كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس؟
هذا هو المقال الرابع والأخير من هذه الورقة البحثية التي تتناول دور محمد علي باشا في تأسيس إسرائيل في فترة السنوات العشر التي حكم فيها الشام، وقد ألزمنا أنفسنا في هذه المقالات ألا ننقل معلومة إلا عن مصدر مؤيد لمحمد علي أو وثيقة رسمية من أرشيف دولته أو مصدر أجنبي (والمصادر الغربية معجبة بمحمد علي كذلك)، وقد رأينا في المقالات الثلاثة السابقة كيف استكثر محمد علي من اتخاذ اليهود في حاشيته وفي أعماله حتى الحساسة منها، وكيف سهل لهم التدفق والهجرة والإقامة في فلسطين، وكيف سمح لهم بالتسهيلات التجارية والاقتصادية والقانونية التي ترفعهم فوق أهل البلاد وتقلب الميزان الاجتماعي للشام. (راجع المقالات تفضلًا: الأول، الثاني، الثالث).
والآن نختم بدوره في تأسيس النفوذ الأجنبي وتضخيم صلاحيات القناصل الأجانب، حيث بدأت القنصليات الأجنبية تغزو القدس وتهيمن بحمايتها على غير المسلمين، وهو الأمر الذي كانت له آثار بعيدة، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تلغيه فيما بعد.
رابعًا: تضخم نفوذ القناصل الأجانب
افتتحت القنصلية البريطانية في القدس لأول مرة في عهد سلطة محمد علي (1839م)، وهي القنصلية التي ستتولى حماية اليهود والبروتستانت المسيحيين في بيت المقدس والشام، وستبذر في هذه الأرض البذور الأولى للصهيونية بما كان لها من النفوذ، وكان ويليام تيرنر يونج أول قنصل في القدس، و«قد اهتم على وجه خاص بيهود الإشكنازيم، وأيضًا كانت بريطانيا تود إنشاء «محمية» لها في القدس احتذاءً بفرنسا وروسيا حيث إنه لم تكن هناك طائفة بروتستانتية يسبغ القنصل عليها حمايته، فقد وجد أن اليهود الأوروبيين كانوا دون كفيل أجنبي، ومن ثم نَصَّب نفسه راعيًا لهم… وبحلول شهر ديسمبر من عام 1938، ونتيجة لمساعي يونج الحميدة تم السماح للجمعية اللندنية لترويج المسيحية والتي تُعرف أيضًا بـ«جمعية لندن لليهود» بالعمل في القدس. وبدأت طلائع المبشرين البروتستانت في الوصول إلى المدينة المقدسة»[1].
لقد أسست سياسة إبراهيم لنفوذ القناصل الأجانب، إذ كانت القوانين تدفع بالأموال – ومن ثم النفوذ والعلاقات الاجتماعية – لتستقر في حجر القناصل، لقد «أتيح للأجانب ولقناصل الدول أن يكونوا أحرارًا في البلاد، وأن يتَّجروا بلا عائق ولا مانع مع أن تجارتهم كانت محصورة ببعض الموانئ، ولكن القناصل الذين اتخذوا الامتيازات تكأة لهم أَلَّفوا من أنفسهم دولة في الدولة، وكانوا يعطون الحماية لمن أرادوا. وبما أن متاجر الأجانب كانت تدفع 3 بالمائة ومتاجر الرعية كانت تدفع 20 بالمائة، فقد أخذ القناصل أكثر التجار تحت حمايتهم ليعفوا من زيادة الرسوم الجمركية»[2].
وقد استثمر اليهود هذا الوضع المريح فأقدموا على محاولة الاستيلاء على حائط البراق من المسجد الأقصى، وأعانهم على هذا القناصل، وقد احتفظت لنا السجلات بوثيقة تتضمن شكوى شيخ المغاربة في بيت المقدس إلى إسماعيل عاصم حكمدار حلب من أن اليهود ما زالوا يتعاظم أمرهم ويزيدون في الإيذاء عند حائط البراق، فمن بعد ما كانوا يزورون الحائط زيارة عادية هادئة صارت تتعالى أصواتهم وتتكاثر أعدادهم ويزيدون طقوسهم حتى كأنه صار كنيسًا لهم، ثم أرادوا أن يُبَلِّطوا الأرض التي أمام الحائط، وهو أمر جديد لم يسبق لهم أن تجرؤوا عليه، ثم إنه سيؤدي إلى إغلاق طريق مؤدٍ إلى وقف إسلامي آخر بتلك المنطقة، وقد دُعِمت شكوى شيخ المغاربة بقرار من «مجلس شورى القدس»، ومن ثَمَّ قرر إسماعيل عاصم منع اليهود من إحداث شيء جديد، لكن ما لبث أن جاء أمر من القنصل الإنجليزي إلى متسلم القدس بأن يسمح لليهود بما أرادوا، فأصدر متسلم القدس أمرًا بالسماح، ثم اعترض مجلس شورى القدس، فرُفِع الأمر لإبراهيم باشا الذي لم يبال به وفوض إسماعيل عاصم في القرار، وهو ما مآله عمليًّا إمضاء رغبة اليهود المدعومة بقوة القنصل الإنجليزي[3].
وكان القناصل يستخدمون نفوذهم في الدفاع عن غير المسلمين من أهالي الشام، ومن غريب ما وقع في مثل هذا الأمر أن المسلمين كانوا يتخذون زي اليهود ليتخلصوا من التجنيد الذي لم يكن يشمل اليهود والنصارى، فانتبه إلى هذا المكلف بجمع، أو بالأحرى: خطف، الشباب للتجنيد فأخذ يجمع الكل، فأخذ ضمن من أخذهم جملة من اليهود والنصارى، ورغم أن الخطأ لم يستغرق سوى ساعات إذ بدأ شباب اليهود والنصارى يعودون في عصر اليوم نفسه إلا أن السلطة عاقبت اليوزباشي الذي لم يتحقق في جمعه أُخِذ منه سيفه ونيشانه وضُرِب بالسياط أمام القنصل الفرنسي بودين وأُنْزل رتبتيْن[4].
وذات يوم وقعت جريمة قتل لأحد رهبان النصارى (حادثة الباديري)، فجندت لها سلطة الشام كل طاقتها للبحث عن الفاعلين، واتخذت التعذيب سبيلًا حتى على يهودي مشتبه فيه، ومع هذا فقد حضر إليهم يهودي إفرنجي تدل الدلائل على معرفته بالمجرمين وحاول التشفع في اليهودي المُعذَّب، ثم خرج ولم يُعتقل أو يُحقق معه ولم يُتَتَبَّع، رغم أن خروجه كان لإنقاذ القتلة الذين لم يعترف عليهم بعد اليهودي المقبوض عليه! ثم وبعدما ثبتت التهمة عليهم بالاعتراف والإقرار جاء قرار سيادي من محمد علي بالعفو عنهم لما تحرك إليه اليهود الأوروبيون[5]!
ولقوة نفوذ القناصل كان إبراهيم باشا رغم قسوته العنيفة على من يتمردون عليه لا يستعمل نفس تلك القسوة مع غير المسلمين، فمن ذلك أنه حين خرَّب الكرك أمهل النصارى ثلاث ساعات يخرجون فيها من البلد وينقلون منها ما استطاعوا من أرزاقهم، ثم اجتاح البلد ونفذ فيها مذبحته فكان عساكره يقتلون من لقوه وينهبون ما وجدوه ثم جعل البلد ركامًا[6]. وتسجل وثيقة عسكرية جملة غريبة ترد في أمر موجه إلى خفتان باشا في جهة دمشق يقول: «نظرًا لقيام النصارى في جبل الدروز اجمعوا الهناديين وامكثوا بأثقالكم حيث أنتم وليس لكم أن تعتدوا عليهم في هذه الآونة لأني أريد أن أخمد فتنتهم دون أن أمسهم»! ثم نجد وثيقة أخرى بأمر عسكري آخر إلى سليمان باشا «بإبداء النصح والعظة إلى الثوار»، ويتكرر هذا الطلب بالنصح والعظة[7]!
ومما يُرثى له أن المسلمين اضطروا أن يمتهنوا أنفسهم للقناصل للنجاة من بطش سلطة إبراهيم، وذلك أن قوانين التجنيد الإجباري – التي كانت في ذلك الوقت استعبادًا لا رحمة فيه ولا أمل في النجاة منه – كانت تشمل المسلمين ويُعفى منها المسيحيون واليهود، فكان المسلمون «ذوو المقام النبيل يعملون قواسين وخدمًا وسواسًا عند القناصل الأوروبيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين ليتجنبوا خدمة الصف استنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين في القنصليات»[8].
لقد أهين الشعور الديني للمسلمين بشدة – كما يقول قسطنطين بازيلي – حتى كان بعضهم يقول لبعض «الدولة صارت دولة نصارى خلصت دولة الإسلام»[9]، وقد بلغ الحال في ثورة الشام الأولى أن شابًا تركيًا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صنع صليبًا من الخشب، وصعد إلى مئذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المئذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلمًا فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا[10].
ويمكن اختصار الانقلاب الذي تم في أحوال الأجانب والقناصل في قصة المستر فارين القنصل الإنجليزي، فقبل حقبة محمد علي لم يكن يستطيع أجنبي «التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديًا الملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلًا لها في دمشق في سنة 1829، فلم يستطع دخول دمشق وأقام في بيروت»[11]، وظل مقيمًا أربع سنوات حتى استولى إبراهيم باشا على دمشق، فرتَّب له دخولًا أسطوريًّا أورده مؤلف «مذكرات تاريخية» على هذا النحو:
«كان ترتيب دخوله (هكذا) طَلَع لملاقاته عمر بك أمير اللواء، واستنظره في قصر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصُحْبته ألف عسكري نظام، وكان برفق القنصل حاضر من بيروت أربعة وعشرون خيال في بيارق النظام، وقواصته عدة ثمانية وعبدين وتراجمين ثلاثة وكيخية وخزندار، وحول في قصر عبد الرؤوف باشا عند عمر بك وتفكجي باشي واستقام مقدار نصف ساعة، وقام ركب، ومشيوا قدامه ألف عسكري نظام في الموسيقا، وبين باشي وبعده ثلاثون قواصًا من قواصة الوزير، بعده الخيالة الذين حضروا معه من بيروت ببيارقهم، وبعده التفكجي باشي وجماعته، وبعده قواصته لابسين طقومة ورديًا جزايرليًا مقصبًا، وبيدهم عصي فضة مكوبجين (ذات قبضة) على كسم صليب، وبعدهم التراجمين في الشالات الكشمير في الخيل المنظومة، وبعدهم القنصل راكب على راس خيل من الخيول الجياد، عدته مشغولة في الصرما، ولابس على راسه برنيطة محجرة بالألماس، وفي راسها جملة ريش أبيض وأحمر، ويرمي سلامًا، ووراه كيخية وخزنداره وعبيده، وتنظر العالم [أي: وترى الناس] منتشرة من عند قصر المرجة شي لا ينحصي. وحكم طريقه على الدوالك، على بيت يوسف باشا، على باب السرايا، على سوق الأروام وسوق الجديد، على باب القلعة، على باب البريد، على سوق الحرير، على البزورية، على ماذنة الشحم، على الخراب، على طالع القبة، على حمام المسك، على باب توما، على حمام البكري، على زقاق القميمم (القميلة)، على بيته، فكانوا قبل بمدة آخذين له بيت قزيها الذي قدام قناية الحطب، ودخلوا العساكر جميعها لعند بيته فحالًا رفعوا له البنديرة فوق باب البيت على راس السطوح، وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيشان المملكة (الآرما) مصورًا فيها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام باب بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة الحاج (بكثرة) الناس فوق بعضها بعض هذا ما كان من مادة دخول القنصل»[12].
وهكذا صار القناصل قوة فوق قوة السلطة نفسها، وقد استمر إنشاء القنصليات الأجنبية التي أسس محمد علي لوجودها حتى بعد رحيل سلطته؛ فلقد صار النفوذ الأجنبي قوة حقيقية قائمة، وصار ذلك النفوذ موضع تنافس غربي لا تقوى الدولة العثمانية في حالها آنذاك على اقتلاعه، «فخلال السنوات الخمس عشرة التالية كانت فرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا قد فتحن قنصليات لها في المدينة المقدسة، وأصبح هؤلاء القناصل ذوي حضور بالغ الأهمية في المدينة… بيد أنه كان لكل منهم أجندته السياسية، وكثيرًا ما أدى ذلك إلى الصراع في المدينة المنقسمة على نفسها بالفعل. ووجد السكان المحليون أنفسهم طرفًا في صراعات القوى الأوروبية»[13].
[1] كارين أرمسترونج، القدس، ص565، 566.
[2] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص143.
[3] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/294 وما بعدها، (رقم الوثيقة 6205 بتاريخ 4 محرم 1256هـ).
[4] مجهول، مذكرات تاريخية، ص80، 81.
[5] مجهول، مذكرات تاريخية، ص117، 121، 122؛ وانظر: إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: مطبعة النظام، 1934م)، ص154.
[6] مجهول، مذكرات تاريخية، ص78.
[7] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/356 (وثيقة رقم 6312 بتاريخ 3 ربيع الآخر 1256هـ).
[8] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162.
[9] مجهول، مذكرات تاريخية، ص59، 60.
[10] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص139.
[11] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189؛ مجهول، مذكرات تاريخية، ص25.
[12] مجهول، مذكرات تاريخية، ص68، 69.
[13] كارين أرمسترونج، القدس، ص565.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق