دموعٌ من الحبشة.. ترثي إمام الوسطية
- العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
في عام 2005م، كان كاتب هذه الأحرف طفلا في عامه الرابع عشر بقرية نائية من قرى إثيوبيا. وكانت قريتنا –وغيرها الكثير من القرى الإثيوبية- تتعرض لضخ تبشيري هائل، وتخضع لإجراءات تعسفية من الجمعيات المسيحية المتطرفة. فكنا ممنوعين من الصلاة في المدارس، كما كانت فتياتنا ممنوعات من ارتداء حجابهن.
وشاء ربك أن تنظم المدرسة مسابقة فزت فيها فكرمت بثلاثين برا إثيوبيا. خرجت سعيدا بالمبلغ المالي فوجدت رجلا يبيع كتبا أمام المسجد فاشتريت منه كتابين مترجمين للغة الأمهرية. كان أحدهما بعنوان "المبشرات بانتصار الإسلام" والثاني: "مكانة المرأة في الإسلام" وكلامها من تأليف الدكتور يوسف القرضاوي.
اشتريت الكتابين وقرأت "المبشرات بانتصار الإسلام". وقد أجاب الكتاب على الأسئلة التي كان يضج بها عقلي الصغير، كما خاطب وجداني وهزه هزا عنيفا. هزني الكتاب للعمل، وحركني للإيجابية، وانتشلني من وهدة السلبية والكسل والشكوى من المبشرين فحسب. فتحمست كي أقوم بعمل اجتماعي ودعوي يعيد لنا الحق في الصلاة في المدرسة، ويسمح لأخواتنا بلبس ما يشأن. فجمعت مجموعة من التلاميذ ونجحنا في مساعينا على أكمل وجه.
القرضاوي هو عالم الأمة الأبرز، وحبرها الأعظم، وصوتها الذي لا يكل، ومفتيها الذي يدور مع الحق حيث دار، ومجدد فتاويها.
ثم قرأت الكتاب الثاني الذي كان عن "مكانة المرأة في الإسلام". وبعد قراءتي له قمت أحاضر عنه وأشرح مضمونه لزميلاتي الطالبات، مما أحدث هزة وعي داخل المدرسة.
وهكذا يمكنني التأريخ لدخولي للفضاء الثقافي العام بفضل هذين الكتابين من كتب ذلك العلامة، عمل على ترجمتهم السفير حسن تاجو. فمنذ تلك الأيام وجدت الفكرة الإسلامية الناصعة الوسطية وما زالت هي منبعي إلى اليوم. فبسبب الشيخ القرضاوي أحببت ديني وتمسكت به في تلك البيئة التي كانت تتعرض لتضييق هائل.
لقد تعلمنا من الشيخ -في إثيوبيا- الاهتمام بقضايا أمتنا الإسلامية بأبعادها المتعددة، فوصلتنا قصة الأقصى بسبب صوته القوي وحججه الوضاءة. ومما لا يعرفه كثير من الناس في العالم العربي أن الشيخ القرضاوي ليس شيخا محصورا في فضاء عربي فقط. بل هو عالم الأمة الأبرز، وحبرها الأعظم، وصوتها الذي لا يكل، ومفتيها الذي يدور مع الحق حيث دار، ومجدد فتاويها، والمنفعل بالأسئلة الآنية التي يحتاج المسلم فيها لإجابات آنية شافية متكئة على الفقه الذي لا يخاف صاحبه.
حزنت كثيرا حين استيقظت فجأة على بكاء علماء الإسلام على الشيخ، فرأيت رثاء العلامة الددو، وحديث الشيخ عصام البشير وغيرهما.
حزنت كثيرا حين استيقظت فجأة على بكاء علماء الإسلام على الشيخ، فرأيت رثاء العلامة الددو، وحديث الشيخ عصام البشير وغيرهما. تخيلت المصاب الجلل، والداهية التي دهينا بها. لكن عزائي كان في تذكر حال الصحابة يوم نزل بهم نبأ وفاة حبيبنا صلى الله عليه وسلم. فلا مصيبة بعد رسول الله.
لقد ترجمت جل كتب الشيخ في إثيوبيا. ويعود الفضل في ترجمتها ونشرها للسفير حسن تاجو، ومؤسسة النجاشي للطباعة والتوزيع. وقد وفقت لترجمة كتابه القيم عن قضايا الأمة "موجبات تغير الفتاوى في عصرنا" ولله الحمد.
الله وحده يعلم كم يهتز كياني حين كنت أسمع من يقول "قال لي الشيخ القرضاوي" أو "أخذت من الشيخ كذا" شوقا وحبا لأن أقابله. يا ليتني وفقت لزيارتك وقبلت قدميك. وها أنا أتفاجأ اليوم بوفاتك دون تحقق أمنية اللقاء بك.
رحمك الله، أيها الشيخ الجليل، فكم لك من أحبة هنا في الحبشة، أرض الهجرتين ممن لم يقابلك.
رحمك الله يا من حفظت فكر شباب أمتنا من الاعوجاج، وربيتها من بعيد مع تلونها واختلافها وتباعد أقطارها. وإنا على دربك سائرون. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق