأقول في هذا الصدد: بأن العبرة بالحديث عن العولمة إنما هي بما هو غالب، ثم بحقيقة ما يسعى أصحابها إلى تحقيقه.
وبالنظر إلى فلسفة الغرب في الحياة، ثم بالنظر إلى أساس فلسفتهم في التشريع نجد أن العولمة هي استعمار قديم متجدد.
الغرب هو استعماري بطبعه؛ لأن الخير عنده في فلسفته في الحياة يتحدد في إدراك الرغبات الجامحة، ثم امتلاك القدرة على تحقيقها، كما يتضح أيضاً جلياً في أساس فلسفتهم في التشريع الذي هو منطق القوة والمصلحة، وبسبب فلسفته في الحياة أولاً، ثم فلسفته في التشريع ثانياً نجد بأن النظام الدولي الذي يسعى إلى تحقيقه، لا يهدد فقط اقتصاديات الشعوب وأمنها واستقلالها، بل يهدد أيضاً ثقافات الشعوب وحضاراتها، ويهدد الجنس البشري بالفناء والدمار.
وانظروا إذا شئتم إلى جرائم أهم دوله في فترة الاستعمار الاستيطاني، واليوم نحن في الجزائر على سبيل المثال؛ فرنسا قتلت من الشعب الجزائري خلال مرحلة الاستعمار ما يزيد عن ثمانية ملايين، مش مليون، مليون ونصف هذا خلال الثورة التحريرية الكبرى، أما خلال مرحلة الاستعمار قتلت ما يزيد عن ثمانية ملايين، سعت في إفناء الشعب الجزائري، ولكنها لم تستطع.
ففي الجانب الاقتصادي مثلاً لو ننظر اليوم إلى هذا البعد من أبعاد العولمة نجد أن معظم دول العالم الثالث، وخاصة منها الدول العربية ودول العالم الإسلامي تابعة لصندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، والمؤسسات المالية كنوادي باريس، ولندن، وإيطاليا، واليابان وغيرها.
وليت الأمر توقف عند حدود استنزاف خزائننا وثرواتنا، بل واصل الغرب ضغطه حتى أضحت دولنا مستعدة لبيع كل شيء قابل للبيع، بما في ذلك بيع مقومات وجودها الأساسية، خاصةً ما تعلق بالدين واللغة، ولعلكم ربما تجدون تفسيراً واضحاً في هذا لما أقدمت عليه بعض النظم السياسية، كما هو الحال مثلاً في بلادنا في الجزائر، أقدمت على تأسيس عدة لجان من بينها لجنة إصلاح المنظومة التربوية، فجاءت حرباً سافرة على الذات العربية المسلمة للشعب الجزائري، ألغت مادة التربية الإسلامية من كل المنظومة التربوية، حجمت عدد ساعات تدريس اللغة العربية، مست كذلك مادة التاريخ، فتحت الباب واسعاً أمام اللغة الفرنسية، سواء في المواد العلمية أو غيرها، هذا مثال، لا تتحدث بعد ذلك عن موضوع مشروع تغيير قانون الأسرة الذي هو القانون الوحيد المستمد من الشريعة في النظام القانوني كله، أو في المنظومة القانونية كلها.
وفي الجانب الأيديولوجي وهو المظهر الثاني من مظاهر العولمة، وهو في رأيي أخطر مظاهر العولمة، والمسمى عموماً بالعلمانية، هو مسعى دول الغرب لفرض العلمانية؛ لأنها أخطر بدعة مرت بها الأمة الإسلامية، وتهدد وجودها، تسعى في التأسيس خصوصاً إذا ما قننت وأصبحت مقننة في الدستور- تسعى في التأسيس لحالة من الفوضى والاضطرابات، والتصادم بين النظم من جهة وبين الشعوب من جهة ثانية، وكما أيضاً تفتح الباب واسعاً لانتشار التغريب ولانتشار الفساد.
والسر في تركيزهم على هذه المسألة فيما أرى إنما يعود أساساً إلى كون العلمانية هي التي تقف في وجه مجهودات الأمة ممثلة في فصائل التيار الإسلامي في نقل الإسلام من عالم النظرية إلى دنيا الواقع، ومن نقله من مجال التفكير إلى ميدان التنفيذ، وتقف في وجه التيار الإسلامي الساعي إلى تحصين المجتمع فكراً وسلوكاً من عدوى الاستغراب والفساد، وتقف في وجه التيار الإسلامي الذي يسعى لإيجاد سياج من القوانين العادلة؛ ليحمي بها الأمة من عدوان القوانين الجائرة، [فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]، وتقف في وجه التيار الإسلامي الذي يعمل على أن يعيد للأمة عزتها وكرامتها بما يسعى إلى تحقيقه من إحياء مجد الإسلام، ورفع العدوان الواقع على حقوق الأمة في مجالات الحياة المختلفة.
المقدم: جزاك الله خيراً. أدع المجال لمداخلة.
الأستاذ عبد الله جاب الله: إذا سمحتم نحن جيناكم من الجزائر يا أخي من بعد ستة آلاف وإلا أكثر كيلو متر يعني.
المقدم: طيب لك دقيقة.
الأستاذ عبد الله جاب الله: إذاً أنتقل إلى النقطة الثانية مباشرةً:
السؤال الكبير الذي يطرح: كيف نفعل للتصدي لهذا الخطر بشكل عام؟
هذا الموضوع طبعاً يحتاج إلى حديث طويل، ولكن باختصار نقول: بالعودة إلى القرآن الكريم نقرؤه قراءة المجاهدين الذين يخوضون معارك متعددة، وعلى جبهات مختلفة، أخطرها وأهمها في تقديرنا إنما هي الجبهة الداخلية؛ لقوله تعالى: ((إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]، ولقوله تعالى: ((إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ))[آل عمران:120]، ولقوله تعالى في أول ثمن من النصف الثاني من سورة الحج الذي يقول فيه: ((وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ))[الحج:40].
فنصر الله سبحانه عز وجل حق، ولكن بماذا ننصر الله حتى نستحق نصره؟
إن الله سبحانه قال: بأنه لم يفرط في القرآن من شيء، ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام:38]، وقال: ((تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ))[النحل:89]، فهل بين الله لنا مسائل الحلال والحرام فقط وأنواع العبادات وما إلى ذلك، وسكت عن مواضيع أخرى هي من حيث الآثار المترتب عليها لعلها أخطر من الآثار المترتبة على قضايا الحلال والحرام، إن الله تعالى صدق فيما قال، وكذب -في تقديري- فهمنا نحن، لقد بين الله تعالى لنا ما يمكن أن يسمى بالمبادئ العامة والقواعد الكلية في السياسة والجهاد، ومن ذلك مثلاً العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والشورى السياسية والتشريعية، والمسئوليات التبادلية بين المجتمع والدولة، وبين الأحزاب والنظام وما إلى ذلك.
ولعل بضرب بعض الأمثلة من القرآن الكريم ندرك ما يجب علينا أن نفعله:
مثال أول قوله تعالى: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ))[الصافات:171-175].
ألا ترشدنا هذه الآية إلى أمرين أساسيين، لو تفقهنا في معانهما، وأحسنا الالتزام بهما لنضج وعينا، ولأمكننا أن ندير الصراع مع أعدائنا بكثير من حظوظ النجاح، إنها نهتنا عن المواجهة واستعجال الأشياء، وأرشدتنا أيضاً إلى ضرورة التحلي بالوعي في متابعة الأعداء وجمع المعلومات المتعلقة بهم.
المقدم: انتهى الوقت المخصص، جزاك الله خيراً.
مداخلة الأستاذ عبد الإله كيران حول الانفتاح العالمي
المقدم: المداخلة الثالثة للأستاذ عبد الإله كيران رئيس حزب التنمية والإصلاح في المغرب، فليتفضل.
الأستاذ عبد الإله كيران: بسم الله الرحمن الرحيم. عندنا مثل يقولونه في المغرب، والحقيقة هذه طريفة: أن رجلاً يسكن في منطقة اسمها جبالة فيها الجبال، سمع الإمام يقول: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))[الروم:41]، فقال له من تحت المنبر: حتى نحن عندنا في الجبل نعرفه، فلما سمعت الشيخ يتحدث قلت في نفسي: هذا الذي يشكو منه الشيخ، ويخاف منه ويحاذر وقع عندنا، لكن ما يخاف منه هو بعد خمس سنوات وقع عندنا منذ ربما أكثر من خمس سنوات، نحن هذا الذي تتحدثون عنه فضيلة الشيخ نعيشه.
وأريد فقط قبل أن أسرد لكم كيف نواجهه قدر المستطاع، أريد أن أسرد لكم بعض الأمور تدلل على ذلك.
قبل بضع سنوات دخلت سيدة تحمل كاميرا، تشتغل، امرأة نظيفة، لكن بلباس غير مقبول، لا نتحدث عن لباسكم، هذا لباس غير مقبول تماماً، ولأنني في قبة البرلمان، ولأن هنالك قانوناً يلزم برداء معين قمت وطلبت من رئيس الجلسة أن يطلب منها أن تستتر قليلاً، فقامت ضجة علي في الإعلام، دامت عدة أيام، وكانت معركة من أشد المعارك، بفضل الله بعد ذلك ألزموا النساء بحد أدنى من الحشمة والوقار. والأمثلة تطول.
لكن فضيلة الشيخ أريد أن أشير إلى نقطة ربما لم تعطوها الوقت الكافي أو الأهمية الكافية، وهي في إطار العولمة، هنالك منطق جديد، أنا أذهب إلى أن أقول: أنه دين جديد، استقر في البشرية، ليس بالإسلام ولا بالنصرانية، وربما هو ما يريده اليهود للبشرية، وهو دين الاستهلاك، فالاستهلاك خرج عن تلبية الحاجات إلى الإغراء والإغواء بما يلزم وما لا يلزم، وأصبح هدفاً في حد ذاته، يعمل له المنتجون، وعلى رأسهم بطبيعة الحال الشركات الدولية في الغرب، ويقع فريسته الناس جميعاً.
وظاهرة الانفتاح وظاهرة العولمة لا تفعل إلا شيئاً واحداً، وهي أنها تشيع هذا الدين الجديد، وقد قال رجاء جارودي : أنه يعتبر أن هذا الدين الجديد هو توحيد للسوق، بمعنى عوض توحيد الله، البشرية اليوم توحد السوق، وتسير في اتجاه السوق، وتعبد السوق إن لم تنتبه وتتراجع ليرجع الاستهلاك، وهذا أول ما نحن مطالبون بمراجعته أن نراجع ما هو الاستهلاك في ديننا لنقف عند حدوده.
إننا في مقاومتنا لهذا الذي ذكرتم والذي هو آت والذي هو عندنا، والذي نخاف أن يستشري لا بد من أمور أريد أن أذكرها باختصار:
أولاً وقبل كل شيء: يجب أن نراجع أنفسنا، فنحن لسنا أعلى من أن نراجع أنفسنا، ويقيناً وكما قلتم وقد أشرتم أن الإسلام شيء، وأن واقعنا شيء آخر، ولكن لا يمكن أن نستمر في قول هذه المقولة، لا بد أن نراجع أنفسنا لنكون أقرب ما يمكن إلى الإسلام، وإلا فسيبقى الإسلام نظريات، وسيبقى الإسلام عقائد، وسيبقى الإسلام مبادئ، لا يستطيع أن يبلغ أحد؛ لأنه لا يحمل أحد بطريقة صادقة وبطريقة صحيحة.
ثانياً: وهذه نقطة ربما قد تكون محدودة، لكنها مهمة: يجب أن ننتقل جميعاً من منطق الولاية إلى منطقة الهداية، فالولاية في الإسلام موجودة، ولكن يقيناً ليست هي الأصل، فالهداية أصل، أنتم هنا عندكم الدولة تطبق الشريعة، لكن نحن عندنا في بلادنا في بيوتنا الدعاة يحاولون إلزام أبنائهم بالالتزام بالدين، وفي بعض الأحيان تكون النتائج عكسية، فنحن مطلوب منا أن نعرضه عليهم، وندعوهم إليه، ونحببهم فيه، ويكون الإلزام بالقدر المطلوب فقط.
المسألة الثالثة: هي المشاركة، فنحن في بلدنا سرنا في اتجاه المشاركة، وقبل بضع سنوات جاء مشروع ليس لتغريب المرأة، ولكن لسلخها والقضاء على الأسرة وسلخها عن دينها؛ يدعو إلى تزويج الفتاة بدون وليها، يدعو إلى الأب يشتري للأولاد وللبنات موانع الحمل، يدعو إلى أشياء من هذا القبيل، وقمنا بالدعوة والمواجهة، واجتمع أهل الخير وحتى الذين لم يوافقونا لم يخالفونا، ونزلنا في مظاهرة، هم نزلوا في مظاهرة في الرباط في حوالي أربعين ألفاً، ونحن نزلنا في مظاهرة في الدار البيضاء لا يحصى عددها، لا يستطيع أحد أن يؤكد، بل يقيناً أنها كانت أكثر من المليون، وبهذه الطريقة توقفت هذه الخطة التي جاء بها وزير شيوعي، واستطعنا أن نوقفها.
إخواني في الخليج ..
المقدم: جزاك الله خيراً.
الأستاذ عبد الإله كيران: دقيقة أخيرة، أنا أريد أن أقول لكم: المجتمع الخليجي من كرم الله به بقي محافظاً وتقليدياً، والدين لم يزعزع، لكن الواقع الاجتماعي شيء، والدين في المثال لا زال بيننا وبينه مراحل، ولهذا فطلبنا لكم من باب أننا أمة واحدة هي أن المراجعات يجب أن تحدث من داخلكم، في إطار مرجعيتكم، في إطار علمائكم، وإلا ستحدث رغم أنوفكم، وأدعوكم إلى التفكير جيداً، اليوم لا يمكن أن نفر من حقوق الإنسان، فكروا كيف يجب أن تكون حقوق الإنسان في إطار الإسلام، وأنزلوه إلى الواقع، لا تكتفوا بالشعارات، الحرية لا بد منها، لا تكتفوا بالشعارات، المرأة، راجعوا موقفكم من المرأة هل هو الموقف الصحيح أم هنالك ما هو أصح منه؟ الديمقراطية والشورى لا بد كذلك من مراجعته بالشكل المطلوب الذي يجعل التحول والتغير يقع في إطاركم، في إطار مرجعيتكم، وفي هذا الإطار إن شاء الله أبناؤكم حتى وإن ضلوا مرحلةً يرجعون إليكم، أما إن ضاعت المبادرة فإنكم لن تروا إلا أموراً لن تعجبكم، وأسأل الله لنا ولكم العافية، والسلام عليكم.
المقدم: جزاك الله خيراً.
مداخلة الدكتور عصام البشير حول الانفتاح العالمي
المقدم: المداخلة الرابعة لمعالي الدكتور عصام البشير، ولكن أنبه على أنه سوف تكون مداخلة للأخوات، فليستعدين لذلك.
الدكتور عصام البشير: بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا في غاية السعادة لما تفضل به فضيلة الشيخ العلامة الشيخ سلمان على ما طرحه من قضايا محورية وجوهرية، وألخص هذه المحاضرة في كلمة واحدة: أنها جاءت مرتبطةً بالأصل، ومتصلةً بالعصر، انفتاحاً بلا ذوبان، وخصوصيةً من غير انكفاء، ولي ثلاث نقاط أوجز القول فيها:
التعامل مع صور التجديد في مجال الإحياء والبعث الإسلامي
المسألة الأولى وهي التي أشار إليها، وهي التي تدل على سعة أفقه حفظه الله: التعامل مع صور التجديد في مجال الإحياء والبعث الإسلامي.
إذا كان هذا هو منهج الأنبياء في أنهم عرضوا قضية التوحيد من خلال المعضلات التي كانت فاشيةً في زمانهم، في زمان هود عليه السلام اغتر قومه بالقوة السياسية، في زمان شعيب عليه السلام اختل القوم في القضية الاقتصادية المكيال والميزان، في قوم لوط عليه السلام كانت الفاحشة الأخلاقية، في عهد صالح عليه السلام كان الاغترار بفتنة الحضارة المادية، (( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ))[الشعراء: 149].
كل نبي عالج من خلال التوحيد ما كان فاشياً في قومه، فتعددت صور التجديد، واليوم كما ذكر تتعدد أيضاً صور التجديد، لا تقف عند حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي جاءت لتقاوم الشرك الشعائري في شبه الجزيرة العربية، فهذا تجديد حي ملموس له أثره الحي في نهضة الأمة، ولكن هنالك صور التجديد في المغرب العربي الخطابي، وفي الجزائر ابن باديس والإبراهيمي، والسنوسي في ليبيا، والشيخ حسن البنا في مصر، والمهدي في السودان، هذا التعدد في مسارات الإحياء والتجديد دليل على حيوية الأمة وخصوبتها، وأن كل مجدد يعالج من خلال الإصلاح ما طرأ في مجتمعه من قضية تنشأ، وبالتالي القبول بصور التجديد يقبل تلقائياً بما يسمى بالتعددية الحركية.
وإذا كانت الأمة قبلت بالتعددية المذهبية الفقهية وما ضاقت بها ذرعاً يوماً من الأيام سوى صور التعصب التي غشيت الأمة، فيمكن أن نقبل التعددية الفكرية، والتعددية المذهبية، والتعددية الحركية في إطار المرجعية الإسلامية على أنها تعددية تنوع، وليست تعددية تضاد، ومن شأنها أن تحيي عملية الحوار الذي دعا إليه الشيخ، وقرآننا ممتلئ، حاور الله إبليس والملائكة والجن والمخالفين في العقيدة، وحاور الأنبياء أقوامهم، فصور الحوار نحتاج إلى هذا التمرين الساخن في العقلية الفكرية والذهنية حتى نقبل الآخر، ونقبل التعايش مع الآخر في ظل هذه المنهجية الصحيحة، فالقبول بصور التعددية وصور أنماط العمل الإسلامي يمكن من هذه البحبوحة التي نحن نحتاج إليها، فهي دعوة لإحياء الحوار، الحوار الإسلامي الإسلامي الذي يشكل منطلق الحوار مع الذات، والحوار مع الآخر بين المؤسسات الرسمية والشعبية.
آن الأوان لأن تقف هذه القطيعة البائنة بين الأنظمة والشعوب، بين المؤسسات الرسمية والشباب، وعلى الشباب أن يكون إيجابياً بناءً فاعلاً يقتحم هذه الميادين في الاقتصاد، في السياسة، في التنمية، يقدم المعالجات الحية لأمته، والأنظمة يتسع صدرها لمشاركة أبنائها، فأبناؤها هم ثمرة غرسها، وأنا أعتقد هذا التلاحم بين الأنظمة والحكام والشعوب وجميع الفعاليات الرسمية والشعبية من شأنه أن يشكل قوة دافعة بالنسبة للأمة.
إغلاق الحوار في القضايا الفرعية
النقطة الثانية: أرى على العمل الإسلامي وهو يجابه هذه الهجمة الشرسة أن يغلق الحوار في قضايا فرعية خلافية تجاوز فيها الزمن، المعركة اليوم ليس بين النقاب والحجاب، المعركة اليوم كيف تقود المتحجبات والمتنقبات العلمانيات السافرات من السفور إلى المسجد، إلى الالتزام بالفضيلة، لا يضرنا أن تكون متنقبة أو متحجبة، فكلا الرأيين في إطار المرجعية الشرعية، ولكن ينبغي أن تحتشد المتنقبة مع المتحجبة ليخوضوا معركة تطهير هذه المتحللة السافرة إلى الهداية والرشد وإلى الطريق المستقيم.
ينبغي أن نحصر قضايانا في الكليات وفي القطعيات، وفي المحكمات، هذه مسألة مهمة، كم من الكتب التي ألفت، وكم من الصفحات التي سودت، وكم من الأقلام التي أشرعت لقضايا خلافية لا يمكن حسمها، ولا يمكن اجتماع الناس فيها على رأي واحد، فينبغي أن نرتب الأسبقيات.
الاستفادة من الفضائيات
أمر ثالث وأخير: في قضية الاستفادة من الفضائيات.
هذا صحيح وأنا مع منهج الشيخ، ولكن علينا أن نجدد الخطاب الدعوي في مضمونه وفي محتواه.
أحد الدعاة ذهب إلى الغرب وهو يتحدث يخاطب بعض الذين أسلموا حديثاً، وقال لهم: كذا وكذا حمايةً لبيضة الدين، بيضة الدين ترجمها المترجم، فقال له هذا المهتدي: لماذا الإسلام يحرص على البيض دون الفراخ والسمك؟ فهم بيضة الدين.. هذا مصطلح نخاطب به، اللغة، سمعه يتحدث عن الصفات من غير تشبيه ولا تمثيل، قال: أيش علاقة المسلسلات المصرية بصفات الله عز وجل؟ لم يفهم من التمثيل إلا ما هو معهود في ذهنه، فتجديد المصطلحات أيضاً في الخطاب الدعوي.
سمع أحدهم أيضاً يتحدث عن حديث البخاري : (حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قال: أخرجه البخاري، قال: كيف يتسنى للبخاري أن يخرج الضب من الجحر؟ لم يفهم هذا المصطلح، نحن نحتاج.. وأنا أفهم من مفهوم، ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ))[إبراهيم:4]، أن اللسان ليس مجرد اللغة أن تخاطب العربي بالعربية والإنجليزي بـ..، لا، اللسان الذي تخاطب به المثقف غير اللسان الذي تخاطب به العامي، اللسان الذي تخاطب به المؤمن غير اللسان الذي تخاطب به الملحد، اللسان الذي تخاطب به رجل البادية ليس هو اللسان الذي تخاطب به رجل الحضر، فكل له لسانه، وكل له سقفه الحضاري، وهذا معنى: [حدثوا الناس بما يعرفون].
أعتقد نحن نحتاج إلى ما يسمى بفقه البدائل، فقه الحياة، كثير من الإسلاميين يتقنون فن الموت في سبيل الله، يضحي بنفسه رخيصةً في سبيل الله عز وجل، ولكن فقه الحياة لننهض بمنهج الاستخلاف، ولنحقق عمارة الكون، معركة التنمية المستدامة، معركة معالجة الاختلالات الاجتماعية والسياسية والفكر تحتاج إلى حضور ذهن وفاعلية وفكر متسع؛ لنكون أصحاب بناء، ونحن مشكلتنا أننا أقدر على هدم الباطل من إحقاق الحق، والبناء أشق، فهذا تحدي يحتاج إلى سعة أفق وسعة فكر.
وينبغي ألا نضيق بكل اجتهاد معاصر، كلما جاء مجتهد ليطرح قضية قابلة للحوار في إطار الاختلاف حملنا سيف الإشهار عليه.
شيخ الإسلام ابن تيمية في يوم من الأيام كانت آراؤه تعتبر شاذة، وحوصر وحبس بسببها في السجن، الآن بعض ما يعتبر شاذاً في عهده يفتى به في المحاكم في قضية الطلاق، وتتبناه الحركات الإسلامية، وتتبناه دعوات التجديد والإصلاح، ما دام العالم قد استفرغ وسعه في تحري الحق، وصدر الاجتهاد من أهله وفي محله.
ينبغي أن نقول تحت إطار: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
نحن نحتاج إلى فقه المراجعات، وإلى حوار عميق مع الذات، وأن يسع بعضنا بعضاً في تقبل كثير من الاجتهاد؛ لندير حواراً داخلياً نبلور من خلاله رؤيةً مشتركة.
تحديد الثوابت
كلمة أخيرة وبها أختم، وأرى أن الشيخ سمير يلاحظني بنظراته، لكني سأختم.
أقول كلمة: الشيخ أيضاً دعا إلى تحديد الثوابت ضمن بناء القدرة الذاتية في الأمة، وأنا معه في هذا، ولكن كلمة الثوابت لا بد أن نبلور ما المقصود بالثوابت؟
أنا أعتقد الثوابت: العقيدة، المقاصد الكلية، الفرائض الركنية، الأحكام القطعية، والقيم الأخلاقية.
وتبقى هنالك مساحة؛ لأن قضية الثوابت ضاعت بين الإفراط والتفريط، بين الذين ضيقوا وأدخلوا المتغيرات ومسائل الاختلاف والاجتهاد في الثوابت، فأوقعوا الأمة في حرج، وبعض الناس تفلتوا من الثوابت تحت باب التجديد، وهؤلاء عبر عنهم الأديب العربي الرافعي، قال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر. وقال أحمد شوقي :
لا تحذ حذو عصابة مفتونة يجدون كل قديم أمر منكرا
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمرا
من كل ساع في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصرا
نحن نحتاج لسبيل النهضة وبناء قدرة الأمة على أساس المنهج الوسطي الاعتدالي من غير إفراط ولا تفريط، من غير غلو ولا تقصير، أن يكون مرتبطاً بالأصل، وأن يكون متصلاً بالعصر. وشكراً جزيلاً.
المقدم: لا فض فوك. جزاك الله خيراً.
مداخلة لبعض الأخوات حول الانفتاح العالمي
المقدم: مداخلة للأخوات.
مداخلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نشكر للشيخ سلمان العودة مشاركته وحضوره في هذا المؤتمر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل هذا المؤتمر بداية خير لجمع كلمة المسلمين وإعلاء رايتهم.
ونرجو أن تسمحوا لنا بمداخلتين وسؤال موجه لفضيلة الشيخ.
المداخلة الأولى من الأخت هاجر محمد الهوساوي من الندوة العالمية المنطقة الشرقية .
مداخلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
مداخلة: باسمي وباسم الأخوات جميعاً في فروع مكاتب الندوة بـالمنطقة الشرقية نتقدم بأسمى آيات الشكر والعرفان لمكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي بـالرياض على هذه الجهود المباركة التي جمعتنا مع جهابذة في العلم والفكر، استقينا منها الكثير، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسددنا، ويرزقنا القدرة على التطبيق والعمل.
بالنسبة للمداخلة هناك نقطتان أحب أن أطرحها:
حقيقةً كلام الشيخ سلمان والإحصائيات التي ذكرها دار في أنفسنا تساؤل كبير: ترى ما هي البرامج البديلة المشوقة التي يحبها الشباب، والتي قمنا بإعدادها حتى تتناسب مع ميولهم ورغباتهم ومطالبهم؟
أيضاً المحور الآخر: خطابي للعاملين في الحقل الدعوي والمؤسسات التربوية حول ضرورة تحديد الهدف عند وضع البرامج؛ لأن البرامج موجودة، لكن قد نجد فيها الارتجالية أحياناً مما يؤدي إلى الفوضوية في التنفيذ والخطط، كذلك عدم قطف الثمار من خلال الشباب، فالهدف أمر ضروري، والحملات الصليبية وغيرها من برامج التغريب كانت وفق أهداف محددة ومخططة من أتباعها، وكلنا لا ننسى الكلمة الشهيرة لأحد المستعمرين البريطانيين لإحدى الأقطار العربية حينما قال: (slowly but sure) أي: بطيء لكنه أكيد المفعول، فوجود الهدف أمر ضروري، فحبذا أن نضع هذا نصب الاهتمام.
كذلك محاولة إيجاد الألفة بين الدعاة والشباب، وهذا يساعد على القضاء على الفجوة الحاصلة بين الشباب والدعاة؛ لأن غياب الألفة جعلت بعض الدعاة والمربين يتعاملون من أبراج عالية في بعض الأحيان بالنسبة للشباب، لا تتناسب مع رغباتهم ومتطلباتهم، وإيجاد الألفة لا يعني أن نتخلى عن الثوابت والأصول، ولنا أسوة في ذلك بحادثة الشاب الذي دخل على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه وعن يساره كبار الصحابة، وهو يطلب الإذن بالزنا، ولم يسلك الرسول صلى الله عليه وسلم لمعالجة الموقف لا موقف اللوم ولا التعنيف، بل استخدم الألفة والحوار، فهذا متطلب أساسي حتى نكسب الثمار من الشباب. وجزاكم الله خيراً.
المقدم: جزاكم الله خيراً جميعاً، أكرر اعتذاري للإخوة الذين طلبوا المداخلات، وحقيقةً لا مجال أيها الأخوات، الوقت ضيق بالنسبة لنا.
مداخلة: بس سؤال للأستاذ سلمان العودة .
المقدم: نحتاج أيها الإخوة حقيقةً إلى مؤتمر آخر فقط لهذه المداخلات التي بين أيدينا، والأسئلة وهي كثيرة جداً.
مداخلة: عفواً، السلام عليكم.
تعليقات الشيخ الدكتور سلمان على المداخلات
المقدم: ونترك المجال للشيخ سلمان العودة حفظه الله ليعقب على هذه المداخلات، فليتفضل.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: ... باقي من الوقت دقيقتان والأخت ...
المقدم: علق أنت أول وبعدين الأخت.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: يمكن ما تسمعني الأخت، لكن أقول: لأن عندي تعليقات على ما سبق، فإذا كان أختنا..
المقدم: أنا أقول للشيخ: علق أول، ثم نسمع الأخت. تفضل.
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: طيب، حقيقة لا أريد أن أطيل، لكن معظم الأشياء التي ذكرها الإخوة لا شك أنها أشياء صحيحة، ولذلك أعتقد أنه لا داعي للتأكيد عليها، وبعضها كانت موجودة في التوصيات التي جمعت فيها بعض الأفكار التي طرحت.
التعليق على مداخلة الأستاذ خالد مشعل
فيما يتعلق بمداخلة الأستاذ خالد مشعل تعليقاتي ستكون مختصرة للوقت.
أولاً: الإحصائيات التي ذكرت في تقديري إنها إحصائيات جزئية وجانبية، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن هذه الإحصائيات تحكي الواقع، لا، هي تحكي واقع شريحة من الشباب، لكن لو أردنا أن ننظر للمجتمع كله سنجد أنه في المقابل هناك شريحة الملتزمين، وهي تشكل نسبة كبيرة، سنجد أن هناك شريحة عريضة من الناس العاديين الذين لم يأت عليهم الإحصاء، نحن نتحدث الآن عن شريحة ربما نقول: وقعت ضحية لبعض المتغيرات، وبعض مظاهر الانفتاح.
التعليق الثاني: أن شمول المسلم لا يعني بالضرورة شمول الإسلام، نحن نؤمن بأن الإسلام دين شامل، وينبغي أن يهيمن الحياة كلها، لكن لا يعني هذا بالضرورة أن كل مسلم يكون عنده هذه الشمولية والقدرة على أن يقدم تصوراً ورأياً وحكماً في كل القضايا.
قضية فلسطين -التي ذكرها الأستاذ خالد في تقديري أنها- هي رمز ناضج وناجح يمكن أن تجتمع عليه الأمة؛ لأن الأمة ما لم يكن لها قضايا تجتمع حولها فإنه يكون عندها كثير من الشتات، ولذلك مثل هذه القضايا الناجحة التي تدار ولله الحمد بيقظة وذكاء واعتدال، ربما يكون من الحكمة أن تظل قضية رمزية تجتمع حولها أطياف الأمة كلها.
فيما يتعلق بقضية الوضوح، في تقديري أن من المستجدات في موضوع الواقع اليوم: الوضوح، فالعالم يتعامل بوضوح، والإعلام أصبح يناقش كل القضايا، في الغرب كل القضايا مطروحة للحوار، بينما في العالم الإسلامي وحتى على صعيد العمل الإسلامي يفتقر الأمر إلى قدر أكبر من الوضوح في معالجة القضايا، والصدق في هذه المسائل.
فيما يتعلق أخيراً بمداخلة الأستاذ خالد موضوع اجتماع الجماعات الإسلامية، هذا مطلب عزيز، وسبق أنني تحدثت عنه في أكثر من مناسبة حديثاً مستفيضاً، لكني أؤكد الآن أن من المهم أن ندرك أن الاجتماع الإسلامي ينبغي أن يكون اجتماعاً على منهج وليس على رأي فرد أو جماعة.
الكثيرون يتبرمون من هذا الواقع المرير ومن هذا الاختلاف، لكنهم هم جزء منه يصنعونه من حيث لا يريدون ولا يشاءون، فعلينا أن ندرك أنه لن يتحقق اجتماع ما لم يكن هناك تربية على نوع من التعددية، وتوسيع أفق التعاذر فيما بيننا، وإعمال مبدأ حسن الظن، واعتبار أن اجتهادات الآخرين وآراءهم يمكن أن تكون صواباً.
التعليق على مداخلة الأستاذ خالد جاب الله
فيما يتعلق بمداخلة الأستاذ جاب الله وحديثه عن الاستعمار، فقفز إلى ذهني مصطلح الاستعمار عن بعد، العالم الآن يتكلم عن التعليم عن بعد، فربما العولمة تهدف في بعض جوانبها إلى نوع من الاستعمار عن بعد، وليس في نظري أنه هناك مجال للمناقشة حول هذه العولمة وإلى ماذا تهدف؟
لكن دعونا نسأل أنفسنا: كيف نتصدى لها؟ فأعتقد أن هذا هو السؤال الملح؛ لأننا قد لا نستطيع أن نرد هذه الاتجاهات وهذا الانفتاح وهذا الطوفان، لكننا نستطيع أن نجد في هذا الظلام قدراً من الضوء، في نهاية النفق قد نجد نوعاً من الضوء الذي نستطيع أن نستثمره لصالح دعوتنا.
أيضاً أؤكد أن موضوع النصر لهذه الأمة يمكن أن يتحقق حتى بدون بلوغ درجة الكمال في الأمة كلها، الله سبحانه وتعالى نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين مع أنه كان عندهم مسلمة الفتح مثلاً، وكان عندهم الأعراب، وكان هناك ضعفاء النفوس، وكان هناك المنافقون، فإلى أي مدى نريد من الأمة كلها أن تكون على مستوى من الوعي والالتزام والفهم حتى يتحقق لها النصر؟
التعليق على مداخلة الأستاذ عبد الإله كيران
في مداخلة الأستاذ عبد الإله والنكتة التي ذكرها، ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))[الروم:41]، تذكرت نكتةً أخرى، وهي مهمة أيضاً؛ أنه أحدهم قالها للشيخ، وقصد بـ(البر) الرجل العالم أو الفقيه، و(البحر) هو الرجل الغني التاجر، فيشير إلى أن الفساد ظهر في هؤلاء وهؤلاء، وكما كان ابن المبارك يقول:
يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
فهذا الحقيقة يؤكد مبدأ طرحه الجميع، وهو قضية المراجعات الداخلية، مراجعاتنا كأفراد وكجماعات وكشعوب، وحقيقةً نحن نطرح هذا المصطلح، لكن نخفق في الواقع؛ نخفق لأننا تربينا على نمط من التفكير يجعلنا حتى مع المراجعة نكتشف بأن ما نحن عليه هو صواب، بينما ربما نحتاج إلى ألوان من تصحيح التفكير تجعلنا قادرين على اكتشاف الخطأ الموجود عندنا أفراداً وجماعات ودولاً.
هناك ثلاث سور قرآنية ربما يكفي الإشارة إلى عناوين هذه السور في موضوع مواجهة العولمة: سورة الشورى، وسورة الحديد، وسورة القلم أو (اقرأ).
ففي الشورى يظهر فيها معنى التعددية داخل المجتمع المسلم والصف المسلم، وهنا نفرق بين موضوع الثوابت والمسلمات، وبين الأمور القابلة للاجتهاد.
في سورة الحديد القوة التي لا بد للمسلمين من اعتمادها.
في سورة القلم المعلومات والمعرفة التي أصبحت هي شعار العصر.
التعليق على مداخلة الدكتور عصام البشير
مداخلة الأستاذ عصام، أولاً: ذكر التجديد، وحقيقة جزاه الله خيراً، يعني: كلمات طيبة، في تقديري أنه ونحن نذكر الشافعي أو عمر بن عبد العزيز أو ابن تيمية أو أي مجدد آخر، ربما كان من الاستدراك اللازم الذي فاتني الإشارة إلى أنه نحن ربما تاريخياً ننظر إلى واقعنا الإسلامي، ونحاول أن نعطي دور الفرد فيه أكثر مما يجب، بينما الحديث النبوي: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، (من) هنا قد تشمل الجماعة وليس فرداً بعينه، عمر بن عبد العزيز قد يكون رئيس فريق يقوم بمهمة التجديد، وليس شخصاً واحداً، وهكذا الشافعي أو أي عالم آخر يمكن أن نقول عنه، ولذلك فإني أوافق على سرد أسماء كثيرة وأقول: حتى هذه الأسماء ينبغي ألا يفهم إن هؤلاء هم أفراد المجددين، ولكن ربما هم أبرز من عرف، لما نتكلم عن صلاح الدين وتحريره لبيت المقدس، هنا نحن لا نتكلم عن شخص صنع معجزة، وإنما عن قائد قاد أمة كان عندها تهيؤ وتأهيل للقيام بهذا الدور.
الجانب الثاني: قضية التعددية، وهي وصية مكتوبة ضمن التوصيات، ولكن الوقت ضاق وداهمنا، ولذلك أنا أعتبر الموضوع ناقصاً؛ لأنه عدد من الأشياء الأساسية لم ترد.
موضوع الإسلام، وقضية التعامل مع المسلمين الجدد أذكر بهذا قصة، وهي قصة صحيحة ذكرها عدد من المؤرخين، وهي أن قوماً كانوا في روسيا، وكانوا على الوثنية، فأحبوا أن يدخلوا في دين، وبحثوا عن الأديان السماوية، فوجدوا أن الإسلام خيرها، فبعثوا إلى فقيه مسلم قريب منهم وقالوا له: وجدنا الإسلام خيراً، ولكننا نريد أمرين:
الأول: قضية الخمر، لا نستطيع أن نستغني عنها؛ لأن بلادنا بطبيعتها وظروفها ومناخها تحتاج إلى هذا الأمر.
الثاني: قضية الختان.
فقال لهم هذا الرجل: لا يمكن أبداً، الإسلام لا يمكن أن يقر هذه الأشياء، ولا يسمح بها، إما أن تسلموا وتقبلوا بهذه الأشياء، أو تبقوا على ما أنتم عليه، فبحثوا ودخلوا في الديانة الأرثوذكسية .
فهنا نلاحظ كيف أن هذا الرجل لقلة فقهه وعلمه كان بإمكانه أن يتدرج معهم، وأن يقنعهم بأن الإسلام دين شامل، وأن المسلم حتى لو ارتكب خطأ يظل مسلماً، والإسلام يقبل أن يقع المسلم في بعض الأخطاء، بل الله سبحانه وتعالى ذكر أهل الجنة: ((إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ))[آل عمران:135] ، نعم لا يقبل منه الخطأ على أنه يعتبره خطأ، لكن كونه يقول هذا الخطأ ويفعله لظروف أو لاعتبارات معينة خصوصاً حديث العهد بالإسلام أيضاً، وقد جاء أقوام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن لهم بأشياء من هذا القبيل، كما ذكر غير واحد من أهل العلم.
يبقى موضوع الثوابت والمسلمات التي ذكرها الدكتور أيضاً؛ في تقديري أن ثمة فرقاً بين الثوابت وبين المسلمات إن صحت هذه التسمية أو الاصطلاح، يعني: نقصد بالثوابت الثوابت الدينية الشرعية التي هي محل إجماع، قطعيات الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة الإجماع القطعي الذي لا إشكال فيه، يدخل في ذلك أركان الإيمان، أركان الإسلام، أصول الأخلاق، أصول المحرمات.. إلى غير ذلك مما هو محل اتفاق، بينما هناك أشياء ربما نعبر عنها بالمسلمات، ونقصد بها مسلمات جزئية أو مرحلية، في مجتمع معين هناك مسلمات، بل داخل جماعات إسلامية عندهم مسلمات في النظر إلى مواقف معينة تجاه الآخرين، هذه المسلمات ليست مسلمات شرعية، هي مسلمات اجتمعوا عليها أشبه ما تكون بمصطلح خاص.
أيضاً أشير إلى معنى مهم، وهو أن بعض الإخوة الآن من فرط غيرتهم ربما أصبحوا يستخدمون ما يسمى بالتخريج على المسلمات، يعني: هناك مسلمات شرعية، فمن أجل أن نعطي أهمية خاصة لرأي ننتحله نربطه بمسلمة معينة، حتى لا يكون لأحد الحق في مناقشته، وهنا قصة موسى وهارون عليهما السلام لما عبد بنو إسرائيل العجل، فصبر عليهم هارون ولما جاء موسى عاتبه، لماذا تركهم؟ فقال: ((يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي))[طه:94]، فقال: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))[الأعراف:151].
هنا الإنسان الذي ينظر إلى الأمور نظرة معتدلة يدرك ويلاحظ أنه لم يكن هناك خلاف بينهم في قضية التوحيد، وفي قضية الإيمان، وإنما الخلاف إجرائي عملي في التعامل مع انحراف معين وقع في ظرف خاص، هنا يكون الأمر أخذ مداه، لكن لو حصل نظير هذه القصة بين مجموعة من المؤمنين ومن الدعاة ربما بعضهم من أجل أن يفاصل أخاه ويفارقه، قال له: هذه القضية لا تحتمل أخذاً ورداً، هذه قضية تتعلق بالإيمان بالتوحيد، وبالتالي فاصل عليها، فهذا ما يمكن أن نعبر عنه بالتخريج على الثوابت التي ينبغي أن يتوقف الجميع عنها.
وجود برامج خاصة في ظل العولمة
أما ملاحظة الأخوات فهي عبارة عن كان سؤالاً حول البرامج، أنا أؤيد هذا السؤال، وأقول: إن وسائل العولمة الجديدة الإنترنت مثلاً هناك إحصائيات عن الأطفال، عن النساء، حتى في إسرائيل وهي من أكثر الدول تقدماً في موضوع العولمة والمعلوماتية؛ تجد أن هناك برامج خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، بينما في العالم الإسلامي ربما يكون الخطاب واحداً والبرامج واحدة، أن يكون هناك خطاب للنساء، خطاب للأطفال، خطاب للتجار، خطاب للكبار، خطاب لأصحاب الظروف الخاصة، هذا أمر تحتاج إليه الدعوة، وأعتقد أننا بحاجة كبيرة إلى الإبداع في هذا الجانب.
المقدم: جزاك الله خيراً.
في الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما سمعنا وقلنا في ميزان حسناتنا أجمعين، وأن يجعله حجةً لنا لا حجةً علينا، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا المسلمين المجاهدين في فلسطين، يسدد رميهم، ويزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، هو ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق