حق العودة.. ماذا لو ضاقت بنا بلدان المهجر؟
لم يعد حق العودة مطلبا عربيا لفلسطينيي الخارج ولا شرطا في قبول سلام موهوم مع العدو، بل صار حقا ينادي به الكثيرون من أبناء الوطن العربي الذين هاجروا بعد فشل الثورات العربية التي شهدها عام 2011.
صار العديد من دول العالم منفى قسريا أو اختياريا للهاربين من القهر والاستبداد في أوطانهم، ورحل إلى بلدان العالم مهاجرون جدد غير أولئك الذين كانوا موجودين فيها من قبل، هؤلاء من أطلِق عليهم المهاجرون السياسيون الذين خرجوا بطرق متعددة بعد فشل الثورة في بلادهم.
بين الحين والآخر، تتردد مبادرات أو نداءات لعودة أصحاب الفكر السياسي والمختلفين مع أنظمة الحكم إلى أوطانهم وخاصة مع تصاعد الأزمات الاقتصادية في بلدان الغربة والمنفى، وتزايد أعداد المهاجرين في ظل أزمات أكثر عنفا في بلدانهم، وبدأت بلاد المنفى تئن من تلك الأعداد المتزايدة.
للمنفيين تاريخ قديم
كان المنفى عقابا في البلدان العربية منذ سنوات بعيدة، ويذكّرنا التاريخ في مصر بالمنفيين من أبناء الثورة العرابية، وعلى رأسهم قائدها الزعيم أحمد عرابي في فبراير/شباط 1881.
انتهت الثورة بعد فشلها بالاحتلال الإنجليزي لمصر في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، ونفي زعيمها إلى الخارج، وإبعاد قادتها عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى الأرياف، وإقالة وزارة محمود سامي البارودي، وكذلك نفي عبد الله النديم صوت الثورة إلى الأستانة، وتوفي النديم في إسطنبول وما زالت رفاته فيها.
ما حدث مع عرابي حدث مع الزعيم المصري محمد فريد الذي قاد نضال المصريين بعد وفاة مصطفى كامل، وغادر مصر -بعد ملاحقات قضائية ومدة سجن ستة أشهر- إلى أوربا التي توفي بها في 15 من فبراير 1919، قبل اندلاع ثورة مارس في العام نفسه، وهي الثورة التي نُفي قادتها وعلى رأسهم سعد زعلول إلى جزيرة مالطا.
هجرة اليسار في السبعينيات
شهدت مصر موجة هجرة ونفي سياسية أخرى مع بداية عهد الرئيس الأسبق أنور السادات حينما تخلص من الكثير من الكتّاب والمثقفين الذين كان يتهمهم بالانتماء إلى التجربة الناصرية واليسار المصري، وجرى ذلك على مرحلتين، أولاهما في أعقاب ما أطلق عليه السادات ثورة التصحيح في مايو/أيار 1971.
غادر معظم الصحفيين والإعلاميين مصر إلى دول عربية مثل الكويت والإمارات ولبنان.
أما الموجة الثانية، فكانت بعد زيارة السادات للقدس وعقد معاهدة السلام مع العدو الصهيوني، وغادر فيها سياسيون من التيار الناصري واليسار مناهضون للصلح مع الكيان الصهيوني إلى العراق وسوريا وليبيا.
سافر بعضهم إلى أوربا، وشهدت هذه المرحلة صراعا سياسيا بين المهاجرين قسرا من السادات ونظامه، وظهرت محطات إذاعية وصحف مصرية تعارض سياسات السادات من هذه الدول، وفتحت صحف ومجلات عربية أبوابها لمعظم المعارضين.
مثل هذه الهجرات والنفي شهدتها الدول العربية، وجاب سياسيون من بلدان مثل سوريا والعراق دول الوطن العربي منفيين بسبب معارضتهم للأنظمة الحاكمة، ولا ننسى أيضا من تم نفيه وتشريده من الأرض المحتلة من أبناء فلسطين، وكما يقول المثل الشعبي المصري “كلنا في الهم شرق”.
الموجة الحالية في الهجرة السياسية
كانت أحداث أغسطس/آب 2013 بداية أكبر هجرة سياسية شهدتها مصر، وخاصة بعد فض اعتصام رابعة، فقد حوصرت جماعة الإخوان المسلمين، وتوالت محاكمات دفعت الكثير من المصريين إلى ساحات المحاكم، وشهدت المحاكمات السريعة إصدار أحكام على معظم من ينتمي إلى الجماعة، لتبدأ هجرة أعضائها إلى دول العالم، واستقبلت تركيا وبريطانيا أعدادا كبيرة منهم.
توالى خروج التيارات السياسية الليبرالية، وبعض أعضاء الحركات الثورية مثل 6 أبريل، وعدد من الإعلاميين مثل حافظ المرازي ويسري فودة، وبلال فضل وعلاء الأسواني.
لم يسلم أي معارض مصري من النفي الاختياري أو الإجباري، وكان آخر الخارجين من مصر السياسي أحمد طنطاوي الذي كان من المشاركين في الحوار الوطني الذي دعا إليه النظام الحاكم.
أحمد الطنطاوي كان كاتب بيان 8 مايو الذي وضع شروط الحركة المدنية المصرية للمشاركة في الحوار، ولكن يبدو أن ضغوطا كبيرة مورست عليه خاصة بعد ظهوره في وسائل الإعلام.
الحوار الوطني وعودة المهاجرين سياسيا
شهد العامان الأخيران محاولات عديدة من معارضين مصريين للعودة إلى الوطن، وقبل عودة الكاتب الصحفي جمال الجمل لم يجرؤ معارض على العودة إلى مصر حتى هؤلاء الذين لم يوجَّه إليهم أي اتهام، فقد يكون السبب مجرد تدوينة أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي تؤدي بك إلى السجن أشهرا أو سنوات.
قبل عودة الجمل، حاول الكثيرون إثناءه ولكنه عاد، واعتُقل أشهرا عديدة.
أخيرا، عاد السياسي عمرو حمزاوي والناشط وائل غنيم، ويبدو أن حظهما أفضل نسبيا، فقد تجنب الأول الخوض في العمل السياسي، واختفى الثاني بعد وصوله إلى مصر سياسيا وإعلاميا، وربما يكتفي بزيارته العائلية كما صرّح حين عودته.
مع بداية الحوار الوطني المزمع إجراؤه في مصر، تتوسع الدعوة أن يعود المصريون من الخارج استغلالا لأجواء الحوار وتنظيم مصر لقمة المناخ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فالداعون إلى العودة يأملون فتح المجال العام في مصر واتساع صدر النظام للاختلاف السياسي، ومع قرب إجراء انتخابات رئاسية عام 2024، فإن المناسبة قائمة لفتح صفحة سياسية جديدة.
في المقابل، فإن الكثير من الموجودين بالخارج يشكّون في النيات، ولا يأمنون العودة خاصة مع توالي عمليات الاعتقال السياسي، وبالتالي فالدعوة إن كانت قد سُربت منذ أيام عبر وسيلة إعلام إلا أنها حتى الآن لم تخرج صريحة من مصر، ولا تزال تحاط بشكوك كثيرة.
السؤال الحاضر الآن
السؤال الذي يطرح نفسه: هل أحتاج إلى وثيقة أمان حتى أعود إلى وطني؟ هل يحتاج كل مواطن -حتى أبناء المهجر القدامى الذين يناقشون أحوال وطنهم- إلى ضامن لكي يزور أهله مطمئنا أنه لن يُعتقل؟
إن حق العودة للشعب الفلسطيني لم ولن يسقط أبدا مهما طال زمن احتلال أرضنا العربية في فلسطين، وحق عودة المواطن العربي إلى بلده لا ينبغي أن يخضع لاتفاقات أو مبادرات، فلا يجوز أن تكون سلطة الدولة وإدارتها مثل سلطات الاحتلال مهما بلغ حجم اختلاف أبناء الوطن مع حكوماته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق