تأملات في عقد الأحزان
الغالبية العظمى من الدول العربية غارقة في أزماتها المتعددة، ومؤشراتها التنموية المتدنّية، وانتكاساتها الهيكلية المتلاحقة، وتخبطاتها السياسية والأمنية والاقتصادية والفكرية، بصورة لا تتناسب مع تسارع الأحداث الكبرى في العالم، وتلاحق آثارها على جميع الدول، المتقدمة والنامية بلا استثناء، في ضوء التطورات المتصاعدة للحرب الروسية على أوكرانيا، وامتداداتها العسكرية المحتملة، وفي ضوء المواجهة المتنامية بين الصين والولايات المتحدة. تنشط الهياكل المؤسسية الإقليمية والدولية في العالم لجمع المعلومات، وتشخيص الأزمات، واقتراح الحلول الممكنة لتجنب الآثار الكارثية الاضطرارية لهذه الأحداث والاحتمالات، أو الحد منها على الأقل.
وفي المقابل، نجد الوضع في المنطقة العربية يسير كأنها في كوكب آخر، أو كأنها في إجازة صيف مفتوحة، وكل شيء فيها على ما يرام، من دون أن تبادر إلى إيجاد حلول محلية وإقليمية جادة، تساعدها على القفز إلى الأمام، وتجاوز انتكاساتها المتلاحقة، وفشلها المطبق، فإلى متى سيستمر هذا الوضع العربي القاتم؟ ولماذا نهدر الفرص التي تسوقها المجريات من دون الاستفادة منها في معالجة واقعها المتردّي؟
الاستقرار السياسي لا يتحقق في وجود الاحتقان الداخلي، والاستبداد بالسلطة، وقمع الشعب، وتضليله، وانتهاك حقوقه الدستورية، واستعداء مكوناته الوطنية والمدنية، ولا يتحقق بالصراعات الداخلية أو البينية، ولا بمخالفة حركة التاريخ، وإنما يتحقق بالمصالحة، والتوافق الوطني، والسيادة الكاملة، والعدالة الشاملة، ومن دون ذلك لن يكون هناك تنمية ولا نهضة ولا تطور.
انهيارات متواصلة
منذ عقود وسمعة العرب بوجه عام في الحضيض، حيث ينظر إليهم باعتبارهم مصدر الإرهاب العالمي، والتطرف الإسلامي، والقاعدة، وداعش، والصراعات الدموية المتسلسلة، والانقلابات، والاستبداد والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، وهم الأكثر ثراء، والأكثر تراجعا في التنمية مع شيوع للتفرقة بين مكوناتها وبعض طوائفها. ورغم التقارير السنوية التي تصدرها الهيئات الدولية والمؤسسات المختصة عن تردّي مؤشرات التنمية في الدول العربية في شتى المجالات، والتوصيات التي تقترحها هذه التقارير، فإن التعامل العربي الرسمي معها غالبًا ما يكون بعدم الاكتراث، كأنها لا تخص الدول العربية، التي تسارع في التشكيك في هذه المؤشرات، واتهام الجهات التي تصدرها بأنها مغرضة وغير نزيهة، أما إن ورد فيها شيء إيجابي يخص دولة بعينها، فإنها تسارع في تعليق الزينات وإطلاق الزغاريد.
منذ أكثر من عقود عدة، والشارع العربي بشكل عام يتقلب بين آلام القمع والاستبداد والتخلف والتمزق والإحباط، واليأس من أن يحمل له المستقبل شيئًا سعيدًا، فقد توالت الأحداث والتجارب على رأسه، من فشل إلى فشل، ومن أزمة إلى أخرى. نجاح باهر في صناعة الأزمات وتدبير المؤامرات وتفجير الصراعات، يقابله فشل ذريع متواصل في إيجاد الحلول، والخروج من الأزمات، وإنهاء الصراعات، وتحقيق الاستقرار، وتسوية الخلافات، والقيام بالمصالحات والتسويات التي تحافظ على وحدة الصف وتعزيز التعاون المشترك. لقد بلغ الانهيار الفادح في مؤشرات التنمية العربية حدًّا جعل الهجرة إلى الدول الغربية أمل الشباب العربي والنخبة على حد سواء، بمعدلات بلغت في بعض الدول نحو ٥٠% كما في الأردن والسودان وتونس، حسب تقرير موقع "عرب باروميتر" عن "الهجرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الصادر في يونيو/حزيران الماضي.
واصلت التنمية البشرية تدهورها في عموم الدول العربية في شتى المجالات. فتقرير التنمية الإنسانية العربية 2022م، الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في يونيو/حزيران الماضي، يشير إلى أن اقتصاد المنطقة انكمش بنحو 4.5% عام 2020م، وأنه ليس من المرجح أن يتعافى في العام الجاري، نظرًا للتحديات التي تواجه المنطقة، وقد أدى العجز المالي الضخم إلى زيادة الدين الحكومي، مما أسهم في تفاقم الوضع الهش للديون، إذ بلغ متوسط الدين الحكومي الإجمالي للمنطقة ذروته عند 60% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020م، بزيادة نحو 13 نقطة مئوية على عام 2019م، كذلك انخفض صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة بنسبة 6% عام 2020م، كما ارتفع معدل البطالة في منطقة الدول العربية إلى 12.6% عام 2021م، أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي البالغ 6.2%.
وأوضح التقرير كيف أن عدم كفاية التمويل العام ألقى بعبء الرعاية الصحية على المرضى، حتى بلغ متوسط الإنفاق الشخصي على الصحة نسبة 28% من إجمالي الإنفاق على الصحة، مقارنة بـ18% في جميع أنحاء العالم، ولكن مع استثناء كبير، حيث انخفض إلى 6.6% في سلطنة عُمان وارتفع إلى 81% في اليمن.
ويشير التقرير إلى أن نسبة المواطنين العرب في دول المنطقة، الذين يعتقدون أن حرية التعبير مضمونة إلى حد كبير أو متوسط، تراجعت بمقدار 20 نقطة مئوية منذ عام 2016، من 63% إلى 43%، أي إن أكثر من نصف الشعوب العربية يفتقدون حرية التعبير التي تنص عليها دساتير دولهم وتشريعاتها.
ويعزز هذه الصورة القاتمة "مؤشر السلام العالمي" لعام 2022م، الصادر في يونيو/حزيران الماضي، عن معهد السلام والاقتصاد العالمي في أستراليا، حيث أظهر المؤشر أن الدول العربية هي الأقل سلامًا في العالم للعام السابع على التوالي. وكانت الدول الخمس الأكثر سلامًا هي قطر والكويت والأردن والإمارات وعُمان، على الترتيب، والدول الخمس الأقل سلامًا في ذيل القائمة هي ليبيا والسودان والعراق وسوريا واليمن، على الترتيب.
وقس على ذلك في سائر مجالات التنمية البشرية الأخرى. تصف السيدة خالدة بوزار، المديرة المساعدة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومديرة المكتب الإقليمي للدول العربية، تصف منطقة الدول العربية بأنها عانت في شتى المناحي من الهشاشة والتباين الشديد في مستويات التنمية بين بلدانها، ومع ذلك فإن هذه الهشاشة ليست قدرًا محتومًا عليها، فالمنطقة ممتلئة بالإمكانات والقدرة على الابتكار، ولديها المعرفة والحلول للتصدي لما تواجهه من تحديات.
نحو تصحيح المسار
ما بال دول المنطقة العربية لا تستجيب، ولا تقوم بما عليها من خطوات جادة، داخلية وإقليمية، لتجاوز الإشكالات الضخمة والتحديات الهائلة التي تواجهها، والتي تبدأ بتحقيق الاستقرار السياسي الذي لا يتحقق قطعًا في وجود الاحتقان الداخلي، والاستبداد بالسلطة، وقمع الشعب، وتضليله، وانتهاك حقوقه الدستورية، واستعداء مكوناته الوطنية والمدنية، ولا يتحقق بالصراعات الداخلية أو البينية، ولا بمخالفة حركة التاريخ، وإنما يتحقق بالمصالحة، والتوافق الوطني، والسيادة الكاملة، والعدالة الشاملة، ومن دون ذلك لن يكون هناك تنمية ولا نهضة ولا تطور.
نسبة المواطنين العرب في دول المنطقة، الذين يعتقدون أن حرية التعبير مضمونة إلى حد كبير أو متوسط، تراجعت بمقدار 20 نقطة مئوية منذ عام 2016، من 63% إلى 43%، أي إن أكثر من نصف الشعوب العربية الآن يفتقدون حرية التعبير التي تنص عليها دساتير دولهم وتشريعاتها.
على مدى العقد الماضي، عاشت الأمة العربية آلامًا ومرارات فادحة لم تشهد لها مثيلًا في تاريخها المعاصر، بحيث يصلح أن نطلق عليه "عقد الأحزان"، لكثرة ما شهد من صراعات مسلحة ودمار وقطيعة وانهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وحضارية. وما يزيد المرء حزنًا وألمًا استمرار هذه الصراعات والانهيارات، وتأخر التحرك المعاكس الذي يضع حدًّا لها، ويعيد تصحيح المسار، لما فيه مصلحة دول المنطقة وأنظمتها وشعوبها، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى وصفة سحرية، وإنما يحتاج إلى قليل من المراجعة للمنطلقات والخطط والممارسات الراهنة المسببة للكارثة، والإبداع في إيجاد الحلول البديلة القائمة على الحكمة والمتوافقة مع الأسس الوطنية التي تحقق الاستقرار الداخلي، والأسس الإقليمية التي تحقق التوافق والتكامل بين دول المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق