الفرص العربية الضائعة.. الألم المتراكم فوق بساتين العنب(1)
أسئلة كثيرة تتردد على ألسنة جميع أبناء الشعوب العربية التي ما زالت تكتوي بنار الصراعات السياسية والعسكرية، وتقبع مستسلمة بسبب ذلك بين سنديان الفاقة والحاجة والتخلف والخوف، ومطرقة الاستبداد والقمع والتبلد والأنانية والفشل: لماذا يحدث لنا هذا؟ وإلى متى سيستمر بنا هذا الوضع؟ متى تتوقف آلات القتل الطائشة وبرامج القهر العمياء؟ كيف السبيل إلى حياة آمنة هانئة وإنسانية كاملة؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تتفق في مضامينها وتتعدد مفرداتها وعباراتها وصورها وألوانها. اجتاحت المنطقة العربية ريح ما يعرف بـ"الربيع العربي" فحدث في دولها ما حدث، وتوالت السنوات سراعًا على رؤوس قادتها وحكامها، وثقالًا على رؤوس شعوبها وضحاياها، فلا يمر علينا عام إلا وهو أسوأ من سابقه، وكم من الفرص تمر علينا وتتفلت من بين أيدينا من دون أن ننتهزها، ونتخذها بداية لفصل جديد للمصالحة وإعادة البناء، ليبقى الحال على ما هو عليه، ولتبقى الساعة تدور إلى الوراء.
تونس وعودة الدكتاتورية
أطاحت ريح "الربيع العربي" بالرئيس التونسي المستبد زين العابدين بن علي، وبدأت عملية إعادة ترتيب الأوضاع في الدولة ومعالجة آثار الاستبداد، وتأسيس الدولة الديمقراطية على أساس التداول السلمي للسلطة، وحرية التنظيم السياسي والترشح والانتخاب. لم يكن سهلًا على القوى السياسية الجديدة التي أثخنتها السجون والمطاردات والمنافي على مدى ٣٠ عامًا من الاستبداد أن تضرب الأرض بعصا سحرية، لتجد حلًّا لكل شيء وهي لا تملك شيئًا سوى الثقة بالله والأمل في المستقبل. استطاعت القوى التونسية الجديدة التي اعتلت السلطة لأول مرة في حياتها أن تقود الدولة في مرحلة انتقالية، تحتاج إلى كثير من المعجزات، لتؤمّن قواعد الديمقراطية وأسس الدولة المدنية، وتقيم التوازنات اللازمة بين القوى السياسية الداخلية، وبين القوى الإقليمية والدولية ذات المصلحة المباشرة وغير المباشرة، وتنظر في احتياجات الشعب، وإدارة الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا وعسكريًّا، الدولة التي ما زالت تقوم على أرض رخوة متحركة، تتربص بها كثير من القوى الإقليمية المناهضة للنموذج الديمقراطي من الأساس. ومع كثير من التجاذبات والاجتهادات والأخطاء، استطاعت القوى السياسية الجديدة أن تحافظ على القواعد الأساسية للدولة الديمقراطية الوليدة والوحيدة التي لم تنجرف إلى العنف والصراع والانسداد السياسي من بين دول "الربيع العربي".
قيس بن سعيّد يتصرف كأنه لم يعش التجارب الفاشلة لهذا النوع من أنظمة الحكم الشمولية المستبدة، على مدى عقود عمره السابقة في تونس وغيرها.
بدأت التجربة الوليدة تنتقل خطواتها الأولى بحذر شديد بين كثير من التحديات والمعوقات، ونجحت في إجراء انتخاباتها الأولى برئاسة المنصف المرزوقي نهاية ٢٠١١، ثم تلتها الانتخابات الثانية التي أتت بالباجي قائد السبسي نهاية ٢٠١٤م، وأخيرًا قيس بن سعيّد في ٢٠١٩م، الذي أخذ يقود التجربة بخطى متسارعة إلى الخلف، وبدلًا من أن يكمل المسيرة، ويعمل على تطوير التجربة ضمن مسارها الأساسي، بدأ في اجترار الماضي، وإعادة قولبة الدولة والنظام السياسي على مقاسه الخاص، للعودة بتونس إلى سابق عهدها من الدكتاتورية والاستبداد. وبدلًا من أن يعمل قيس بن سعيّد على أن يسطّر اسمه بحروف مضيئة في تاريخ تونس الحديث، ويحافظ على تجربتها ويعزز أركانها وقواعدها، نراه يضيّع الفرصة، ويسوق الدولة إلى حافة الانفجار. الغريب في الأمر أن قيس بن سعيّد يتصرف كأنه لم يعش التجارب الفاشلة لهذا النوع من أنظمة الحكم الشمولية المستبدة، على مدى عقود عمره السابقة في تونس وغيرها، أو كأنه ينقل أفكاره من كتاب الحكمة التي ازدهرت بسببها الأمم والحضارات. والأكثر غرابة من ذلك أن يتناسى بن سعيّد أن كل ما يقوم به سيذهب أدراج الرياح فور انتهاء حقبته.
سوريا.. الرقص في فوهة البركان
في بداية الأزمة السورية، قلت لصاحبي المقرّب من دوائر السلطة في دمشق محذّرًا بأن كتاب أفغانستان فُتح من جديد في سوريا، وأن ظروف الأزمة تشبه إلى حد كبير الظروف التي مرّت بها أفغانستان أواخر سبعينيات القرن الماضي، وأن على النظام أن يسارع إلى احتواء الأزمة، والتحاور مع المعارضة، والشروع في إحداث إصلاحات تدريجية تدفع باتجاه تحقيق التوافق الوطني. وأوضحت له، في ضوء تجربة أفغانستان، أنهم سيضطرون إلى الجلوس مع المعارضة بعد سقوط ألف قتيل أو بعد سقوط مليون قتيل، وأن على النظام ألا يضيع الوقت، فبوابة الجحيم تنتظر ساعة الصفر.
وبعد بضعة أشهر، قال لي صاحبي من المعارضة، متهللًا، إن الأميركان أكدوا لهم أن نظام بشار الأسد سيسقط قريبًا بما لا يتجاوز مايو/أيار ٢٠١٣م، فابتسمت له، وأمسكت شاربي، كما نفعل عادة عند سماع مثل هذا الحديث، وقلت له: "سأحلق شاربي لو حدث ذلك". في ذلك الوقت كانت المعارضة السورية تتمسك بالحل السلمي، وترفض العمل المسلح، ثم انزلقت سوريا في فوهة البركان المتفجّر الذي تغذّيه المنافسات الإقليمية والدولية القذرة التي لا تلقي بالًا لسوريا ولا للشعب السوري.
كثيرون من أتباع النظام في دمشق يعتقدون أن الدولة مستقرة، وأن المعارضة مجرد مجموعة من المرتزقة، ويعتقدون أن الحديث عن القتلى والدمار والنزوح والهجرة مجرد تضليل إعلامي تقوم به القوى الإقليمية والدولية المعادية.
توالت الأحداث، وبدأت سوريا تتساقط في فوهة البركان الهائج قرية وراء قرية، وريفا وراء ريف، ومدينة تلو أخرى، وانطلق عداد القتلى والجرحى والغارات والدمار في الصعود، وخرج الحل من أيدي النظام والمعارضة، الذين تتحكم فيهم الأطراف الإقليمية والدولية التي لا تعدّ السنوات التي تمر على الشعب السوري المطحون في دوامة المعاناة والألم والاغتراب.
والغريب في الأمر أن النظام والمعارضة ما زالوا يتكلمون اللغة نفسها، ويسوقون الاتهامات والحجج نفسها، ويتمسكون بالشروط والمطالب نفسها.
تمرّ عليهم الفرص، الواحدة تلو الأخرى، كأنها لا تعنيهم، وكلا الطرفين ما زال ينتظر المعجزة. النظام ينتظر حلًّا عسكريًّا يقضي على ما يتوهم أنها البقية الباقية من المعارضة، واتجاه عريض من المعارضة ينتظر -متوهما- أن الولايات المتحدة ستفي لهم بوعدها، وستفرض على النظام الحل الذي تريده، وهذا لعمري قمة الجنون والعبث والجهل المطبق بحركة التاريخ وقواعد السياسة وأحكامها.
المدهش والمفجع في الأمر أن كثيرين من أتباع النظام في دمشق يعتقدون أن الدولة مستقرة، وأن المعارضة مجرد مجموعة من المرتزقة، ويعتقدون أن الحديث عن القتلى والدمار والنزوح والهجرة مجرد تضليل إعلامي تقوم به القوى الإقليمية والدولية المعادية. والمدهش المفجع كذلك أن المعارضة ما زالت تثق بالمجتمع الدولي، وتتنقل بين الأروقة الإقليمية والدولية في انتظار تحقيق الوعد، مما يبعث على الظن بأن سوريا ما زال أمامها دهر طويل لتدفن قتلاها وتلتئم جراحها، وتعود أدراجها إلى ديارها المدمرة ومرابعها المحروقة.
سؤال كبير ظل يلاحقني منذ سنوات طويلة، وأنا أعُدّ جثث القتلى، وجثث النازحين والمهاجرين، وأراقب الدماء المتدفقة والأشلاء المتناثرة بين أكوام الدمار المتراكم فوق بساتين العنب والدراق والبرتقال والأفراح، وحدائق الورد والأطفال، هذا السؤال الكبير هو: لماذا يتملّكنا الغضب وتسيطر علينا نزعة الانتقام، ونسارع إلى استعمال السلاح وإطلاق النيران على بعضنا بعضا من أهل وأشقاء وجيران، ونستهين بعذاباتهم ومعاناتهم، ونهرع إلى الاستعداء والتخوين والتشهير، واحتكار العدالة، والاستئثار بالوطنية، ونفشل في استقراء التاريخ واستلهام الدروس والعبر، ونطفئ العقول ونصادر الحكمة، ونضلّ عن السبيل، فلا يبقى أمامنا سوى الصدام والانتقام والإجرام، تحت ذرائع واهية يظللها الاستكبار والأنانية والاستغلاق؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق