تأملات في شخصية السّامري
د.محمد علي يوسف
فتش عن سامريِّك -إن كان لك واحدٌ- وانسف عجله في أقرب يمٍّ واطرده من حياتك وأفكارك واجعل بينك وبينه وبين كل سامريٍ شعارًا ثابتًا لا تحيد عنه: لا مساس...لا مساس
لا يكاد يخلو زمانٌ ومكانٌ من شخصيةٍ تشبه السّامري، شخصٌ تسول له نفسه أن يُخرِج للناس ما يلتمع في أعينهم فيُبرِز لهم بريقه ويسميه بغير اسمه ويسوقهم لتقديسه وإجلاله!، ولكلِ سامريٍ قومٌ لا يرتاحون ولا تطيب لهم نفسٌ أو يهدأ لهم بال حتى يجدوا ذلك العجل الذهبي الذي تتوق إليه عقولهم الصدئة ويوجههم إليه سامريهم!.
فتش عن سامريِّك -إن كان لك واحدٌ- وانسف عجله في أقرب يمٍّ واطرده من حياتك وأفكارك واجعل بينك وبينه وبين كل سامريٍ شعارًا ثابتًا لا تحيد عنه: لا مساس...لا مساس.
#السّامري ١
وشخصية السّامري في الحقيقة هي شخصيةٌ محيرةٌ جدًا، رجلٌ من بني إسرائيل تعرض لكل ما تعرضوا له، عاش معهم في مصر في فترةٍ ثريةٍ للغاية، رأى الآيات والمعجزات التي خوطب بها فرعون، ثم رحل مع موسى عليه السلام، عبر بحرًا قد انفلق فكان كل فِرق كالطود العظيم، وشهد غرق عدوهم الأكبر والأظلم والأطغى
وربما استمتع بالمن والسلوى!، ورأى تَفجر الحجر بالماء وشهد رفع الجبل فوق رؤوسهم كأنه ظلة، ثم بعد كل ذلك قرر أن يكذب!، وليس أي كذبةٍ، لقد قرر أن يكذب على من رأى منه كل تلك المعجزات، يكذب وهو يعرف أنه يكذب، يكذب وهو يدرك حقيقة كذبته منذ البداية، يكذب ويمعن في الكذب ويزينه بعد كل ما سمع ورأى، محير حقًا!.
#السّامري ٢
لكن لماذا كَذَب السّامري؟، وماذا كان يتوقع لكذبته؟، الحقيقة هذان السؤالان من أكثر ما يثير الدهشة في قصة السَامري وكل سامري!.
أما عن السؤال الثاني وتوقعه لمستقبل كذبته فلربما ظن أن موسى لن يرجع من ميقات ربه ولن يكشف سذاجة كذبته بمنتهى السهولة بمجرد عودته، ولربما كان يتوقع أن ينتصر له قومه الماديون حتى إن عاد نبيهم، المشكلة فعلا في السؤال الأول، لماذا؟!، هل كان متآمرًا مثلًا يفعل ذلك لصالح أعداء بني إسرائيل؟!، ولكن من هم أعداء بني إسرائيل الآن؟، لقد هلك فرعون وهامان وغرق جنودهما وخسفت الأرض بقارون، لصالح من إذًا يعمل؟!
يبدو أن نظرية المؤامرة لن تكون مقنعة هنا؟!، إذًا فهي الزعامة وحب الترؤس؟ لكن هارون موجودٌ، وموسى عائد!، هل زعامةٌ مؤقتة وتسلطٌ عابر يستحقان أن يُقدِم المضل على مثل تلك الكذبة؟!
تزوير واختراع إله زائفٍ وهو يعلم أنه زائف!، إنها حقًا من أكثر الكذبات إثارة للحيرة في تاريخ البشر، وما أكثر الكذبات المحيرة!.
#السّامري ٣
والسّامري في حقيقة الأمر كان يحتقر بني إسرائيل ويزدري عقولهم، هذا هو في رأيي التفسير الأكثر منطقية لإقدامه على فعلته الشنيعة، إنه يعلم جيدًا أنهم قوم ماديون لا يؤمنون إلا بما يرون ويلمسون ولطالما سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرةً، إنهم يريدون إلاهًا وِفق تصوراتهم الضيقة وحواسهم القاصرة، فليقدمه لهم السَامري إذًا وهو يثق أن حماقتهم وضيق أفقهم ستجعلهم ينسون كل ما علمهم إياه موسى وسيتجاهلون كل ما سينصحهم به هارون وسيغضون الطرف عن كل ما شهدوه من الآيات البينات والمعجزات الباهرات، وسيسارعون إلى تصديقه هو
تصديق من قدم لهم ما يطلبون وأسمعهم ما يحبون أن يسمعوا وأراهم ما يرغبون في رؤيته، سيصدقون السَامري
وسيصدق أمثالهم كل سامري، حتى لو كان يحتقرهم بأكذوباته السّاذجة وترهاته السخيفة وأساليبه المكشوفة
إنهم في الحقيقة يريدون ذلك، ويحبونه، يحبون السّامري ويشبهونه!.
#السّامري ٤
ورغم فداحة الجُرم الذي ارتكبه السَامري ومدى الحيرة التي يسببها تصور وجود شخص لديه هذه الجرأة والقدرة على الكذب!، إلا أن جريمة مُصدقيه لا تقل كثيرًا عن جريمته، خصوصًا في وجود هارون عليه السلام
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ} [طه جزء من الآية: 90] هذه والله كانت كافيةً لمن كان له قلبٌ أو عقلٌ، نبيهم الثاني، ويال حسن المعاملة والتفضيل ممن جعل فيهم نبيان، يقول لهم بوضوح هذه فتنة، هذا ضلال، هذا ليس إلهكم ولا إله موسى كما يزعم السامري {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه جزء من الآية: 90]
ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ وأي شيءٍ لدى السَامري يواجه به نبيًا رأوا معه ومع أخيه من المعجزات ما لم تر أمة ما يشبهه، عجل!، مُجرد عجل!، له صوتٌ يشبه الخوار، أهذا ما أبهركم؟ أم لأنه ذهبي؟!، أأذهب بريقه عقولكم وأطاشت زينته وبُهرجه منطقكم؟!.
{لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ} [طه جزء من الآية: 91]، ولماذا موسى؟!، ألم يستخلف هو بنفسه أخاه عليكم؟!، كل ذلك مجرد حججٍ واهيةٍ تُخفي حقيقةً واحدة، أنكم تكذبون وتحبون الكذب تمامًا مثله، مثل السّامري.
#السّامري ٥
وإجابة السّامري لسؤال موسى عليه السلام عن حقيقة ما فعل كانت عجيبةً أيضًا {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96]
من سول له كل ذلك؟!، من المتهم الأول في هذه الجريمة؟!، من الذي يتحمل المسؤولية العظمى هاهنا؟!
إنها نفسه!، تلك النفس التي تعد المتهم الأول في كثير من الجرائم التي وقع فيها البشر منذ بدء الخليقة
أول جريمة قتل عرفها هذا المخلوق .. من المتهم الأول فيها، من الذي طوع لابن آدم تلك الجريمة؟
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة جزء من الآية: 30] ،إنها نفسه أيضًا، كذلك جريمة قتل الناقة آية الله لقوم صالح، الأنفس هي المتهم الأول هنا كذلك {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] الهاء هنا تعود على من؟، على النفس في أول السورة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]
وماذا عن جريمة المراودة لنبي الله يوسف في قصته مع امرأة العزيز؟ هي النفس مرة أخرى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف جزء من الآية: 53]
حتى الوسوسة التي هي من خصائص الشيطان الوسواس الخناس فإنها أيضًا وردت في القرآن منسوبة للنفس
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق جزء من الآية: 16]
من يوسوس هنا؟، نفسه.
والشح أيضا منسوب في القرآن للنفس {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء جزء من الآية: 128]، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر جزء من الآية: 9]
فمقام النفس في الإفساد محفوظ إذاً كما هو واضح في تلك الأمثلة، فالحذر الحذر والاستعاذة من شرور النفس
خصوصًا لو كانت كتلك النفس، نفس السّامري.
#السّامري ٦
لا مساس، هكذا كان ينبغي أن يُعامل السّامري!، وكل سامري...
حين تصل بالشخص جرأته إلى الحد الذي يكذب فيه على الله ويضل الخلق عن سبيله مع سبق الإصرار والقصد وتسول له نفسه أن يزين له الباطل ويبرز له بريقه فحينئذ .... لا مساس، لا تمسَّنا ولا نمسَّك، لا تلامسنا سموم لسانك ولا تقربنا خناجر كذبك، لكن لحظة...انتظر، قبل أن ترحل عنا ونرحل عنك هناك ما ينبغي فعله، ينبغي أن يُنسف إضلالك ويُسحق زيفك ويُباد كذبك وادعاؤك:
{وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه جزء من الآية: 97]
حرقٌ ونسف، أمام أعين طالما تاقت لبريق الإله الزائف الذي أخرجته لهم لابد أن تظهر الحقيقة ويتضح للجميع أنه الحقيقة لا شيء، ولا يملك شيئًا، إنه مجرد عجل، وها هو يغرق في اليم كما غرق إلهٌ زائفٌ آخر ادعى أنه ربٌ أعلى، فهل فهم أتباع السامري؟!
#السّامري ٧
{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85]
هكذا كان الترتيب في الخبر الإلهي: أولًا فتنة، اختبارٌ يوضع فيه القوم، امتحانٌ عليهم اجتيازه.
ثم يأتي دور السامري "المُضل" الشخص الذي يوجه الخلق للمسار الخاطيء أثناء الفتنة ويدلهم على كل إجابةٍ إلا الإجابة الصحيحة، وهذا هو الإضلال، وظيفة السّامري وكل سامري.
ولقد حاول بنو إسرائيل أن يستغلوا هذا الدور حين سألهم موسىَ: {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} [طه جزء من الآية: 86]، فكانت الإجابة: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 87]، فكذلك ألقى السامري، هكذا حاولوا أن يعلقوا الأمر على شماعة المُضل الذي في الحقيقة لم يفعل الكثير، هو فقط ألقى ثم أخرج عجله فكان القول بعد ذلك منهم، هم من قالوا: فَقَالُوا {هَـٰذَا إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ} [طه جزء من الآية: 88]، الفتنة إذا فتنتهم والخيار خيارهم، والضلال ضلالهم أن صدقوا من أرادوا تصديقه، صدقوا السّامري
#السّامري ٨
لكن قبل أن يتوجه موسى إلى السّامري ويسأله عن جرمه وزيف إلهه المزعوم اتجه لأخيه، للمصلح: للمؤتمن على القوم المستخلف على هدايتهم، لحامل لواء الدعوة والنصيحة والعلم، اتجه لأخيه هارون
{يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92-93]
وها هنا ترتيب يستحق النظر، دائمًا ما يتوجه المصلحون باللوم إلى أهل الإضلال ابتداءً ولا شك أنهم يستحقون كما استحق السامري، لكن قليلًا ما يعاتب المصلحون أنفسهم أو حتى على الأقل يتساءلون عن أدائهم لواجبهم
قد فعل هارون ما ارتآه واجبه وحذر ونصح ثم اجتهد وقرر أن ينتظر عودة موسى كي لا يفرق القوم، فهل فعل المصلحون ما عليهم وحاسبوا أنفسهم قبل أن ينظروا فقط إلى ما هو متوقع من أشخاص كالسّامري؟!
هل اجتهدوا في البيان والنصح موازنين بين ذلك وبين الحفاظ على القوم والحرص على عدم تفريقهم وتمزيق أواصرهم قبل أن ينشغلوا بالشكاية من وجود من هم مثل السّامري؟!
#السّامري ٩
{قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه جزء من الآية: 91]، {وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه جزء من الآية: 97]، تكرار لفظ العكوف هنا عجيبٌ للغاية، لقد عكف بنو إسرائيل على الإله المزيف، وكذلك عكف السَامري، عكف المجرم على إلههٍ رغم علمه الراسخ أنه مزيف، ولم يرد عن بني إسرائيل عكوف أبدًا فيما نعلم في غير ذلك الموضع، بنو إسرائيل عبدوا الله بعد ذلك وقبل ذلك، لكنهم حين عكفوا، عكفوا على صنمٍ وكذلك فعل قوم إبراهيم عليه السلام {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] وبذلك وصفهم إبراهيم {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، والحقيقة أن هذا شيءٌ يدعو أيضا للتساؤل والعجب؟!
ما الذي يجعل هؤلاء يهوون العكوف على باطلهم لهذه الدرجة بينما لا يعرف عنهم مثل ذلك تجاه الحق؟!، هل هي ماديتهم الساذجة تتجلى من جديد، أم أن للأمر جانبٌ نفسي يدفعهم للصبر على آلهتهم الباطلة رغم علمهم الداخلي ببطلانها {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6]، أم أن للباطل بريقًا لا نعلمه يُتمم الفتنة ويكتمل به الاختبار؟ ربما كل ذلك وربما شيءٌ منه لكن الحقيقة الواضحة أن للضالين قدرةٌ وهمةٌ تدفعهم للصبر على العكوف بين يدي آلهتهم خاشعين منصتين لوعظٍ زائفٍ من السَامري
ومن كل سامري
#السّامري 10
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق