الأحد، 18 سبتمبر 2022

المسيحية والمؤرخون القدامى (4/4)

 المسيحية والمؤرخون القدامى (4/4)

بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذ الحضارة الفرنسية

نتناول فى هذا المقال الرابع والأخير فى مبحث المسيحية والمؤرخون القدامى ، الذى تناولنا فيه المؤرخون اليهود ، والوثنيون ، واليونان ، ونختتمه بالإمبراطور جوليان على أنه يمثل نقطة فارقه فى تاريخ تاك العقيدة المنسوجة عبر المجامع على مر التاريخ ، لنرى كبف أنه حتى منتصف القرن الرابع لم تكن المسيحية تحارب فحسب بل أنه لو لم يتم تدبير قتل الإمبراطور جوليان لأتى عليها فى ذلك الوقت!
4- الإمبراطــور جــوليان (331 -363)Empereur Julien L
أو جــوليـان المرتــد :

لـقد إمـتد حـكم الإمبراطـور جـوليان 23شهراً من 361إلي 363 ،حـاول خـلالها تغيير نسق الـدولة تغـيراً جـذرياً ، فـقد حـاول الإبتعاد عن الإستبداد البيروقــراطي والعودة إلي بساطة الأبـاطرة القـدامى ووقـف عملية تنصير الإمـبراطورية ، تلك العملية التي قـد كان بـدأها قسطنطين وأولاده ، والعـودة إلي الديـانة الـوثنية .
كان جوليان ابن شقيق قسطنطين الذي عـند وفـاته قــام أبنـاؤه الـثلاثـة بإغـتيال جميع أفراد هذا الفرع من الأسرة ،ولم ينج سـوى جوليان وشقيقه جالوس لصغر سنهما ، وفـُرض عليهما الدخول في سلك الرهبنه ، وكان جــوليان في السادسة من العمر عنـدما شـاهـد هـذه المجزرة بعـينيه ... ولعل كثرة ما رآه وعاصره من إستبداد رجـال الدين المسيحي وجرائمهم هـو الـذي دفعه عـام 351 إلي الإرتــداد عن المسيحية والعـودة إلي الوثنية .
وإذا ما تـأملـنا تـاريـخ مـيلاده ووفاته ، نرى أنه قــد ولــد بعــد أن قامت الأيادي العابثة في المؤسسة الكنسية بتأليه السيد المسيح بستة أعـوام، وتــوفي مقـتولاً قبل إنعقـاد مجمع القسطنطينية الذي تـم فيه إختلاق بـدعـة الـثالـوث بثمانية عشر عاماً . أي أنه عـاش ومات في فترة من أكثر الفترات شـراسة للكنيسة التي كانت تسعى بكل الوسائل لإستـتباب عـقائـدهـا .
وما أن تــولي جـوليـان الحكم حتى بـدأ بإستبعاد الفاسـديـن من الوظائف العامة وأضعف شوكة البوليس السياسي وخفض الضرائب وأعــاد التسامح الديني وفتح المعابـد الوثنية وألغى إمتيازات رجـال الـدين المسيحي .
وقـد أصبح عـداءه للمسيحيين من الصرامة بحيث إستبعدهم من كافة الوظائف العامة ومنعهم من ممارسة مهنة التعليم ، فما كان من رجال الكنيسة إلا أن رتبـوا إغتياله في إحــدى المعارك الحربية التي خاضها ضد الفـرس ، فـقام حارسه الشخصي بتنـفيذ عملية إغتـياله .
ومن أهـم سمات الإمبراطور جولـيان إهتمامه بالـثقافة والفلسفة ، ومن أشهر مؤلفاته كتاب بعنوان :"خطاب الإمبراطور جوليان ضد طائفة الجليليين". والواضح من العنوان أنه على الرغم من إستحواذ المسيحيين على منافذ السلطة إلا أنهم كانوا حتى أيام الإمبراطور جوليان عبارة عن مُجرد "طائفة" من منطقة الجليل .
وإحتفاظ التاريخ بالصفة التي فرضتها عليه الكنيسة : جوليان المرتد ، لأكبر دليل على جبروت القهر والدسائس التي كانت تمارسها المؤسسة الكنسية ولا تزال .. فـقد قامت بحرق كل ما كان يُـدينها أو يتعارض معها أو يفضح مُخططاتها في كتابات جوليان ، ولو لم يقـم الأسقـف سيريل – بعـد أربعين عاماً – بالـرد على كتاب جـوليان ، والإستشهاد بالكثير من أجـزائه لما بقى منه أي أثــر في يـومنا هـذا .
وقد قام المركيز دارجنس (1704 – 1771 ) ArgensD بترجمة ما تبقى من خطاب الإمبراطور جـوليان ، بنـاء على طلب الإمبراطور فـريـدريـك الأعظم إمبراطور بروسيا ،وذلك سنة 1768 .
ومما قاله الإمبراطور جوليـان في خطابه ضد المسيحيين النقاط التالية :-
· أيها الجليليون ،إذا كان الله يـريـد ألا يُعبد سواه ، وهي أولى الوصايا ،لماذا تعبدون ذلك الإبن المزعـوم الذي فـرضتموه عليه ؟(...) .
· لا يمكن القول بوضوح أكثر أن يسوع كان مُجرد إنسان ...وقد تجرأتوا عليه بالتدريج : فجعلتموه ممسوحاً، ثم مسيحياً ثم ابن الله ،ثم الله! وهكذا إستتب لكم كل شيئ .. إن الخطوة الأولى عادة ما تكون مُـفـزعة ، أما الخطوة الأخيرة فلا تكلف شيئاً (...) .
· أيها الجليليون ، لقـد إنشقـقـتم عنا وإنتـقلـتم كالهاربين من الخـدمة إلي مصاف اليهود . وياليتكم إلتزمتم بتعاليمهم وإكتفيتم بإله واحـد ولم تنساقــوا إلي عبادة مُجرد إنسان بسيط كما تفعلون اليوم (...) لـقد تصرفتم كمصاصي الـدماء أخـذتم الـدم الفـاسـد وتـركتم الأكثر نقاء . 
ولم تبحثوا عما هـو طيب لـدي اليهود وإنما إنصب كل إهـتمامكم إلي تقليد طابعهم السيئ وغضبهم العـارم : فمثـلهم تماماً تقـومون بهدم المعابد والمذابح ، وتقـومون بـذبح المسيحيين الذين تطــلقون عليهم اسم الهراطقة لأن لهم عـقائـد تختلف عن عقائدكم حـول ذلك اليهودي الذي قـتله اليهود ، علماً بأن العقـائـد التي تساندونها فهي مُجرد هــراء وتخاريف قمتم بتـأليفها ، لأن لا المسيح ولا بــولس قــد قـالـوا شيئاً حــول هــذا الموضوع ، والسبب بسيط ، إذ أنهما لم يتخـيلا أنكم ســوف تصلون إلي هـذه الــدرجة من السلطة التي وصلتـم إليها .
· يسـوع الذي تبشرون به أيها الجليليون كان من رعـايا قـيصر ، وسوف أدلل لكم على ذلك ، ألا تقـولون أنه هـو وأمه وأبيه قـد دخـلوا ضمن تعـداد سيرينيوس ؟(ومن الواضح أن باقي النص قـد تـم حـذفـه حتى من كتاب الأسقـف سيـريل الذي كان يفـند إتهامه) ..لأن فــاروس Varus هــو الـذي كان يحكم ســوريا آنـذاك وليس سيـرينيوس .
· إن إرتيادكم مـدارس معلـمينا وفـلاسفـتنا تجعل أي فـرد منكم من أصل مـشّرف يتخلى فــوراً عن عـقـائـدكم المتعصبة (...) .
· إنكم تهــدمـون ديـانـات كـل الأمـم الأخـرى خاصة الذين يتمسكون بعبادة إله واحـد . وقـد تخليـتم عـن عـقائـدكم القـديمة لتختاروا بين كل العـقائد ما يناسب كل الحـقراء من كافة الشعوب أمثالكم وأمثال أصحاب الحـانات وجامعوا الضرائب والمهرجون وأشباههم (...).
· لقد نسبتم إلي عيسى ابـن مـريـم بـلا أي أساس من الصحة أقــوال موسى الخاصة بيسوع حين قـال :"يقيم لك الـرب إلهك نبياً من وسطك من أخـوتك ، مثلي ، له تسمعون" (تـثنـية 15:18 )(...) إنكم تبـدّلـون وتحرفـون في الآيات وفـقاً لهـواكم . 
ولا يوجـد هنا شيئ متعلق بيسوع فـلـم يكن من ســلالة يهـوذا بما إنكم لا تـريـدونـه أن يكـون ابن يـوسف النجار ، وتـُصرون على أن الـروح القـدس هـو الـذي أنجـبه ! 
وقـد حـاولتم إيجاد نسب له من يهـوذا لكنـكم فشلتم فأناجـيلكم تتـناقض ومتى ولـوقـا يتعارضان في شجرة النسب التي يـوردانها. وحتى إذا إفترضنا جــدلاً أن يسوع أميـر من سـلالة يهوذا ، فـذلك لا يعني أنه "إله من إله" كما تـزعمون ، وكل ما هـو وارد في سفـر العـدد متعلق بـداود وسـلالته لأن داود كان ابـن يسىّ (...) .
إذا كانت الكلمة هي الله ، مُـنبثـقة من الله كما تقـولـون ، وأنه من نفس كيان الله ، كيف إذن تطلـقون على مـريـم أم الله ؟ وكيف لها أن تـلـد إلهاً وهي بشر مثـلنا ؟!.
· لقد حاولت أن أوضح لكم أنكم بعد أن إنسلختم عنا وقبلـتم دين اليهود ثـم تخليتم عن كل شعائرهم (...) وقمتم بـتأليف نوع جديد من الأضاحي ولستم بحاجة إلي القدس ، لماذا لا تـذبحون الأضاحي مثـل اليهود الذين إنشقـقتم عنهم؟!.
· إنكم من قلة العقل بحيث لا تتبعـون حتى التعاليم التي أتى بها الحـواريون ، إذ أن أول خليفة لهم قـد غيرها وبـدّلها بـلا تــورع أو حياء ، فـلا بولس ولا متى ولا لوقا أو مرقس قــد جــرؤ أحدهم على القـول أن يسوع هـو الله .(ومن الواضح هنا أنه حتى القرن الرابع لم يكن تأليه المسيح قد أ ُدخل على نصوص الأناجيل) ! لكن عندما علم يوحنا أنه في بعض اليونان وإيطاليا كثير من أفراد الشعب قد سقطوا في هذا الخطأ (أي أنهم راحوا يؤلــّـهون أو يقبلون تألـّـيه المسيح الـذي تـم سنة 325) تجرأ يوحنا لدرجة القول بأن يسوع هـو الله . وراح يكتب أن الكلمة تجسدت وسكنت فينا . لكن لم يجرؤ على تفسير بأي وسيلة لأنه لم يـذكر عبارة يسوع أو المسيح حينما يتكلم عن الله والكلمة . أنه يحاول أن يخـدعـنا بصورة ملـتوية غير واضحة وبالتـدريـج !(...).
· إن يوحنا يعـتبر أول مؤلف للشر ومنبع الأخطاء الجديدة التي أقـمتموها بإضافة العـديد من الإضافات الأخـرى إلى بـدعـة اليهودي المتوفي الـذي تعبدونه (...) .
· ألم يأمـر يسوع قـائـلاً :"لا تظنوا أني جئت لأنـقض النامـوس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمّـل "(متى:17:5) وبعـدها بقـليل يُضيف قـائـلاً:"فمن نقض إحـدى هـذه الوصايا الصغرى وعلــّم الناس هـكذا يـدعى أصغر في ملكوت السماوات"(19:5). وبما أن يسوع قـد أمـر تحديداً بالإلتزام بالشرع وأنه حــدد العـقـوبات بمخالفته وتعليم سواه ، وهـا أنتم أيها الجليليون وقـد نـقضـتم كل بنود الشـرع ، أي حجة يمكنكم تـقديمها تبريراً لذلك؟ فـلا يـوجـد سـوى أحـد أمـريـن : إما يسوع يكذب ولا يـقول الحق ، وإما إنكم مخالفـون للشرع غــدّارون".
ويـورد الباحث لويس بـرنـار (L.Bernard) في كتابه عـن "أبـوللـونيـوس الطـواني ويسـوع" (1977) تـوضيحاً لـوفـاة الإمبراطـور جـولـيان ، إذ يقول :"إن الإمبراطور جوليان ، الذي ألصق به المسيحيون عبارة "المرتد "، في القرن الرابع ،قـد توفى في الحرب إذ قتله أحـد جنود الفـرس ، وليس خيال يسوع كما يـزعـم المسيحيون الـذين وضعوا على لسانه أنه قـال وهـو يحتضر "لقـد إنـتصرت أيها الجلـيلي " .. لكن المنـتصر دائماً ما يُـعيد كتـابة التـاريـخ وفـقاً لهـواه ، وعـلينا أن نتذكر دوماً أنه طــوال الـقرون الوسطى ، كان الرهـبان وحـدهـم هـم حفظة التراث اليـونـاني – الـروماني الـذي أنقـذوه وهـم يبـدّلون ويعـدّلـون فيـه (صفحة 17).
ويا لها من صـورة جد مـريـرة مُهينه تـلك التي تـصاحب تكـوين الـديـانة المسيحية منـذ نشأتها ، وقد رأيتا عبر كل اؤلئك المؤرخون المشهود لهم فى التاريخ ، أن المسيحية الأولى وهى تتكون أطاح مؤسسوها بكل الوثائق الأخرى ولم بحتفظوا إلا بكل ما يتفق وما ينسجون ..

المراجع
Bernard, J. L. : Apollonius de Tyane et Jésus, R. Laffond 1977
Rougier, L. : La genèse des dogmes chrétiens, Albin Michel, 1972
Julien, l'Empereur : Discours contre les chrétiens, Frederic Voss, 1768


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق