يُعرف محمد علي باشا الكبير بأنه مؤسس مصر الحديثة، والحق أنه مؤسس الدولة العلمانية العسكرية التي لا نزال نعاني منها حتى الآن، ودولته هي بداية النفوذ الأجنبي الكبير في الشرق الإسلامي، حتى إن الأجانب صاروا ينزلون بجيوشهم وأساطيلهم للدفاع عن نفوذهم الذي تأسس في مصر (كما حدث في ثورة عرابي) بل وتمكنوا من تغيير الجغرافيا المصرية والمشرقية حين شقُّوا قناة السويس فكان هذا بلاءً وبيلًا تحملته مصر والعرب ولا تزال تعاني من ويلاته حتى الآن.
إلا أن جانبًا لم يزل غير مشتهر عن حقبة محمد علي، تلك هي السنوات العشر التي حكم فيها الشام، تلك السنوات التي شهدت البذور الأولى لتأسيس دولة لليهود في فلسطين، إلا أن القدر لم يمهل هذا المشروع ليكتمل، غير أن المشروع نفسه تأسس وبدأ التفكير فيه جديًّا في ذلك الوقت، وهو ما سنعرض له خلال هذا المقال والمقالات القادمة.
لم ترحل آثار حكم محمد علي برحيله من الشام عام 1841م، وإنما استطاعت القوى اليهودية –المالية على وجه التحديد – والقوى السياسية الأجنبية البناء على ما تركته هذه الفترة من تغيرات في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تتمكن السلطنة العثمانية من إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل.
ونحن نعتمد في هذه المقالات على المصادر الأساسية لتواريخ تلك الفترات من شهود العيان أو من الطبقة التالية لمؤرخي هذه الفترة، بالإضافة إلى الوثائق المحفوظة لذلك العهد والتي استخرجها الدكتور أسد رستم في عمليْه الكبيريْن «المحفوظات الملكية المصرية» والواقعة في أربعة مجلدات وهي عبارة عن وصف لكل وثيقة محفوظة متعلقة بالشام في الأرشيف المصري، و«الأصول العربية لتاريخ سورية» الواقعة في خمسة مجلدات.
لقد كانت مدينة بيت القدس جزءًا من الشام الذي وقع تحت هذه السياسة، ولذلك لا يمكن فصل ما جرى في بيت المقدس عما جرى في عموم الشام، غير أن القدس بما لها من مكانة خاصة حظيت ببعض الإجراءات الخاصة في التمكين لليهود والمسيحيين – الرعايا والأجانب – ورفع شأنهم مع خفض شأن المسلمين والإزراء بهم.
وبالرغم من أن كاتب هذه السطور له موقف مضاد تمامًا من حكم محمد علي وأسرته في مصر والشام، إلا أنني التزمت بالاعتماد على المصادر المعجبة بتلك الفترة والتي تكيل الثناء الكبير لمحمد علي وولده إبراهيم باشا سواء ما كان منها مصريًّا أو ما كان من مصادر نصرانية شامية، بالإضافة إلى الوثائق، وإلى المصادر الأجنبية التي تنحاز عمومًا إلى جانب محمد علي و«إصلاحاته»! ولم أنقل عن مصدر وحيد كان له موقف مضاد لهذه الفترة.
وبداية يجب التنبيه إلى خطأ تسمية هذه الفترة بأنها «الحكم المصري» للشام، وهو الاسم المشتهر عنها، ذلك أن الشعب المصري كانوا – كإخوانهم في الشام – مقهورين تحت هذه السلطة، لم يختاروا سياستها ولم يوافقوا عليها، وإن دعمها كثيرون باللسان أو بالسنان بحكم غلبة السلطة وتمكنها واستقرار دولتها قرنًا ونصف القرن.
محمد علي والبلاط الأجنبي
استحدثت سلطة محمد علي عددًا من الإجراءات التي كان جماعها فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى الشام وإلى بيت المقدس على وجه الخصوص، وذلك عبر الرفع الدائم من شأن الأجانب الذين اتسع نفوذهم اتساعًا واسعًا وصارت لهم الكلمة العليا في معظم شؤون الحكم ما مثَّل انقلابًا حقيقيًّا في ميزان العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأجانب وبين أهالي البلاد.
لقد كان بلاط محمد علي أجنبيًّا، وكان رجال حكمه من الأجانب، الفرنسيين خصوصًا، وكانت دولته محسوبة على فرنسا في الصراع العالمي بين الإنجليز وفرنسا ذلك الوقت، وقد نقل المؤرخ إلياس الأيوبي المعجب بمحمد علي أن لفرنسا يدًا في توليته حكم مصر، إذ لما فشلت حملة نابليون أرادت فرنسا أن تبحث في العساكر العثمانيين عن رجل تمهد له حكم البلاد فيكون رجلها، فقام تييه ديليسبس – القنصل الفرنسي – بهذه المهمة واستطاع «اكتشاف» محمد علي، ثم أتم السفير الفرنسي في الأستانة سبستياني المهمة بالضغط على السلطان لتوليته حاكمًا لمصر، ولا ينقص هذا من مهارة ودهاء محمد علي الذي أدار معركته بين القوى المصرية حتى جعل نفسه مطلبها الذي أصرت عليه في وجه السلطان العثماني[1].
ولئن كان مفهومًا كثرة الفرنسيين في بلاط محمد علي إلا أن المثير للشكوك هو استكثاره من اليهود، فلقد كانت «نظرته العملية وتطلعاته الإصلاحية كانت في صالح اليهود، فلقد استخدم اليهود في الإدارة، وحررهم من الابتزازات المالية التي فُرِضَت عليهم في الماضي، بل إنه شجع هجرة اليهود إلى مصر»[2]، واليهود من ناحيتهم لم يتأخروا بل بدؤوا في التدفق على مصر ليشاركوا بقوة في النشاط الاقتصادي، حتى صارت مصر الموضع الوحيد في الدولة العثمانية التي فيها «شارك اليهود بشكل كامل في حركة الإصلاحات بتحفيز من ذلك المستبد (محمد علي)»[3].
انعكست هذه السياسة على الوضع في الشام، فقد اتخذ إبراهيم باشا عددًا من الإجراءات التي قلبت الموازين، من أهمها أربعة أمور:
أولًا: تشجيع الحجاج اليهود والنصارى على التدفق إلى بيت المقدس، من خلال إلغاء كافة الضرائب التي تؤخذ منهم، وإنشاء المرافق الخاصة لرعاية الحجاج إلى بيت المقدس، وجعل ما يدفعونه من أموال خالصًا للرؤساء الدينيين مما مكنهم من تحقيق استقلال مالي واسع ومستغرب بالنسبة لرجل كمحمد علي يؤسس دولة حديثة قائمة على نظام اقتصادي احتكاري وعلى ضرب الأوقاف وأعيان البلد.
ثانيًا: تقديم التسهيلات التجارية للأجانب في منطقة الشام، إذ كان الأجانب ممنوعين من التجارة في داخل الشام وتقتصر أنشطتهم التجارية على الموانئ فحسب، فسمح محمد علي لهم بالتجارة في سائر المناطق، بل وضايق على السفن التجارية العثمانية، مما قلب الميزان الاقتصادي – ومن ثم الاجتماعي – بين المسلمين وغير المسلمين، وبين الرعايا والأجانب.
ثالثًا: تضخيم نفوذ القناصل الأجانب، وبداية إنشاء القنصليات الأجنبية في بيت المقدس، وهي الأمور التي تطورت فيما بعد نحو تأسيس محميات ومناطق مستقلة اقتصاديًا وسياسيًا، إذ اتخذت القنصليات مهمة حماية الرعايا من اليهود والأرثوذكس والكاثوليك، وكانت القنصلية البريطانية أول ما أنشئ في بيت المقدس وأقوى ما أنشئ من النفوذ الأجنبي.
رابعًا: إنشاء المشاريع الزراعية والصناعية لترسيخ النفوذ الأجنبي في منطقة الشام.
بهذه الإجراءات التي سارت بوتيرة محمومة، وبدأت منذ اليوم الأول، تحولت فكرة توطين اليهود في سيناء إلى فكرة واقعية تدخل مجال السياسة من بعد ما كانت محصورة في خيال المتدينين اليهود وبعض الأدباء والحالمين، لقد صارت تُنشر في الصحف وتُطرح في كتب سياسية وتُرفع بها تقارير إلى أروقة السياسة، وهنا وجدت أوروبا أنه من الممكن التخلص من مشاكلها دفعة واحدة بتوطين اليهود في فلسطين.
في المقالات القادمة بإذن الله تعالى سنناقش كل إجراء من تلك الإجراءات بتفصيل، اعتمادًا على الوثائق والمصادر الأجنبية والمعجبة بمحمد علي وابنه إبراهيم باشا، لنرى كيف يستحق محمد علي لقب أن يكون المؤسس الأول لدولة إسرائيل.
[1] انظر: إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996م). 1/328 وما بعدها. وهو ينقل هذا عن مذكرات فريدناند ديليسبس ابن القنصل الفرنسي المذكور، وصاحب امتياز قناة السويس.
[2] ميخائيل فنتر، علاقات اليهود مع السلطات والمجتمع غير اليهودي، ضمن: يعقوب لانداو (تحرير)، “تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية”، ترجمة جمال أحمد الرفاعي وأحمد عبد اللطيف حماد، تقديم ومراجعة: محمد خليفة حسن، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م) ص522.
[3] Stanford J. Shaw, The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic, (Hampshire: Macillan Press LTD, 1991), p. 158.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق