ماذا لو هُزمت روسيا؟
تشير حالة الانكسار التي يعيشها الجيش الروسي في شرق أوكرانيا بعد معركة خاركيف إلى أن الروس يواجهون صعوبات لم تكن متوقعة، وأنهم إن لم يجدوا طريقة لتغيير اتجاه المعركة فقد يخسرون الحرب ويتحملون خسائرها الفادحة وما يترتب عليها من زوال حكم بوتين ونهاية الحلم الإمبراطوري الروسي.
لقد شاهدنا الجنود الروس يهربون من مواقعهم في خاركيف ويتركون وراءهم عشرات الدبابات سليمة لم تمس، ومخازن الذخيرة كما هي، في مشهد يعكس انهيار الحالة النفسية للقوات الروسية، وفي المقابل تظهر الصور القادمة من الجبهة ارتفاع الروح المعنوية لأفراد الجيش الأوكراني.
الهزيمة في خاركيف هي الثانية بعد فشل الروس في دخول العاصمة كييف بهدف إسقاط نظامها وتنصيب نظام حكم بديل موال لروسيا، فقد نجح الأوكران في تدمير أرتال الدبابات حول العاصمة، وأفشلوا الهجوم فاضطر الرئيس الروسي إلى التراجع وأعلن أن هدفه هو تحرير أراضي الشرق!
ولأن الحروب اليوم يتم نقلها للجمهور لحظة بلحظة بالصوت والصورة فإن ما ينشره الأوكران من أخبار ولقطات الفيديو والبث المباشر أحيانا يكشف حجم الخسائر الضخمة في المعدات الروسية والجنود نتيجة الدعم النوعي من الدول الغربية، وتكشف الأدلة المنشورة تفوق الجيش الأوكراني في استخدام المسيرات والطائرات بدون طيار.
نعم يمتلك الروس ترسانة من الأسلحة التقليدية من الدبابات والطائرات المقاتلة والصواريخ المتطورة لكن اتضح أنهم متخلفين في استخدام المسيرات الذكية التي تقوم بالتصوير الجوي والاستطلاع والقصف، وهذا ما جعل الروس يلجؤون مؤخرا إلى إيران لشراء مسيرات لاستخدامها في أوكرانيا، وهذا يعكس الفجوة التي كشفتها المعركة.
الطائرات بدون طيار
كشفت الحرب في أوكرانيا أن حروب اليوم تعتمد بشكل أساسي على الطائرات بدون طيار الذكية الرخيصة بجانب القوة النارية، فالأسلحة التقليدية التي لا تتكامل مع المسيرات المتقدمة كأنها عمياء، بل تكون عرضة للاصطياد بسهولة بواسطة طائرات صغيرة لا يتجاوز سعرها عشرات أو مئات الدولارات.
كانت بعض الدول تحتكر هذا النوع من المسيرات الذكية في مقدمتها أمريكا وإسرائيل إلى أن دخلت تركيا هذا المجال وكسرت الاحتكار، وأحدثت انقلابا عالميا في هذه التكنولوجيا الحربية التي قلبت الموازين العسكرية وغيرت شكل الحروب التقليدية.
لقد أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل الرعاية للعبقري الشاب سلجوق بيرقدار فأنتج هو وشركات السلاح التركية تشكيلة واسعة من هذه الطائرات، وتم تجريبها في ليبيا وسوريا وأذربيجان، وقد حققت هذه الطائرات الانتصار على السلاح الروسي في كل هذه المعارك، وإذا كانت معركتا طرابلس وإدلب محدودتين فإن الانتصار الساحق لأذربيجان على أرمينيا كانت مثالا واضحا لقوة هذه الأسلحة الذكية.
أشهر المسيرات التركية طائرة “بيرقدار 2B” التي تحمل 4 صواريخ وتطير في السماء لمدة 24 ساعة تبحث عن فرائسها وتضرب بدقة بنسبة 100%، وهناك مسيرات “ألباجو” التي تبحث عن منظومات الدفاع الجوي وتضربها، وهناك المقاتلة “أكانسي” التي تحمل أكثر من طن من الصواريخ، وهناك طائفة من الأجيال المتنوعة مع منظومات التشويش والحرب الإلكترونية التي سيكون لها السيادة في حروب المستقبل.
في أوكرانيا تم استخدام البيرقدار في بعض المعارك، وكان لها دور فعال في معركة كييف، لكن الأوكران طوروا المسيرات التي تباع في الأسواق لأغراض تجارية للتصوير، واستخداموها في رصد تحركات الجيش الروسي وتقديم الإحداثيات للمدفعية الأوكرانية المتطورة، وابتكروا مسيرات بلاستيكية بأحجام مختلفة تلقي القنابل على الدبابات وخنادق الجنود الروس.
كان تمدد الجيش الروسي بأسلحته القديمة في أوكرانيا نقطة الضعف التي استغلها حلف الناتو، فقد قدمت أمريكا وبريطانيا والدول الأوربية بإرسال الأسلحة خفيفة الحركة والفعالة والمنصات الصاروخية الدقيقة للجيش الأوكراني مع دعمه بصور الأقمار الاصطناعية للقواعد الروسية والمعسكرات ومخازن الأسلحة.
بوتين وتحديات صعبة
بوتين في اختبار صعب أمام تقدم الأوكران، والخيارات أمامه محدودة، فلا هو يستطيع التقدم وتوسيع مناطق سيطرته، ولا هو يستطيع الحفاظ على الأراضي التي يحتلها فترة طويلة مع استمرار الاستنزاف، كما أن خصمه يصر على إذلاله ولا يريد أن يعطيه فرصة لحفظ ماء الوجه، فالولايات المتحدة تريد التخلص من الخطر الروسي لتتفرغ لمواجهة الصين.
لقد نجحت الولايات المتحدة في استدراج بوتين للحرب في أوكرانيا للإجهاز عليه، في معركة تديرها من الخلف ولا تكلفها كثيرا، ولكن تعثر بوتين لا يعني أنه سيستسلم للهزيمة بسهولة فالمعركة بالنسبة له “أكون أو لا أكون”، حياة أو موت، ولهذا لجأ إلى إعلان التعبئة العامة واستدعاء 300 ألف جندي احتياط، وتشير معلومات منشورة إلى أنها قد تصل إلى 3 ملايين، لتعويض خسائره اليومية.
ومع التفوق الأوكراني في استخدام الطيران المسير فإن استنزاف الجيش الروسي سيظل مستمرا، وفي هذا ضغط على بوتين لا يمكن تحمله؛ فالقطارات التي تنقل الجثث يوميا من أرض المعركة تزيد من حالة التذمر داخل الجيش والغضب داخل المجتمع الروسي الذي يبدو أنه أصيب بصدمة وهلع من قرارات التجنيد الأخيرة.
بقيت ورقة السلاح النووي التي يلوح بها بوتين، وهي أيضا صعبة أو بمعنى أدق انتحارية، فهل سيقصف بالنووي المدن الأوكرانية وهو يعلم أن حلف الناتو لن يسكت، بل سيعطي الحلف ورقة جديدة لاستخدامها ضده؟، أم أنه سيقصف قواعد الحلف والدخول في معركة أكبر من معركته الحالية المتعثر فيها؟
***
إذا هزمت روسيا وعجزت عن البقاء في أوكرانيا فلن تكون نهاية التاريخ؛ فليست أول دولة تهزم ولا آخر دولة؛ فأمريكا هُزمت في أفغانستان والعراق وانتهى حلمها الإمبراطوري، وأوربا سبق وأن خرجت من الحرب العالمية الثانية مفككة ومنهكة حتى الآن.
إن العالم اليوم تغير ولم يعد يتقبل عودة الإمبراطوريات القديمة التي كان المسلمون هم أبرز ضحاياها، ولقد انتهى زمن التصفيق والانحياز للقوى المتصارعة على زعامة العالم ظنا منا أن في اختلافهم رحمة، فقد ثبت أنهم يختلفون في كل شيء إلا الاتفاق علينا والتحالف ضدنا كأمة وكشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق