المسيحية والمؤرخون القدامى (2/4)
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
2– المؤرخـــون الوثــنيون :
هناك ظاهرة لافـته للنظر وهي أنه ما من واحـد من الكتـّـاب اللاتين أو اليونان ، في القرن الأول الميلادي ، قـد ذكـر اسم يسوع ، وإن كان هـذا الصمت له مغـزاه أو حتى إن لم يدل على شيئ في حـد ذلك ، لكن ، كيف لهم ألا يلحظوا وجـود المسيحيين الأوائل أو لم يتحدثوا عنهم على الإطلاق ، فما من واحـد منهم قـد ذكـر مثـلاً تلك الظلمات التي حطت على المدينه وخيمت على كل شيئ عند وفـاة يسوع . بل لم يشر أي واحد منهم حتى إلي إحتمال حـدوث كسـوف للشمس ولـو جـزئياً ! وما من واحـد منهم قـد لاحظ ذلك النجـم اللامـع الذي أرشـد خطى ملـوك الأعــاجم ، بل ولـم يلحظه أي عـالم فـلك أو أي مـُراقب حتى للسماء .
ويتحدث المـؤرخ السـوري لـوسيان أنه سمع ، قبل وفـاته ، سنة 190م ، عن سـاحر أدخـل طقساً جـديداً قائماً على الأسرار الخفية في فلسطين وأنه قد صلب . وفي روايته المعنونة "موت بريجـينـوس" تكـلم عن ذلك الطقس الجـديد قـائلاً ": وكانوا يعبدون مـُغالطهم المصلوب".ويقـول روبيـر بترينـييه إن هـذه العبارة لها أهـميتها بالـفعل "لأن المسيحية في البداية تـم تقـديمها على أنها عبادة ذات أسـرار" .
ومن الغريب أن لـوسـيان السـوري ، حتى أواخر القـرن الثاني ، لم يكن قد سمع شيئاً لا عن صلب المسيح ولا عن الأناجـيل ، وذلك رغـم قـربه من تلك المنطقة التي توصف بأنها مهد المسيحية ، خاصة وأنه كان يسخر من كل العبادات .
كما أن المؤرخـين اللاتين لا يـذكروا شيئاً عن مـذبحة آلاف الأطفـال الأبـرياء التي أمـر بها الملك هيـرود . ويعجب الباحثون من صمت المؤرخين فيما يتعلق بقـيام الأموات وتجـولهم في شـوارع المدينة بأكـفانهم .. ومثل هـذه الأحداث لو كانت قـد وقعت فعلاً للفتت نظر أي مـؤرخ من المؤرخين الـذين عاصروها أو أتـوا في القـرن التالي لها .
بــيــلاطـــــس :
إذا كان القـديـس جـوسـتان قـد زعـم ، في منتصف القـرن الـثاني ، إنه قـد إطلع على التقرير الذي رفعه بيلاطس إلي رئيسه ، فهو لم يقرأه بالفعل وإنما إفترض وجوده فحسب ضمن أوراق الـدولة ومستنداتها . وإن كان تـرتـولـيان ، وهو يُـعـد أول الكتـّـاب المسيحيين باللغة اللاتينية ، قـد راح يكـرر قــول القــديس جــوستان ، فإن وقـائع التاريخ تناقض هـذه العبارة .
ففي مطلع القرن الرابع قام الإمبراطور ماكسيما دايـا بنشر وتـوزيع "أعمال بـيلاطس" . وقـد وصفها المؤرخ يـوسبيـوس بأنها "مليئة بالشتائم ضد المسـيح" لذلك قال إنها من النصوص المحتجبة ، أو التي يجب أن تـُحجب لسبب فاصل : إنها تتحدث عن صلب المسيح في السنة السابقة من حكم تيـبريـوس ، أي في سنة 21 ، في حين أن بيـلاطس قـد عُين حاكماً على فلسطين في سنة 26" !.
وفيما بعـد ، قـام المسيحيون بإعـادة نـشر "أعـمال بيــلاطس" حيث نـراه يتولى الدفـاع عن يسـوع المسيح ! وكان هـذا الكتاب يحتـل الصدارة في آداب الـقرون الوسطى ، وقـد ضـُم بعـد ذلك إلي إنجيـل نيكومـيد. ويـوضح روجيه بترينـييه أنه ما من مـؤرخ في يومنا هـذا يعتبر هـذا النص نصاً أصلياً وأن الجميع يعـتبرونه من الـروايات ، مؤكداً : "وفي نهاية القـول ، إننا لا نمتـلك أية وثـيقة رسمية ولا أي تـقرير رسمي أو شهادة رسمية حـول يسـوع من روما الوثـنية".
سويتونيوس: (حوالي 69- حوالي 126 ) Suetone
عاش سويتونيوس في الفترة ما بين 69 و126م ، وكتب سيرة أثنى عشر إمبراطوراً رومياً ، من يولـيوس قيصر ، المتوفي44 ق.م ، حتى دومـثيان المتوفي سنة 96 م ، وهـو معاصر تاسيـتس وصديق للفيلسوف بليني الأصغر . وقـد شغل منصب سكرتيراً للإمبراطور سبتكيـوس كلاروس وكان مسئولاً عـن الأرشيف الإمبراطوري .
وتأتي سيرته للإمبراطور تيبـريـوس، المولود سنة 42ق.م والمتوفي سنة 37 م فرضاً مواكبة لحياة يسوع ، إلا إنه من الصعب أن نجـد بها أية إشارة إليه أو إلي أي من تفاصيل حياته . أما في سيرته عن كــلوديوس ، المـولود سنة 10م والمتوفي سنة 54م ، فيؤكد سويتـون أنه في بداية حكمه " قـد طــرد اليهود من روما لأنهم كثيراً ما كانوا يثيرون القلاقـل بقيادة المحرض كرستوس (Impulsore Chrestos ) " .وقـد تمت هـذه الواقعة سنة 41م. أما سـويتون فـقد كتب هـذه الأسطر حـوالي سنة 120م ، وهـو تاريخ جـد بعيد عن الأحـداث المذكورة .
والغريب في الأمـُر أن كلاً من فيـلون أو فـلافـيوس جــوزيف لم يذكرا شيئاً حـول هذا الموضوع ، بل على العكس من ذلك ، فإن جوزيف يتحدث عن كلـوديوس على أنه حاكم مُتـفهم لعادات وتقـاليد اليهود .
وهنا لابـد من وقـفة تتعلق باسم كرستوس Chrestos والتفرقة بينه وبين اسم Christos ، فهذا الأخير يعني المدهـون بالزيت أو المسيح ، أما الأول فهو اسم شـائـع ويعني باليـونانية "الطـيب" أو "الأفـضل" . وكان شـديد الإنتشار بين العبيد ولـدى اليهود .وقـد أشار الباحث ليـنك أن اســم كـرستوس قـد ورد أكثر من ثمانين مــرة في النصوص اللاتينـية .
ويـورد ديـون كاسيـوس ، على عكس سـويتـون ،"أن اليهود كانوا من الكثرة في روما بحيث يصعب طـردهـم دون إثـارة القــلاقـل ، قائـلاً أن كـلوديوس لم يطردهم وإنما إعـترض على إجتماعـاتهـم التي ينص عليها شـرعهم ". وبناء على ذلك يـرى روبيـر بترينيـيه أنه وحتى وإن قـام الإمـبراطور بطـرد بعض اليهـود ، فلـم يكن بينهم مسـيحياً واحداً في روما حتى سنة 41م ، مثلما لم يكن هناك أي مسيحي في مـدينـة بـومباي (الإيـطالـية) سـنة 79م .
لذلك يقـول "لو إفـترضنا جـدلاً أن كريستوس سويـتون هـو يسوع المسيح ، فإن يسوع لم يمت أيـام تيـبريـوس ، والإعتماد على نص سـويـتون لإثبات تاريخية يسوع يُعـد بمـثابة أضحـوكة ".
أما ميشيل كـوكيه Michel Coquet) ) فـيوضح أن اسم كـرستوس Chrestos)) كان موجوداً منذ القـرن الخامس قبل الميلاد وقـد إستخدمه كل من اشيليوس وهيرودوت وغيرهما . وهـو اسم يقـابل اسم سـوتـير باليونانية ويعني مُـنقـذ .
تاسيتوس : (55-120) Tacite
تاسـيتوس مـؤرخ لاتيني عـاش فيما بين عامي 55 و 120 م ، وقـد إشتهر بجمال لغته الأدبية ، وفي "الحـولـيات" التي كتبها يتعـرض إلي شائعات تـتهم نيـرون بإشعال حـرائق روما عـام 64م والتي قـام الإمـبراطور بإتهام المسيحيين بإشعالها، ويقـول تاسيتوس:"إن اسم المسيحيين مشتق من المسيح الـذي حُـكم عليه بالموت أيام تيـبريوس من الحـاكم بــيلاطس البنـطي".
ويـوضح ميشيل كـوكـيه أن هـذا النص يـرجع إلي القـرن الحـادي عشر ولم يُعرف إلا سنة 1429م ودخل مكتبة مـديتـشي سنة 1444 :"وبعـد الأبحاث الجـادة التي أجـريت عليه لمعرفة أصالة الوثــيقة أجمع العلماء أن هـذه الفـقرة الخاصة بالمسيح مُـزيفة ودخيلة على النص الأصلي ". وتـُـشير الأصابع إلي بـــودج (Podge) ، وكان سكرتيراً لعـدد من البـابـاوات هـو الـذي دسّ هـذه الجملة .
ويسخر ميشيل كـوكـيه قـائـلاً :"نـتمنى للمسيحيين أن يُعـد هـذا النـص من النصوص الممنوعة عن الـتـداول لأنـه وإن كان قــد تحــدث عـن مـوت المسيح إلا أنه لا يـقول شيئاً عن بعـثه: وبالنسبه للعـقيدة المسيـحية فإن الحـدثيـن ، المـوت والبعـث ،لا إنفصام بينهما.وبما أن تاسيتوس إستبعد قـيام يسـوع وأورد ببساطة خبـرمـوته فــذلك راجـع إلي أن كل إنسان يموت .. وفي النهاية ، إن هـذا النص الـذي ينـكر البعث أو الـقيــام لا يمكنه إثــبات وفــاة المسيح "!.
وأيـاً كـان الأمُـر فـقد كتب تاسـيتوس حــولـياتـه حـوالي سنة 117، وكان عـدد المسيحيين قـد تـزايـد في روما وبـدأت حيـاة يـسوع تنـتشر بينهم ، وإذا ما كان قـد كتب هــذه الجملة فعـلاً فيمكن أن يكـون قـد استـقاها من المسيحيين أنفـسهم ، وما أكــثر ما كـانـوا يـروجـونه . وكان سِلسَس Celsus يـؤكـد "أنهم قـد غـيروا وبـدّلـوا في نصوص الإناجيل وفـقاً لهواهم ، ثـلاث أو أربـع مـرات أو أكثر في النصوص البـدائية لإستبعاد ما كان يُعترض عليه ".
سينيكا : (4ق.م- 65م)Seneque
يُعـد سينيكا من فـلاسـفة الـقرن الأول ، وقــد عـاش فيما بين 4ق.م و 65، أي في الفترة الشـديدة القــرب ببداية المسيحية ، فـلم يـذكر شيئاً عن يسـوع ، ولم يتـورع القـديس جيـروم أن يجعل منه واحــداً من أبـاء الكنيسة ، وقـد قـامت الأيـادي العابثة بمـلء هــذه الفجـوة بإختـلاق مـراسلات بين سينيك والقـديس بـولس . لكن سـرعان ما تكشفت عمليات التـزوير لتديـن هـذه الخـدعة بأنها أحـط تــزوير يـُديـن مصداقية تلك الأيـادي .
المراجع
Bernard, J.L. : Apollonius de Tyane et Jésus, 1977
Coquet, M. : La vie de Jésus démystifiée, 2003
Duquesne, J. : Jésus, 1994
Massey, G. : Les origines du christianisme, 2003
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق