بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
د. محمد جلال القصاص
حين تتأمل في مخرجات نصر حامد أبو زيد، وتحاول التعرف على الخيط الناظم لأفكاره. وتعيد النظر مرة بعد مرة. فلن تجد إلا شيئًا واحدًا، ألا هو بغضَه وعداوتَه للقرآن الكريم!
ويمكننا تلخيص أفكار نصر حامد أبو زيد في محورين رئيسيين على النحو التالي:
المحور الأول: ادعاء أن البعثة المحمدية إفراز للبيئة (المجتمع) الذي ظهرت فيه. حيث زعم أن "المجتمع مُنْتِج ثقافي واجتماعي" بمعنى أن البعثة المحمدية بكل ما جاءت به من نصوص (كتاب وسنة) وما في النصوص من نبأ الأولين والآخرين مما لم يكن معروفًا في مكة ولا حواليها، وتشريعاتٍ في جميع جوانب الحياة تُعجِز كل من عُني بخطة إصلاحية أن يأتي بمثلها، والتطبيق العملي الذي تحقق على يد النموذج الأول من البعثة (الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم).. أولئك الذين غيروا وجه الجزيرة العربية وبلاد فارس وكثيرًا من بلاد الرومان، يزعم أن هذا كله نتاج البيئة التي ظهرت فيها!!
زعم أن القرآن الكريم توافق مع حركة الدعوة في مكة والمدينة (قرآن مكي وقرآن مدني)، ثم مع حركة المسلمين بعد ذلك (في عهد الراشدين والذين من بعدهم)، يقول: كلٌ يستدعي من النص ما يوافق واقعه الذي يعيشه وكأن الوحي (الكتاب والسنة) تابع لا مؤسس. يقول كل من مرّ بالنص أوّله تبعًا لما يحب!! ولذا ظن أن من شغل بالقرآن الكريم إنما شغل به لتأويله تبعًا لهواه لا لمعرفة مراد الله من عباده. ولذا عمم "التأويل"، فذكر أن التأويل تَعَدَّدَ حسب المجالات التي تعلقت بعلوم القرآن الكريم، فذكر التأويل اللاهوتي[1] (الديني، والمتدينون عنده هم المعتزلة)، وتأويل أدبي يتعلق بالسياق اللفظي (المجاز) وإمامه في هذا "أمين الخولي" ويأتي الحديث عنه وعن هذه المدرسة في نهاية المقال. وتأويل الأحكام (المحكم والمتشابه، وفي هذا السياق زعم أن الذكر الحكيم متشابه كله.. أو ظني الدلالة كله، وأن المحكم غير موجود)؛ ثم التأويل الصوفي وينقل عن ابن عربي أن المعنى لا نهائي!!
وكأن هذا الذكر الحكيم تابع لأهواء البشر، والله يقول:( كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:١)، والله يقول: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء من الآية9)، فالقرآن هادٍ وليس نتاج بيئة أو حركة اجتماعية، وإنما نور نزل من الله فتغيرت به البشرية (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورًا مُّبِينًا)(المائدة:74).
والله يقول: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنًا لِّكُلِّ شَيۡءٍ وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ) (النحل: 89)، والله يقول: (مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءۚ) (الأنعام: من الآية28).
والقول بأن "المجتمع مُنْتِج ثقافي واجتماعي" لا يقبله عاقل، فبدهي أن ذات البيئة، بل ذات البيت ظهر فيه الأضداد، فقد كان خير خلق الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب وأبو لهب، كانوا من بيئة واحدةٍ، بل من بيتٍ واحد (بني عبد المطلب بن هاشم). و-أيضًا- من صلب رأس النفاق (ابن سلول) خرج ابنه (عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول)، وكان ممن يحب الله ورسوله.
وفي بيت نبي الله نوح - عليه السلام - تربى ولده الذي كان من المغْرقين. وفي بيت فرعون كانت آسية التي صدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين. وفي بيتَيْ نوح، ولوط - عليهما الصلاة والسلام – امرأتان كانتا على غير ما عليه زوجيهما.
فكيف يقال أنها البيئة وأنها العوامل الوراثية؟
وشيء آخر: هو "فجائية الدعوة". أو أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يتعرض، قبل البعثة، لإعداد معرفي من البيئة المحيطة به، فلم يُعرف عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه طلب العلم على يد معاصريه، أو أنه قرأ في صحف السابقين له، أو أنه، صلى الله عليه وسلم، برز في فن من الفنون المعرفية التي انتشرت في بيئته كالشعر والخطابة. إذ أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يتحدث إلى الناس إلا بعد البعثة وبما أوحى الله إليه من الذكر الحكيم والسنة النبوية. وكذلك صحابته رضوان الله عليهم، إذ أنه لا يعرف عن الخلفاء الراشدين أنهم ساسوا الناس بتعاليم شرقية أو غربية، وإنما اقتصر إعدادهم على ما تلقوه من الوحيين (الكتاب والسنة)، فلم يتتلمذ أبو بكر ولا عمر ولا ذو النورين عثمان ولا علي الإمام إلا على الكتاب والسنة[2].
وتتضح، وتتأكد، فجائية الدعوة من أُمية النبي، صلى الله عليه وسلم، (وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰب وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذًا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ) (العنكبوت:48). وأنه صلى الله عليه وسلم، لم يخرج من مكة المكرمة إلا مرة أو مرتين لتجارة وكان بينهم لم يفارقهم ولذا احتج عليهم في القرآن الكريم بأنه صاحبهم (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ) (النجم:2)، (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجۡنُونٍ) (التكوير:22) أي تعرفونه معرفة الصاحب بصاحبه. ولم يعرف عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه تعلم على يد أحد، ولم يعرف عنه، صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة الاهتمام بالشأن العام ومحاولة السعي في تغيير حال الناس أو مزاحمة الملأ في إدارة المجتمع (قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرًا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) (يونس:16)، ولم يعرف عنه، صلى الله عليه وسلم، قول الشعر أو الخطابة (وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡر وَقُرۡءَان مُّبِين) (يسن:69). كانت صياغة ربانية نزل بها الروح الأمين (جبريل عليه السلام) على محمد صلى الله عليه وسلم. ولم تكن تطورًا من البيئة.
هذا هو الواقع الذي رأيناه على صفحات الأيام: تغير حال الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، ثم حال المدينة ومكة، ثم العرب، ثم ما جاور العرب من بلاد فارس والرومان على يد من لم يتعلم سوى الوحي الذي نزل من الله، وفجأة دون مقدمات معرفية أو حركية من البيئة التي خرجوا منها (مكة المكرمة).
المحور الثاني: بغض القرآن الكريم، أو ما يسميه هو بـ "إعادة تعريف القرآن".
مع أن بعض آيات الذكر الحكيم حاضرة في ذهنه وعلى لسانه، ومع ظهور اطلاعه على ما تحدث به علماء البيان الأوائل، ومع أنه نبت في بيئة قروية وليس تحت تأثير مستشرقين، مع هذا كله إلا أنه وقف أمام القرآن، وهو قزم يناطح السموات العلا، يتحدث بالغريب والشاذ مما قاله السابقون والمعاصرون، فدعا إلى إعادة تعريف القرآن من النص إلى الخطاب، بمعنى: دعا إلى أن يترك الناس القول بأن القرآن الكريم نص محكم البيان (قطعي الثبوت وقطعي الدلالة غالبًا وظني الدلالة أحيانًا كما قال الله (هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰت) (آل عمران: ٧) ويتحدثوا بأن القرآن الكريم خطاب، ويعرِّف الخطاب بأنه "بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، بين أصوات متعددة"، يقول: الله تكلم بالقرآن (أوحى به) ولكن تفاصيل القرآن تحدث بها كثيرون: أحدهم الله، جل جلال ربنا وتقدس، (ويسميه المقدس)، ومعه آخرون: البشر (أنبياء وعامة، يهود، ونصارى، وعوام، ومنافقين..إلخ)، والحيوانات (قالت نملة) والطيور (جئتك من سبأ بنبأ يقين..).
وينفي وجود نصوص قطعية الدلالة في القرآن الكريم، يقول: كل الدلالة ظنية، ويستدعي هنا: الناسخ والمنسوخ (من حيث وجوده ومن حيث كثرته)، ويتنكر للعموم والخصوص والمضاف والمضاف إليه وما تحدث به علماء أصول التفسير من قواعد ضابطة للفهم عن الله، ويستدعي قضية التأويل، ويقول بعموم التأويل: فالكل عنده متأول. الكل عنده يفهم النص حسب هواه، يقول: دائمًا ما يوجد تأويل وتأويل مضاد، والذي يسود هو ذو القوة (السلطة) وليس صاحب الحق. وقوله هذا غير صحيح، فكل سلطة (عادلة أو ظالمة) معها معرفة أنتجت هذه السلطة ابتداءً وتؤيدها بعد أن سادت وتسلطت، وكل معرفة منزوية (مستضعفة) تظل تبحث عن أدوات للتمكين(سلطة) حتى تتمكن، فالحال على ما قال الله.. تداول. (وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ) (ال عمران: 140)، لا أن كلام ذي السلطان هو الذي يستقر كما يدعي هذا!!
وخير نموذج على هذا هو القرآن الكريم فقد صنع الله بما في كتابه جيلًا فريدًا غير به واقع مكة والمدينة والجزيرة ثم فارس والروم.
ومن أقبح ما خط في كتبه وتفوه بلسانه ادعاء أن القصص القرآني للعظة والتسلية لا ذكرًا لأحداث حدثت بالفعل، فعادًا وثمود وموسى، وفرعون وقومه، وإسرائيل (يعقوب) وبني إسرائيل، والمسيح، والخليل إبراهيم لم يكونوا شهودًا، والله يقول: (أَوَ لَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۚ أَفَلَا يَسۡمَعُونَ) ( السجدة: ٢٦)، والله يقول: (وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَيۡهِم مُّصۡبِحِين. َوَبِٱلَّيۡلِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُون) (الصافات: ١٣٧ – ١٣٨)، وهو بهذا يزايد على غلاة المستشرقين والملحدين (الوضعيين ... أولئك الذين قالوا: نؤمن بما شاهدناه في واقعنا لا بما أخبرنا به القرآن والكتاب "المقدس" بعهديه القديم والحديث)، فهؤلاء آمنوا بما له آثار في الواقع، أما هذا فأعرض وجنح لأشد ما يتطاول به على كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم!!
وزاد على تكذيب الخبر (القصص القرآني) التهكم على الأسلوب فزعم أن القصص القرآني، باستثناء قصة يوسف عليه السلام، مشتت وليس فيه سرد كامل للقصة، وادعى- كذبًا- أنه أول من التفت لهذا، وهو ينقل عن المستشرقين وليس رأسًا في الضلال كما يزعم، وقد أكثر علماء الأمة في بيان فوائد التكرار في القرآن الكريم، وقد منَّ الله علي بتقديم إضافة في هذه المسألة في مقال بعنوان "من فوائد التكرار في القرآن الكريم"[3]، وثمة فرق كبير بين أسلوب القرآن الكريم والأسلوب العلماني (الأكاديمية)، كل منهما في وادٍ[4].
وزعم أن التحدي لم يكن من القرآن وحده كما قال الله: و(إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٍ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ)(البقرة: ٢٣)، يقول: بل كان التحدي من قريش أيضًا، ويستحضر ما طلبوه من معجزات، مثل: (وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا) (الإسراء:٩٠)، وما بعدها من آيات، يظن أن عدم إجابة طلبهم المعجزات عجز.
يقول: كان التحدي من الطرفين. وهي جرأة على الله وجهل بالله وصفاته وما أنزله على نبيه، أو جرأة على الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد وجدت المعجزات، وبكثرة، ولكن لم تتم إجابة الكفار لما طلبوه، رحمة بالأمة حتى لا يصيبها ما أصاب مَن قبلها حين طلبوا المعجزة ولم يؤمنوا بها، يقول الله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفًا) (الإسراء: ٥٩)، (قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ)(المائدة: 115).
وادعى أن القرآن نوع من الشعر. يقول: قريش أعلم بما هو شعر مما ليس بشعر، وبالتالي فإنها حين وصفت القرآن بالشعر فإن قولها معتبرًا!!
وقريش كانت تكذب وهي تعلم أنها تكذب، كانت تكذب لتصد الناس عن دين الله (قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ) (الأنعام:33)، (وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل:103) وهم بأنفسهم نفوا عن القرآن الكريم صفة الشعر، ونفوا عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، صفة الشاعرية، وحديث الوليد بن المغيرة بين الملأ من قريش مشهور ومعروف. وإن الشعر كفَنٍ من فنون البيان معروف للعامة قبل الخاصة، وهذا القزم يتجرأ على ما لم يتجرأ عليه أبو جهل ورفاقه من كفار قريش والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.. يقول: كل ما أثر فهو شعر وبالتالي فالقرآن شعر.
وهذا كذب بيّن فالتأثر موجود بالنثر مكتوبًا أو إلقاءً (خطابة).
وقد ذكر الدكتور محمود خليل (مدير إذاعة القرآن الكريم سابقًا)، أن عدو القرآن هذا خط بيده، في أواخر أيامه بعض التراجعات تتعلق بالاعتراف بنبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، والاعتراف بعالمية الإسلام. ولا شيء من هذه الاعترافات تتعلق بما ورد في هذا المقال، وإنما الاعتراف بنبوة النبي، صلى الله عليه وسلم، وعالمية الإسلام يأتي ضمن موضة فكرية عالمية انتشرت في الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي، مع تحول الغرب من الإلحاد الصلب (الكفر بالغيب وبالتالي الأديان كليةً) إلى الإلحاد النسبي القول بأن الحقيقة نسبية وأن الكل حاضر.. الإسلام وغير الإسلام، وفي هذا السياق تجد الملحدين اليوم ينتمون إلى "الديانات الإبراهيمية".. حالة من الشك (لا أدري). وتجد رؤساء الإلحاد يصفون محمدًا، صلى الله عليه وسلم، بالنبوة، بمعنى يتنبأ، كما العرّافين والمشعوذين، ويعترفون بالإسلام كأحد نماذج الإيمان، بل إن عديدًا من الملحدين يتجمعون تحت شعار "مؤمنون بلا حدود".
وبعد:
يتبع "نصر أبو زيد" مدرسة تأسست في الجيل الذي سبقه. بدأت إرهاصاتها منذ مطلع القرن العشرين، بعد مخالطة الأمة العربية للثقافة الأجنبية، على يد "أمين الخولي" (1895-1966م)، فهو شيخ المدرسة وإليه تنسب، ومعه أفراد تحدثوا بمثل ما يقول، مثل: تلميذه محمد أحمد خلف الله (1916-1991م)، ومصطفى عبده ناصف(1921م-2008م)، وعبد الفتاح شكري عياد (1921-1999م)، وحسين محمد نصار (1925-2017م)، وشكري عمر فيصل (سوري الجنسية 1918-1985م).
وانطلقت هذه المدرسة من فكرتين رئيسيتين:
الأولى: هي التطور المعرفي، والثانية: "حتمية الواقع"[5]، ومحصلة هاتين الفكرتين: أن لكل زمان ومكان ما يناسبه، وبالتالي فإن "التجديد" واجب إذا اختلف الزمان والمكان، بمعنى إعادة قراءة الشريعة بما يناسب الزمان والمكان. ومن هذا المنطق (التطور) قالوا: بالتأويل (تأويل النص) تبعًا للسياق الذي يقرأ فيه، وهم في هذا يتوافقون مع مدرسة "الهرمنيوطيقا" الغربية، أو بالأحرى يطبقونها على النصوص الشرعية كما طُبقت على نصوص الكتاب "المقدس".
ومن هذا المنطلق (التطور وحتمية البيئة) جعلوا العقل مركزًا، وأعطوه أولوية على النص وقالوا بأن العقل أوسع مدى من الوحي. وهو الهوى على الحقيقة، وهم الذين اتبعوا أهواءهم. يقول الله تعالى: (أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡم وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةً فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية:23)
ومن أسباب الانحراف عند هؤلاء ظنهم أن النص هو منطوق القرآن الكريم.. ما بين دفتي المصحف الشريف. وإن النص عندنا هو منطوق القرآن الكريم ومعه السنة النبوية الشارحة والتطبيق العملي الذي قام به الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم بين يديه وسيرة الخلفاء الراشدين في الحكم.
فالسنة النبوية من الوحي، وقد أرسل الله الكبير المتعال، سبحانه وعز وجل، أنبياءه بكتابٍ وسنة شارحة (حكمة) يقول الله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٍ وَحِكۡمَة) (آل عمران: 81). (وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ)( آل عمران: 48)، و(وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ) (الأحزاب: 34).
وذكر أن الاهتداء يكون باتباع ما كان عليه محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضوان الله عليهم، (فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ) (البقرة: 137)، وفي الحديث "فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ"، ومثل هذا كثير في الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية).
إننا تلقينا نصًا وطريقة فهمه وطريقة تطبيقه.. تلقينا نصًا ونموذجًا عمليا للتطبيق فليس لأحد أن ينفرد بما بين دفتي المصحف ثم يقول هذا هو النص الشرعي، ثم يعمل فيه الاحتمالات من عند نفسه، وقد حذرنا من هذا الفعل وممن يفعله ولا أريد الإطالة، والمقام مقال، (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ) (الحشر:من الآية 7).
ومن هذا المنطلق (التطور ومواكبة العصر وحتمية البيئة) تحدثوا عن وجوب التقليل من التفكير الغيبي (الأخروي) والإكثار من التفكير الاجتماعي أو الفهم الاجتماعي الحر للدين، وهم في هذا يحاولون التوافق مع الغرب المادي الذي لا يعرف سوى الحياة الدنيا (يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ)(الروم:7).
وإن الوحي (كتابًا وسنة) عُني بالأساس بالدار الآخرة.
أو: اتخذ الوحي (كتابًا وسنة) من الترغيب والترهيب منطلقًا لإصلاح حال الناس في دنياهم،أو: الرسالة إنما جاءت لتعبيد الناس لله ليفوزوا بما أعد الله للصالحين من نعيم وينجوا مما توعد به العاصين من عذاب أليم، أو: الحياة الدنيا دار اختبار وثمة آخرة.. مستقرة ليس بعدها شيء. فيها عذاب أليم للعاصين ونعيم مقيم للطائعين (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثًا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ) (المؤمنون: 115)، (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرًا يَرَهُۥ. وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ) (الزلزلة: 7-8).
وقد جنحوا إلى تكذيب القصص القرآني أو القول بأنه تمثيل من أجل الوعظ لا أنه يحكي قصصًا حقيقية (تاريخًا) بالضرورة.. وكأن ما في القرآن لم يحدث أو حدث أصل القصة لا تفاصيلها.. بمعنى أن القرآن حبكة (صياغة) أدبية من أجل العظة. وهذه المدرسة تجرأت على ما لم يتجرأ عليه غيرها.. ركبوا الغلو والشطط للتوافق مع المادية الغربية المتطرفة، وذلك أن الغرب، يومها، لم يكن يصدق إلا ما رآه بعينه مشاهدًا في الواقع وهؤلاء، كي يخرجوا من الحرج مع الغرب الذي لم يتعرف على بعض ما ورد في القرآن الكريم، تكلفوا معركة مع القرآن وأهله لم يسبقهم إليها أحد فقالوا بأن القصص القرآني للتمثيل لا للحقيقة، وهي ذات الأفكار التي رددها طه حسين وغيره فكانت موضة فكرية أساسها الغرب أو الرغبة في التوافق مع الغرب.
وعمليًا لم تساهم مخرجات هذه المدرسة في تقدم الأمة وإنما كانوا أداة في الصراع مع الغرب. فهؤلاء لم يخرجوا من مكاتبهم وأقبيتهم التي يتصفحون فيها ولم يقدموا مشاريع عملية للنهوض بالأمة، وإنما أدواتُ الغرب والعلمانية، وخاصة الإعلام، هي التي امتطت ظهر هؤلاء وقاتلت من على ظهرهم الشريعة وأهلها، فالفاعل الرئيسي هو الغرب ومن اتبع هوى الغرب من أصحاب الأدوات.. هم الذين أخرجوا كلام هؤلاء وحاولوا تفعيله بين الناس.. هم الذين يحاولون تقديم أعداء الوحي رموزًا للناس كي يتبعوهم.
وإن ما قاله نصر أبو زيد والخولي وأمثالهم قيل من قبلهم في مكة من كفار قريش، وقيل من المستشرقين والمنصرين، ولم يأتوا بجديد غير أنهم أعربوا عن مرض في قلبهم، وعن كرهه لما أنزل الله على محمد، صلى الله عليه وسلم. وردوا حياض الكافرين (الابتعاث للفاتيكان والألمان، وتبني نظرياتهم[الهرمنيوطيقا]) فأطاعوهم في بعض الأمر. وحاولوا التوافق مع الكافر، وقد مضوا إلى ربهم ولابد أنهم يحاسبون على قولهم (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرًا يَرَهُۥ. وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ) (الزلزلة:7-8)، والله يقول: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمۡ فِي بَعۡضِ ٱلۡأَمۡرِۖ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِسۡرَارَهُمۡ. فَكَيۡفَ إِذَا تَوَفَّتۡهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ) (محمد: 26-27).
د. محمد جلال القصاص
26 صفر 1444ه
22/09/2022
[1] يستخدم المفردات الكنسية: (اللاهوت)، (يوم الدينونة). مع أنه معني بالقرآن الكريم!!
[2] ينظر: "كيف تعمر الأرض بالعابدين" للكاتب، من هذا الرابط: http://www.saaid.net/Doat/alkassas/302.pdf
[3] ينظر: "من فوائد التكرار في القرآن الكريم" لمحمد جلال القصاص، http://www.saaid.net/Doat/alkassas/300.htm
[4] ينظر: "العبوس المتغطرسة" لمحمد جلال القصاص، http://www.saaid.net/Doat/alkassas/298.htm
[5] وانطلق عباس العقاد من ذات الفكرتين (حتمية البيئة والتطور)، بمعنى أن أطروحات عباس العقاد كانت تطبيقًا لهاتين الفكرتين، وقدمت مناقشة موسعة له في كتاب مستقل، وإن شاء الله أكتب بشكل منفصل عن هذه الفكرة كقاسم مشترك بين العقاد وغيره، وعلاقة ابن خلدون بهذا الطرح. وكل ما يقال هنا قلته في مقالات من قبل لمن شاء المراجعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق