اليقين والأمل
د.علي فريد
السبت، 26 سبتمبر 2020
إنْ أحبطكَ البؤسُ الذي نتقلبُ فيه الآن، وكَبُر في نفسك ما تظنه نعيماً تنعم به أوروبا وأمريكا الآن؛ فاقرأ تاريخنا وتاريخهم لتكتشف أنَّ ما يحدثُ لنا- رغم بشاعته- لا يعادل ربع ما حدث لهم أو ما فعلوه بأنفسهم قديماً وحديثاً..
وما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بتجرعهم قديماً أضعاف ما نتجرع حديثاً، وما انتصروا علينا لفرطِ ذكاءٍ رُكِّبَ في فِطَرِهِم وحُرِمنَا منه؛ بل لبشاعة تجاربهم التي تعلموا منها وطبقوها علينا.. فإن ظننت- لفرطِ قوتهم- أنهم لا يُقهرون؛ فقد ظنوا هُم أيضاً- لفرطِ قوتنا قديماً- أننا لا نُقهر، ولم ينتبهوا إلى إمكانية قهرنا أو هزيمتنا إلا بعد انكسار الدولة العثمانية أمام فيينا سنة 1683م؛ فتحولت نفسياتهم المسحوقة إلى نفسياتٍ متطلعة، وتَنَزَّلَ المستحيلُ في نفوسهم شيئاً فشيئاً حتى صار ممكناً..
ولا ينتصر المهزوم إلا إذا تحولت (نفسيةُ الهزيمة) فيه- بنصرٍ ما ولو كان ضئيلاً- إلى (نفسيةٍ إمكانٍ) تضؤل بها في عينه هالةُ عدوه رويداً رويداً حتى تختفي..
في الفتوحات الأولى للمسلمين أمرَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه عبدَ الرحمن بنَ ربيعةَ الباهلي بغزو الترك- قبل إسلامهم- ومناوشة الجزر على بحر قزوين؛ ولكثرة انتصارات المسلمين؛ ظن التُركُ أنَّ المسلمينَ لا يموتون، وظلوا على هذا الظن حتى عهد عثمان رضي الله عنه، ثم تذامروا- على حد قول الطبري- من كثرة انتصارات المسلمين عليهم، وتواعدوا على نصب كمين لهم ليتأكدوا هل يموتون أم لا، ورمى أحدُ الترك أحدَ المسلمين بسهمٍ فقتله؛ فتيقن التركُ أن المسلمين بشرٌ أمثالهم يموتون كما يموتُ الناس؛ فقويت نفوسهم وحميت عصبيتهم، وخاضوا معركة (بلنجر الثانية، بداغستان اليوم) فهزموا المسلمين، واستشهد عبد الرحمن بن ربيعة، وانحاز سلمان الفارسي، وأبو هريرة رضوان الله عليهما- وكانا في المعركة- إلى مدينة جيلان..
ومن الغرائب آنذاك أنَّ الترك أخذوا جثمان عبد الرحمن بن ربيعة؛ فكرموه وبنوا عليه مقاماً يزورونه ويستسقون به!!
وليس أدلَّ على ما يمثله تغير نفسية الهزيمة بنفسية الإمكان من قول المثنى بن حارثة رضي الله عنه لجنوده بعدما سحقوا الفُرسَ في معركة البويب:
" قاتلتُ العربَ والعجمَ في الجاهلية والإسلام، واللهِ لمائةٌ من العجم في الجاهلية كانوا أشد عليَّ من ألفٍ من العرب، ولمائةٌ اليوم من العرب أشد عليَّ من ألفٍ من العجم؛ إن الله أذهبَ مصدوقتَهم ووهَّنَ كيدهم؛ فلا يروعنكم زهاءٌ ترونه ولا سوادٌ ولا قِسِيٌّ فُجٌّ ولا نبالٌ طوال؛ فإنهم إذا أُعجِلوا عنها أو فقدوها؛ كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت."!!
لا يهولنك ما ترى وتعايش؛ فالأمر نَفْسِيٌ ابتداءً.. فإن زالت نفسية الهزيمة فيك بنفسية الإمكان؛ هانَ- باستصحاب العقيدة- اتخاذُ الأسباب، والتحركُ في الواقع حسب تقلبات الواقع!!
ما ذلت أمةٌ في الأرض كما ذلَّ اليهود، وما حلمت أمةٌ في الأرض كما حلم اليهود..
قبل ستة وستين سنة من قيام ما يُسمى بدولة إسرائيل كتبَ أحدُ اليهود الروس من فلسطين رسالةً إلى صديقه المؤرخ الروسي شمعون دوفنوف، يقول فيها:" لم آتِ إلى إسرائيل لأبني حياتي الشخصية، عليَّ العَفَاءُ لو أردتُ ذلك، بل هدفي وحلمي- وهو حُلمٌ ليسَ بعيد المنال- أن نسيطر على أرض فلسطين ونبني دولتنا.. لا تضحك مني.. سنبني دولتنا"..
ثم ذَكَرَ عِدَّةَ وسائل لفعل ذلك منها: تأسيس المستعمرات الزراعية والصناعية، وإنشاء المصانع والصناعات، وتدريب الشباب على الإنتاج والسلاح معاً.. ثم ختم رسالته بقوله:" إنني غارق في الأحلام، لكن سيأتي هذا اليوم الرائع"!!
هل عليَّ أن أقول لك: احلم كما حلم اليهود، وتَمنَّ كما تمنى اليهود، واسعَ كما سعى اليهود، أم في ديننا وتاريخنا ومجدنا السابق ما يكفي ليشعل جذوة السعي والعمل والحركة في روحك؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق