أيها الراقصون على جراحنا مهلا، أوطاننا تبكي بدلا عنا !!
المكان: بريطانيا العظمى، التاريخ: هذا الأسبوع، الابطال: شعوب العالم الثالث، الحدث: وفاة ملكة
بين برقيات تعزية وتنكيس أعلام وحضور إعلامي ودبلوماسي لا نظير له، نعى العالم أجمع المقدر بمليارات البشر من خلق الله، هذا الأسبوع، رحيل ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، معتبرا إياها رمزا كبيرا وإرثا في صفحات التاريخ المشرقة بأسودها وأبيضها وكذا رمديها، ليس فقط بالنسبة لبلدها بريطانيا العظمى ودول الكومنولث التابعة لها تحديدا، بل والمعمورة بقاراتها الخمس عموما بما فيه دولنا الإسلامية المغلوبة على أمرها !!
إذ تناقلت وكالات الانباء أزيد من أسبوع ليلا ونهارا، خبر وفاة الملكة الأطول حكما لبريطانيا، عن عمر يناهز 96 عاما، والتي حكمت خلالها منذ أن كانت في الـ 26 من عمرها، والأمر الذي استوقفني في هذا الخبر هو هذا الإخلاص البشري الأعمى للتاج الملكي البريطاني الذي جعل ملايين البشر في بريطانيا الاستعمارية وحليفاتها الغربية والعربية عبر العصور، يحرصون ليس فقط على مرافقة الجنازة بضع ساعات أو يوما بل أزيد من عشرة أيام بلياليها وفيهم من نام في العراء أياما وليال ليظفر بلحظة مرور الموكب الجنائزي أمام عينيه!!
ناهيك عن حضور كافة حكام العالم تقريبا بما فيهم الحاكم الأمريكي الذي فرضت حاشيته أولوياتها الأمنية باستعمال سيارات مصفحة في تنقلاته، اما باقي الحكام فقد أرغموا على الركوب مجتمعين كقطيع واحد في حافلات مخصصة لذلك، بدل الركوب في سيارات مصفحة خاصة بكل حاكم!!
فعلا هذا الامر فاق كل تصور وتقدير للملاحظين الغربيين ليس في أوروبا فحسب، بل وادهش العالم أجمع، مستغربين أنه لأول مرة جنازة تخطف أنظار كل الناس، نساء ورجالا أطفالا و شيوخا!!
وللذين غاب عنهم المشهد، استوقفتني أمور أخرى أهم وأوكد بحيث آلمتني أمرها كثيرا!!
إنها بيانات وبرقيات التعزية الصادرة من مختلف أنحاء العالم تنعي الملكة البريطانية الراحلة، ورغم أن تعازي الدول الغربية التي رصدتُها كانت في عمومها ديبلوماسية ومادية مصلحية بامتياز فرضتها عدة اعتبارات يضيق المجال لذكرها، أما الأمر الذي استوقفتني أكثر وأدهشني لقوته ونديته، هو برقية الدولة العبرية التي كانت هادئة وموزونة ومقتضبة، بل ومترفعة!! بحيث اعتبر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتصوغ، وفاة الملكة اليزابيث الثانية هي “نهاية حقبة” لا غير!!
أما الباكون بدموع التماسيح من بني عربستان، ومملكات الموز في دولنا الإسلامية فلم تنكس أعلامها حزنا على الفقيدة فقط عدة أيام، بل لبست الأسود طيلة أيام الأسبوع، ودعت للمرحومة بالخير ولم يبق للعرب الا أداء صلاة الجنازة عليها حضوريا أو تكليف أئمتهم بالاصطفاف لأداء صلاة الغائب على (الفقيدة)!!..
وهذه نماذج برقيات الزعماء العرب، حيث أبرق الجنرال السيسي باسم مصر بقوله ” لقد ساهمت – المرحومة – في تقديم نموذج فريد للقيادة الملهمة، وللقيم الأخلاقية النبيلة “، بدوره قدم ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، التعازي إلى الملك تشارلز الثالث، مؤكدا أن “العالم فقد برحيل الملكة اليزابيث الثانية رمزاً كبيراً في الانسانية والحكمة والتسامح”!! و أبرق ملك الأردن، مستشهدا بقوله: “كانت الملكة منارة للحكمة والقيادة (..) نقف إلى جانب شعب وقيادة إنكلترا في هذا الوقت العصيب” (وشعبه يموت جوعا ويقتله الظمأ).. كما بعث أمير الكويت ببرقية مماثلة مؤكدا أن “العالم فقد قائدة عظيمة اتسمت بالحكمة والخبرة وبعد النظر”!!، كما أبرق رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان تعزية بقوله: “اتسم عهد حكم الملكة المديد بالكرامة والرحمة والالتزام الدؤوب لخدمة وطنها..” نِعْم الكرامة والرحمة البريطانية تلك ؟؟، كما قدم الرئيس العراقي ونظيره الفلسطيني، تعازيهما للشعب البريطاني، معربين هم أيضا عن “حزنهم العميق لرحيل الملكة (التي أستعمرت دولهم عقودا)، نعم حزن حكامنا العميق عن فقدان الملكة، يقض مضاجع الأحياء وحتى الموتى، ولله المشتكى !!
لله در المفكرة يمان السباعي صاحبت كتاب ” الراقصون على جراحنا “:
وبهذا أكون قد نقلت بأمانة نصوص التعازي، واترك للقارئ العربي الكريم حق التصرف والتعليق على هذه النماذج من حكامنا، الذين صاروا بحق وحقيقة دمى ترقص على جراحنا الدامية، كما عنونتْ ذلك المفكرة المجاهدة السورية يمان السباعي المقيمة حاليا في إسبانيا، أحد كتبها منذ أزيد من ثلاثين سنة خلت، بعنون ” الراقصون على جراحنا”، بحيث كتبت – حفظها الله – تقول في مقدمة كتابها الراقصون على جراحنا: “إن الأمم تداوي جراحها بينما نحن نمسك بالمدى لنوسع الجرح ونجعله ينزف وينزف حتى يغرقنا بدماء العار!! وإن الذين يريدون أن يدركوا أهدافهم يعملون باستمرار، بينما نحن نائمون، إن الجراح قد تكاثفت على جسد أمتنا وتنوعت وتعددت ومنها ما تعفن واستعصى شفاؤه !! منها الجراح الاجتماعية ومنها السياسية ومنها الاقتصادية، ومنها الأخلاقية ومنها الفكرية والأدبية، وهذه الأخيرة هي مثار بحثنا لأهميتها في بناء أو تهديم صروح الحضارة.. وإن الجراح قد أثخنتنا حتى صارت أجسادنا مغطاة بوشاح سميك منها فحتى متى ؟؟”.
مضيفة بقولها: ” إننا أمة مسلوبة الأرض، وشعب مسلوب منه حقه في تقرير مصيره، ورغم هذا وذاك نجد شبابنا صورا منسوخة عن أحد المائعين المتفلتين الواردين إلينا عبر الأثير، لا يعرفون إلا الرقص والغناء، والغناء الأجنبي منه بشكل خاص ولا يجيدون إلا لغة الحب والغرام، وكلهم يحملون سلاحا واحدا مؤلفا من مشط ومرآة !!… هذا حال الشباب، أما الفتيات فهن مجموعة من الراقصات المائعات المتفلتات النازعات لحجاب الأخلاق، المتفلسفات باسم الحرية!!”
وآن لأوطاننا ان تبكي بدلا عنا:
نعم، نحن كذلك يا أختاه مع كل أسف واكثر من ذلك أحيانا !!.. وصف عميق دقيق لحالنا من طرف المفكرة يمان السباعي، فمتى تستيقظ أمتنا ومتى تصحو نخبتنا من غفلتها وغفوتها التي دامت اجيالا وأجيالا، وهنا أستعير عنوان مقالي هذا ” أوطاننا تبكي بدلا عنا “، أستعيره من أهات وزفرات الشاعر العراقي مصطفى محمد غريب عن كتابه النفيس الجديد بعنوان:” وطن يبكي بدلا عنا”، بحيث يقول – بعض أهل الاختصاص- عن معاني “وطنٌ يبكي بدلاً عنا” عبارة عن عرض عميق لقضايا عقدية خلقتها أحداث متضاربة امتدت إلى عمق التاريخ ثم ذهبت للحاضر والمستقبل، وعلى الرغم من أنها مجزأة بالقصائد لكن القارئ سيجدها كأنها ملحمة من الرسوم التجريدية والتشكيلية تحاكي الوجدان الإنساني قبل أي عنصر آخر وتتفاعل مع البيئة المنفردة التي أصيبت بالإرهاق والتدمير، قال أحد النقاد أن ” العنوان وطنٌ يبكي بدلاً عنا هو ديوان شعري بحد ذاته لأنه يتحدث بلغة العام إلى الخاص”، وهذه بعض القطوف من أشعاره الباكية على حالنا، التي حملت هذا العنوان:
لا تبكي
فبكاؤك مثل الجمر البركاني
يحرق لي كبدي
يتصاعد في اشجاني
ولأني ابكي
وعلى مهلٍ احكي
وازيد بكائي
وبكاؤك يجهش لبكائي
وبكاؤك في تعذيبي هو الجاني
كي اغسل احزاني
وبكائي يحرق اجفاني
وبكاؤك اللحن الانساني
يا حزني في البعد وفي قربي يعلن قرباني
يا وطني الدامي
تبكي لدموعي في عز شقائي
……………
ماذا؟ وطنٌ يبكي بدلاً عنا
قول لي اين شموعك يا قرة عيني؟
اين الفرح الإنساني؟
يا ضحكة آذار الحاني
يا بلسم جرحٍ قاني
لا تبكي لبكائي
فبكائي المتواصل في زمنٍ قل عتابي
وطنٌ يبكي بدلاً عنا
يا وطني المنصوب على سيف القرصان المتصابي
يا صادق في وجداني
يا فرحة آذار الشعر القادم في ألحاني
يا وطن القامات، القامات لا تبكي..
اين الرجولة من وطنٍ يبكي بدلاً عنا!
: ” إنني لست لنفسي وانما أنا للأمة، أُعَلِّمُ أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها ”
ومعاضدة لهذه الآهات السورية والعراقية الباكية، على دول إسلامية مزقتها قوى الغدر العربي والبغي الغربي الأمريكي بمباركة بريطانية في عهد طوني بلير وتحت سلطان الملكة المتوفاة، جاعلة من خيرات عراق دجلة والفرات صحراء قاحلة “كالعيس في البيداء يقتلها الظماء.. والماء فوق ظهورها محمول”!!!، و هذا ليس وصف شاعر مغمور، بل كاتب هذا السطور زار العراق وشعب العراق ووقف على هذا الخراب الفظيع الذي خلفته الحرب الأمريكية على أرض العراق بغض النظر عن الطائفية المقيتة التي شتتت شمل الأسر العراقية شذر مذر..
وهنا تحضرني كلمات ذهبية للعلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس، “الزعيم الروحي لحرب التحرير”، كما عنوان ذلك الكاتب المصري محمود قاسم أحد كتبه، إذ يعد الشيخ بن باديس في نظره – أمة لوحده – حقا وصدقا، نخوة وثباتا في وجه المستعمر الفرنسي الغاصب رغم قلة العدة والعتاد، واصفا إياه للقارئ الكريم، كيف كان الامام يضحي بكل ما يملك من أجل الجزائر وشعب الجزائر ولغة الجزائر ودين الجزائر، ناصحا ومرشدا لأصحابه ومربيا للأجيال بمقولة بن باديس الشهيرة :” إنني لست لنفسي .. وانما أنا للأمة، أُعَلِّمُ أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها .. إنني أعاهدكم على أن أقضي بياضي – أي شيبتي- على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما .. واني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن .. هذا عهدي .. واطلب منكم أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغتهما”.
فأين نحن، يا سادة كرام، من كل هذه الرجولة والنخوة الباديسية وحكامنا العرب يمجدون جلادي العرب ليلا نهارا، بالانبطاح في أوحال أكثر عمقا ومهزلة عاما بعد عام، وعصرا بعد عصر.. صحيح ان العالم صار قرية واحدة، وصحيح أيضا أن واجب التعزية ديبلوماسيا مطلوب، لكن ليس على حساب ثوابتنا وتقاليدنا وعقيدتنا وكرامة شعوبنا وحرية قرار أوطاننا ..
لا يغيب على نباهة البله منا، أن هناك ألاف تعابير التعازي باسم الدول أو الحكومات أو الهيئات، وعقل المسلم كبير متفتح لا يخلو من فنون التعابير الراقية المناسبة لمثل هكذا مناسبات، والأيام دول كما جاء في السياق القرآني في سورة آل عمران ” وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ” ربح من ربح و خسر من خسر، وحسبنا الله ونعم الوكيل على دراويش العرب، ولا حول ولا قوة الا بالله.. إليه المشتكى وإليه أنيب !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق