على خطى المؤتمر العربي الأول!
سيف الهاجري
في باريس عمَّد المؤتمر العربي الأول عام ١٩١٣ فكرة إبعاد الدين عن المعادلة السياسي وتغييب دور البعد الديني والتاريخي وأثره في العلاقة مع الغرب في تفسير سياسات القوى الغربية في العالم العربي لتصبح منهجية هذا المؤتمر السياسية هي الأساس المنهجي لكل المؤتمرات التي تعقدها سواء المعارضة السياسية أو النخب والمراكز الفكرية أو الجماعات الإسلامية خلال القرن العشرين بعد سقوط الخلافة العثمانية، والتي دفعت ثمن سياساتها الانفتاحية على الغرب لتحديث نظمها وفق المفاهيم الغربية وخاصة البعثات العلمية والمدارس والجامعات التبشيرية ليفتح تلاميذها أبواب حصون الخلافة أمام الحملة الصليبية الأخيرة في الحرب العالمية الأولى.
فقبل الحرب بعام مهدت القوى الصليبية لحملتها على الخلافة، ففتحت بريطانيا قنوات الاتصال مع الشريف حسين ووعدته بالخلافة العربية، ورعت فرنسا المؤتمر العربي الأول ١٩١٣ للأحزاب والجمعيات القومية ، وقبل المؤتمر كشف رئيسه عبد الحميد الزهراوي في مقابلة مع صحيفة الطان الفرنسية في فندق كونتننتال عن المنهجية العلمانية للمؤتمر حيث قال (يهمني أن أصرح لك قبل كل شيء بأن هذا المؤتمر ليس له صفة دينية وكل أعماله تنحصر في الدائرة المحددة له من البحث في شؤوننا الاجتماعية والسياسية ولذلك ترى عدد أعضائه المسلمين والمسيحيين متساويا) ولم يذكر من وضع الدائرة وحددها لبرنامج المؤتمر ليخفي الدور الفرنسي فيه، وسأله المحرر الفرنسي هل أنتم تودون تأييد الوحدة العثمانية لأجل الرابطة الدينية؟ فأجاب (إن الرابطة الدينية قد عجزت دائما عن إيجاد الوحدة السياسية…وأنا أترجم عن رأي الفئة المتنورة) واستطرد قائلا (لقد سئمنا هذا الجهل الأعمى الذي طال أمده فينبغي لنا أن نلتفت حالا للحقائق العلمية وأن العالم يديره اليوم رجالا ينيرون الشرق والغرب.. الحقيقة هي أن المدنية الأوربية العصرية هي التي انتشلتنا من سباتنا العميق) «كتاب المؤتمر العربي الأول صدر عن اللجنة العليا لحزب اللامركزية بمصر طبعة ١٩١٤ ص١٧-٢١» ليعلن بذلك الزهراوي وبكل وضوح عن تبعية المؤتمر الفكرية‘ إن لم تكن العقائدية، للحضارة الغربية المسيحية!
والمطلع على الوفود المشاركة يدرك بأن هذا المؤتمر ليس إلا نواة أولى لسياسة أوروبية جديدة برعاية المعارضة السياسية في العالم العربي، ولذا كانت الوفود المشاركة خليط من جمعيات وأحزاب ونخب قومية ومسيحية من العالم العربي وأوربا وأمريكا وكما وصفهم الزهراوي رئيس المؤتمر في رسالته للشيخ محمد رشيد رضا قائلا (كنت قد فصلت لكم إذ جئت باريس كيف وجدت أمر مؤسسي فكرة المؤتمر فوضى؟ وكيف تعبنا في ستر الأمر وإيجاد مؤتمرا مرونقا فوق المأمول؟ وبعد انقضاء المؤتمر تفرق الجمع الذي لفق تلفيقا) «المنار ج١٩ ص١٦٩»
لكن لم يتفرق الجمع إلا بعد زيارة وفد من المؤتمر وزير خارجية فرنسا ليشكر رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي فرنسا على رعايتها وإكرامها لهم بالقول مخاطبا الوزير باسم المؤتمر (إننا إذا كنا نستحق هذا الإكرام بصفتنا أبناء دولة صديقة لفرنسا فإننا نستحقه أيضا بصفتنا سكان بلاد ـ كونهم من سوريا وفلسطين ولبنان ـ ما زالت فرنسا تظهر نحوها كل انعطاف وتودد) ليقر بذلك ضمنا رئيس أول مؤتمر عربي وظيفي أمام وزير خارجية فرنسا دعوى فرنسا بحقوقها التاريخية في بلاد الشام منذ الحروب الصليبية وهو ما حققته فرنسا بعد هذا اللقاء بسنوات بمعاهدة سايكس بيكو مع بريطانيا فكانت سوريا ولبنان من نصيبها من الحملة الصليبية في المشرق العربي لكن عبد الحميد الزهراوي لم يدرك ذلك فقد شنق في دمشق بتهمة الخيانة والتخابر مع فرنسا في عام ١٩١٦ في العام الذي وقعت فيه المعاهدة، ليقع ما حذر الأمير شكيب أرسلان في بيان للأمة العربية عام ١٩١٣م (بأن الخونة المارقين في المؤتمر العربي في باريس يكيدون للخلافة العثمانية الإسلامية ويمهدون الطريق لاستيلاء الأجانب عليها)
«انظر كتاب شكيب أرسلان:الدور السياسي الخفي ص58 ظاهر الحسناوي»!
فطريقة ترتيب المؤتمر العربي الأول ورعايته من قبل فرنسا وجدول أعماله ومقرراته وحتى الخطب التي ألقيت فيه لا تختلف عنه كل المؤتمرات التي عقدتها المعارضة السياسية الوظيفية برعاية قوى الحملة الصليبية في العواصم الغربية كمؤتمر المعارضة العراقية في لندن ديسمبر ٢٠٠٢، والذي يعد أحدث صورة معاصرة للمؤتمر العربي الأول، بعدما أعلن بوش حملته الصليبية لاحتلال العراق لتدخل المعارضة العراقية الوظيفية بكل أطيافها سنية وشيعية إسلامية وعلمانية بغداد على ظهر دبابة المحتل الأمريكي عام ٢٠٠٣ كما فعل أسلافهم القوميون بدخولهم دمشق ١٩١٨ على ظهر عربات المحتل البريطاني.
فالجماعات الوظيفية بكل أطيافها منذ مؤتمرها الأول في باريس إلى يومنا هذا وهي بنفس العقلية والمنهجية في ارتباطها بالغرب كمنظومة حضارية وإيمانها بها واعتبار النظام الدولي الغربي هو المرجعية الشرعية، وهو الضامن للمنظومة السياسية في العالم العربي بما فيها هذه الجماعات نفسها القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية على حد سواء!
وهذا ما كشفته أحداث ثورة الربيع العربي والتي تفاجأت الشعوب الثائرة في العالم العربي بأن هذه الجماعات التي منحتها قيادة ثورتها تتفاهم مع القوى الغربية وتتلقى توجيهاتها من سفاراتها ومبعوثيها كما حصل في مصر التي وزعت فيه السفيرة الأمريكية آن باترسون المناصب الحكومية بين القوى كما اعترف بذلك يونس مخيون رئيس حزب النور، وكما في اليمن ودور السفير الأمريكي مايكل فيرشتاين في المبادرة الخليجية والدولية وتكريم التجمع اليمني للإصلاح له على جهوده هذه عام ٢٠١٣، وفي تونس حيث تفاهمت حركة النهضة مع السبسي رجل النظام السابق في اتفاق باريس عام ٢٠١٣ برعاية فرنسية أمريكية، وفي السودان وتفاهم قوى الحرية والتغيير اليسارية مع المؤسسة العسكرية وفق ترتيبات مؤتمري واشنطن وبرلين ٢٠١٩، وفي ليبيا تفاهم حزب العدالة والبناء الإسلامي مع المبعوث الأممي وفق ترتيبات مؤتمر الصخيرات برعاية دولية، وعلى هذا فقس في كل بلد عربي مهما كانت درجة الحراك الشعبي فيه ستجد نموذجا وظيفيا يقطع الطريق على الحراك الشعبي من الخليج إلى المحيط!
لقد أفقدت الأنظمة والجماعات الوظيفية على مدى قرن الشعوب ذاكرتها التاريخية وسيطرت على وعيها بوهم الاستقلال والسيادة وغيبت عنها حقيقة الحملة الصليبية التي تحكم العالم العربي منذ إسقاطها للخلافة إلى اليوم وربطت الشعوب بمنظومة سياسية وثقافية بنتها الحملة الصليبية لا علاقة لها بالإسلام ولا تاريخه ولا منظومته العقائدية والفقهية الشرعية، وشاركت الجماعات الوظيفية بالدور الشعبي الأخطر في تحقيق ما لم تحلم به قوى الحملة الصليبية نفسها وهي تشاهد هذه الجماعات الوظيفية تكفيها عناء احتواء ثورة الربيع العربي سياسيا عن قناعة وإيمان بمرجعية النظام الدولي ومؤسساته وشرعيا بتبني فكر علي عبد الرازق بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وأن الخلافة ليست من الدين ليتم بهذا احتواء الشعوب وثورتها باسم هذا الدين المبدل لصالح الحملة الصليبية!
ولهذا فعندما تم إبعاد البعد الديني والإيماني من معادلة الصراع بين الأمة وأعدائها لدغت من نفس جحر عصبة الأمم ومن وريثتها الأمم المتحدة مرتين في قرن واحد لتقع فيما حذر منه النبي ﷺ بأنه (لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين)، فرجوعها إلى دينها وإيمانها ووعيها بواقعها السياسي وتاريخها هو الحل الوحيد لتخرج من هذا الجحر الذي أوقعه فيها الخطاب القومي العلماني والخطاب الإسلامي المبدل!
﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق