قبل محمد علي بمئتي عام.. ماذا تعرف عن المحاولات الأولى لتجنيد المصريين؟محمد شعبان أيوبفي عام 1798، نزلت القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، وبعد المقاومة الشعبية الكبيرة التي قادها محمد كُريم والهزيمة التي تعرضوا لها، انطلقت هذه القوات صوب البحيرة ومنها جنوبا بموازاة النيل حتى بلغت الأهرام في صيف ذلك العام. وهنالك كانت مصر العثمانية واقعة تحت سطوة ونفوذ البكوات المماليك، الذين ظنوا أن الفروسية التقليدية، ومعارك الكر والفر، واستخدام البندقية والسيف قد يُجدي نفعا مع قوات نابليون التي جاءت بفنون وخطط عسكرية وإستراتيجية جديدة في القتال، فضلا عن المعدات العسكرية المتقدمة مثل البنادق والمدافع ذات المدى البعيد مقارنة بما كان لدى المماليك. ولم تمضِ ساعات قليلة على المواجهة حتى انهزم المماليك، ودخل الفرنسيون القاهرة محتلين، وخضعت مصر طوال ثلاث سنوات للحكم الفرنسي المعروف تاريخيا باسم "الحملة الفرنسية".
رسم لنا "الجبرتي"، مؤرخ مصر الشهير في هذه الحقبة، صورة مُفصَّلة عن الأحداث اليومية التي مرَّت بمصر والمصريين في ذلك الوقت، ودور المماليك والعثمانيين، ومحاولاتهم الحثيثة استعادة أهم ولاية عثمانية في جنوب البحر المتوسط. ولهذا السبب لجأ العثمانيون إلى التحالف مع البريطانيين، المنافس التقليدي للفرنسيين، وخوفا من أن يقطع الفرنسيون الطريق بين أهم مستعمرة بريطانية وهي الهند وبين لندن، قَبِلَ الإنجليز هذا التحالف، وتتبعوا الأسطول الفرنسي في سواحل البحر المتوسط في مصر وفلسطين، وأنزلوا بنابليون ضربة قاصمة. وبالتزامن مع هذه الجهود العثمانية والبريطانية في البحر، أرسل العثمانيون قوات عسكرية عثمانية وألبانية إلى القاهرة ساندت ثورات المصريين ضد الوجود الفرنسي، وسرَّعت من زوال الحملة الفرنسية، وإعادة مصر إلى السيادة العثمانية.
في عام 1798، نزلت القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، وبعد المقاومة الشعبية الكبيرة التي قادها محمد كُريم والهزيمة التي تعرضوا لها، انطلقت هذه القوات صوب البحيرة ومنها جنوبا بموازاة النيل حتى بلغت الأهرام في صيف ذلك العام. وهنالك كانت مصر العثمانية واقعة تحت سطوة ونفوذ البكوات المماليك، الذين ظنوا أن الفروسية التقليدية، ومعارك الكر والفر، واستخدام البندقية والسيف قد يُجدي نفعا مع قوات نابليون التي جاءت بفنون وخطط عسكرية وإستراتيجية جديدة في القتال، فضلا عن المعدات العسكرية المتقدمة مثل البنادق والمدافع ذات المدى البعيد مقارنة بما كان لدى المماليك. ولم تمضِ ساعات قليلة على المواجهة حتى انهزم المماليك، ودخل الفرنسيون القاهرة محتلين، وخضعت مصر طوال ثلاث سنوات للحكم الفرنسي المعروف تاريخيا باسم "الحملة الفرنسية".
رسم لنا "الجبرتي"، مؤرخ مصر الشهير في هذه الحقبة، صورة مُفصَّلة عن الأحداث اليومية التي مرَّت بمصر والمصريين في ذلك الوقت، ودور المماليك والعثمانيين، ومحاولاتهم الحثيثة استعادة أهم ولاية عثمانية في جنوب البحر المتوسط. ولهذا السبب لجأ العثمانيون إلى التحالف مع البريطانيين، المنافس التقليدي للفرنسيين، وخوفا من أن يقطع الفرنسيون الطريق بين أهم مستعمرة بريطانية وهي الهند وبين لندن، قَبِلَ الإنجليز هذا التحالف، وتتبعوا الأسطول الفرنسي في سواحل البحر المتوسط في مصر وفلسطين، وأنزلوا بنابليون ضربة قاصمة. وبالتزامن مع هذه الجهود العثمانية والبريطانية في البحر، أرسل العثمانيون قوات عسكرية عثمانية وألبانية إلى القاهرة ساندت ثورات المصريين ضد الوجود الفرنسي، وسرَّعت من زوال الحملة الفرنسية، وإعادة مصر إلى السيادة العثمانية.
محمد علي باشا وتجنيد المصريين
في الفترة التي أعقبت خروج الفرنسيين من مصر، تحديدا بين عامي 1801-1805م، ظهرت على سطح الأحداث قوى متصارعة في مصر، منها العثمانيون بقيادة ولاة ضعاف أمثال خسرو باشا وطاهر باشا وحسن باشا الجزايرلي ثم خورشيد باشا، وكذلك قائد الفرقة الألبانية محمد علي باشا المتحفز والمراقب، وقادة المماليك الثائرين أمثال البرديسي، وأخيرا القوى المصرية المحلية مثل عمر مكرم والشرقاوي وأبناء الحِرَف والصناعات في القاهرة ودمياط والإسكندرية.
وبينما وقفت الفرقة الألبانية بزعامة محمد علي باشا على الحياد بين قوى الصراع، راقب المصريون هذا الحياد "الإيجابي" الذي دافع عن حقوقهم ومصالحهم ومعايشهم، ولهذا السبب قرروا مبايعة محمد علي باشا وإرسال قرارهم إلى إسطنبول، حيث أُجبر عليه السلطان سليم الثالث وأقرَّه، وإن أدرك خطورة تحالف عامة المصريين مع محمد علي وأثره السلبي على سيادة الدولة العثمانية في مصر. ولذا حاول سليم الثالث في العام التالي أن يعزل محمد علي ويرسل واليا جديدا، لكن محمد علي رفض مقابلة الوالي الجديد، وبات واضحا مدى رسوخ قوة محمد علي في مصر[1].
في السنوات الست الأولى من ولاية محمد علي على مصر، استطاع أن يقضي على نفوذ بعض الشيوخ ويشتري ذمم الآخرين، كما استطاع وضع نهاية للمماليك في مذبحة القلعة عام 1811م، ثم بدأ يتطلع إلى إخضاع عامة الناس والسيطرة على مصادر قوتهم الذاتية، فألغى نظام الالتزام العثماني في الأراضي الزراعية، وفرض نظام الاحتكار، حتى صار المسؤول الأول والأخير عن المحاصيل والغلات وأسعارها. ثم عمل الوالي على السيطرة على الأوقاف، وأخيرا أدرك مدى ضعف البنية العسكرية لجنوده الألبان والجراكسة، وعدم انضباطهم وفق النظم العسكرية الجديدة التي استعان فيها بالكولونيل سيف أو سليمان باشا الفرنساوي الذي كاد يقتله الأرناؤوط الألبان حين بدأ في تدريبهم على هذه النظم العسكرية والقتالية الحديثة. وكان الكولونيل سِيف من ضباط الحملة الفرنسية الأقدمين، ومن جنود نابليون بونابرت، ولما كان محمد علي معجبا بنابليون وانضباط قواته العسكرية والنظم الفرنسية عامة؛ استعان بهذا الفرنسي كما استعان بفرنسيين آخرين في تطوير النظم الحديثة في مصر طوال عصره.
لهذا السبب أرسل محمد علي باشا ابنه إسماعيل باشا على رأس قوات عسكرية إلى السودان لجلب السودانيين وتدريبهم وجعلهم جزءا من الجيش الجديد المزمع إنشاؤه، لكن الظروف الصعبة التي جاء فيها السودانيون إلى مصر وموت أكثرهم جعله يتراجع عن الفكرة لعدم جدواها. وفي نهاية المطاف بدأ الوالي يتطلع إلى الفلاحين المصريين وتجنيدهم إجباريا، ولم يكن عُرفا ولا عادة مُتَّبعة من قبل، فقد كان أغلب المصريين بين زارع وصانع وعالم وإداري مُشارك في شؤون الحُكام والولاة.
وهكذا شرع محمد علي في تجنيد المصريين منذ عام 1820، ولاقى في مواجهة ذلك انتفاضات كبرى في المنوفية وقنا، وهروب الآلاف، واتجاه الآخرين إلى إحداث العاهات المستديمة في أنفسهم حتى لا يتم تجنيدهم. غير أن كل ذلك لم يُثنِ من عزمه، وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر أصبح جيش محمد علي جاهزا، واشترك بقواته في معركة نافرين البحرية ضد اليونان سنة 1827م. وبعد ثلاثة أعوام، وإثر خلافات بينه وبين الباب العالي في إسطنبول، قرر محمد علي احتلال بلاد الشام ثم أجزاء من الأناضول، ولولا تدخُّل القوى الأوروبية ووقوفها مع الدولة العثمانية لربما دخل محمد علي إسطنبول[2].
قدَّمت لنا دراسة خالد فهمي بعنوان "كل رجال الباشا" صورة تفصيلية للجيش المصري في زمن محمد علي، من حيث التجنيد والآليات العسكرية والإدارة المتبعة داخل الوحدات، وأثرها على تشكيل المجتمع والدولة في مصر، كيف وُضع كل شيء في خدمة الجيش الذي كان مُسخَّرا لخدمة الوالي وأسرته. وتلك باختصار شديد السردية التي طالما ترددت عن الأسباب التاريخية التي أدَّت بمحمد علي إلى إنشاء الجيش الحديث من أبناء المصريين أو أبناء العرب كما وصفتهم المصادر العثمانية.
ولكن هل سبقت محاولة محمد علي باشا أيُّ محاولات سابقة لفرض التجنيد في مصر سواء في زمان المماليك أو العثمانيين؟ ذلك سؤال وجدنا إجابته في تاريخ مصر العثمانية في أواخر القرن السادس عشر والربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي، في أحداث سبقت مجيء محمد علي باشا بقرنين كاملين، ومهَّدت لصعود المماليك ثم صعود محمد علي فيما بعد.
محاولة أويس باشا العثماني تجنيد المصريين
لهذا السبب أرسل محمد علي باشا ابنه إسماعيل باشا على رأس قوات عسكرية إلى السودان لجلب السودانيين وتدريبهم وجعلهم جزءا من الجيش الجديد المزمع إنشاؤه، لكن الظروف الصعبة التي جاء فيها السودانيون إلى مصر وموت أكثرهم جعله يتراجع عن الفكرة لعدم جدواها. وفي نهاية المطاف بدأ الوالي يتطلع إلى الفلاحين المصريين وتجنيدهم إجباريا، ولم يكن عُرفا ولا عادة مُتَّبعة من قبل، فقد كان أغلب المصريين بين زارع وصانع وعالم وإداري مُشارك في شؤون الحُكام والولاة.
وهكذا شرع محمد علي في تجنيد المصريين منذ عام 1820، ولاقى في مواجهة ذلك انتفاضات كبرى في المنوفية وقنا، وهروب الآلاف، واتجاه الآخرين إلى إحداث العاهات المستديمة في أنفسهم حتى لا يتم تجنيدهم. غير أن كل ذلك لم يُثنِ من عزمه، وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر أصبح جيش محمد علي جاهزا، واشترك بقواته في معركة نافرين البحرية ضد اليونان سنة 1827م. وبعد ثلاثة أعوام، وإثر خلافات بينه وبين الباب العالي في إسطنبول، قرر محمد علي احتلال بلاد الشام ثم أجزاء من الأناضول، ولولا تدخُّل القوى الأوروبية ووقوفها مع الدولة العثمانية لربما دخل محمد علي إسطنبول[2].
قدَّمت لنا دراسة خالد فهمي بعنوان "كل رجال الباشا" صورة تفصيلية للجيش المصري في زمن محمد علي، من حيث التجنيد والآليات العسكرية والإدارة المتبعة داخل الوحدات، وأثرها على تشكيل المجتمع والدولة في مصر، كيف وُضع كل شيء في خدمة الجيش الذي كان مُسخَّرا لخدمة الوالي وأسرته. وتلك باختصار شديد السردية التي طالما ترددت عن الأسباب التاريخية التي أدَّت بمحمد علي إلى إنشاء الجيش الحديث من أبناء المصريين أو أبناء العرب كما وصفتهم المصادر العثمانية.
ولكن هل سبقت محاولة محمد علي باشا أيُّ محاولات سابقة لفرض التجنيد في مصر سواء في زمان المماليك أو العثمانيين؟ ذلك سؤال وجدنا إجابته في تاريخ مصر العثمانية في أواخر القرن السادس عشر والربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي، في أحداث سبقت مجيء محمد علي باشا بقرنين كاملين، ومهَّدت لصعود المماليك ثم صعود محمد علي فيما بعد.
محاولة أويس باشا العثماني تجنيد المصريين
بعد استقرار العثمانيين في مصر، وخروج السلطان سليم، ثم قراره تعيين خاير بك المملوكي واليا عليها، والعفو عن المماليك الهاربين وتكوينهم فرقة عسكرية جديدة باسم "أوجاق الجراكسة"، صارت الفرقة جزءا من الإدارة العسكرية الجديدة، وخضعت للسيادة العثمانية بقيادة الجنود السباهية، وهم الجنود الفرسان العثمانيون. وقد ظلت الأوضاع مستقرة في مصر حتى نهايات القرن السادس عشر الميلادي حين بدأ الاقتصاد يتدهور بسبب انخفاض مياه النيل، والغش في العُملة، وانخفاض القيمة الشرائية لمرتبات الحامية وأعضاء الجهاز الإداري، الذين بدأوا يمارسون إجراءات تعسفية ضد الأهالي والوالي العثماني.
ساعتها، بدأ تمرد عسكري استمر عدة سنوات عُرف باسم "فتنة السباهية"[3]، وكان نتيجة اضطراب الأوضاع الاقتصادية، وانشغال الدولة العثمانية بصراعات داخلية مع الانكشارية الذين تمردوا بعد وفاة السلطانين سليمان القانوني وسليم الثاني، وصراعات خارجية مع الصفويين والأوروبيين والروس. وقد لجأ الموظفون المدنيون إلى الرشوة لتعويض النقص في مرتباتهم، أما السباهية العثمانيون والمماليك فلجأوا إلى التمرد العسكري[4].
إزاء هذه التطورات الخطيرة في مصر، وانفراط عقد الأمن، والتعدي على الأسواق والفلاحين، واضطراب الأوضاع الاقتصادية، خطرت على بال واليها العثماني يومذاك "أويس باشا" (1586-1591م) فكرة إنشاء فرقة عسكرية جديدة من المصريين والعرب لتوازن هذا الخلل الحاصل أمام تمرد السباهية. وقد قال صاحب "أوضح الإشارات فيمن تولى مصر والقاهرة من الوزراء والباشات": "وأول فتنة حلَّت في مصر من السباهية كانت في زمنه، حيث هجموا عليه وهو في الديوان، ففرَّ ودخل إلى الحريم، ثم نهبوا ما وجدوه، وخرجوا"[5]، ولكنه يُرجع سبب هذه الفتنة إلى ظُلم وتعدي الوالي ومساعديه على حقوق الجنود.
لكن مؤرخ مصر الشهير في ذلك العصر محمد بن أبي الصديق البكري ذكر في العديد من مؤلفاته الأخرى، وعلى رأسها "المنح الرحمانية في الدولة العثمانية"، أن أسباب الفتنة تنوَّعت بين سوء الأوضاع الاقتصادية، وإقدام الوالي العثماني على تجنيد المصريين وأبناء العرب في الأوجاقات العسكرية العثمانية التي كانت حكرا على الأتراك العثمانيين والمماليك الجراكسة. ويقول البكري إن أذى الجنود السباهية "تعدَّى حتى على حوانيت السوقة بمصر، ونُهبت نفائس أسباب الناس وملبوسهم… وصاروا يذهبون طوائف إلى بيوت الأكابر بآلات السلاح إلى أن يأخذوا منهم ما يريدون"[6]، ونحن نفهم من هذا النص بواكير تفكير الإدارة العثمانية باستخدام المصريين في المجال العسكري لمقاومة نفوذ الجنود العثمانيين والمماليك المتصاعد، لا سيما في أوقات الفتن والثورات.
أدرك هؤلاء الجنود الأتراك والجراكسة خطورة انضمام أبناء البلد إلى الفصائل العسكرية الحاكمة والحافظة للأمن، حيث كان ذلك ليؤدي إلى التضييق على نفوذهم العسكري والمالي في البلاد، ويُحدِث نوعا من التوازن بين العناصر الثلاثة: الأتراك والجراكسة والمصريين (العرب). ولهذا السبب أصبح بقاء أويس باشا واليا على مصر من المستحيلات عند المتمردين الذين قرروا أخذ ابنَ الباشا رهينة لحين تحقيق مطالبهم، وعلى رأسها أن يُقدم استقالته للباب العالي، ويغادر مصر على وجه السرعة. وهذا ما حدث بالفعل، حيث "زاد أمرهم وحجرهم على الباشا، وفي كل يوم (زادوا) طغيانا، فلمّا رأى أويس باشا هذا الأمر وحجرهم عليه، أعرضَ أمره على الأعتاب العلية (العثمانية)، فولَّى حضرة مولانا السلطان، أحمد باشا الحافظ"[7]، واليا جديدا على مصر.
والحق أننا إذا رجعنا إلى السيرة الذاتية والتكوين المهني للوالي أويس باشا، فسنراه في الأصل رجلا "متشرِّعا وأصله قاضيا، وتولى دفتر دار (مالية) بالروم (الأناضول)، وأخذ بعد ذلك مصر"، كما ذكر البكري في "الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة"[8]، أي إن الرجل كان مدنيا وقاضيا وخبيرا إداريا وماليا قبل أن يتولى ولاية مصر، ولديه من الخبرة والكفاية ما جعله يهتدي لهذه الفكرة التي لو تحققت لأحدثت تغييرا جذريا في تاريخ مصر في عصرها العثماني المبكر.
محاولات فاشلة وسيادة المماليك
وفيما يبدو، فإن بعض الولاة العثمانيين الذين جاءوا بعد أويس باشا، مثل محمد باشا الكُرجي، الذي استعان بالعرب في تأمينه وحمايته، وكوَّن منهم فرقا عسكرية صغيرة، ولكن هذا أيضا لم يُعجب السباهية الذين حاصروه في القلعة ثم "تتبعوا أولاد العرب، فكُل مَن وجدوه يتزيَّا بزيِّ الأروام (العساكر العثمانية) قتلوه، وأخذوا جميع ما عليه من الملبوس، ثم بعد ذلك سكنت الفتنة قليلا، ولكن نفوسهم على ما هي عليه من التجبر إلى أن عُزل مولانا السيد محمد باشا"[9].
استمر هذا التمرد في عهد الولاة التالين وبلغ ذروته في عهد إبراهيم باشا، الذي خرج في وفاء النيل لفتح جسر أبي المنجَّا (الواقع اليوم في منطقة ميت نما بالقليوبية)، فاعترضه العسكر المتمردون وقطعوا رأسه في سبتمبر/أيلول عام 1604م، وعلقوها على باب زويلة، وهي المرة الأولى التي يُقتل فيها ممثل السلطان العثماني في القاهرة بهذه الصورة. وطوال ثلاث سنوات تالية استمرت الثورات، حتى قررت الدولة العثمانية أن ترسل واليا عُرف بالقوة والعنف، وهو محمد باشا، الذي اشتهر بـ"قول قِران" أي "مُحطِّم العبيد"، ووصفه البكري الصديقي في "المنح الرحمانية" بـ"مُعمِّر مصر". وقد كشفت إستراتيجيته عن ذكاء كبير، لكن نتائجها كانت وخيمة وخطيرة، وكانت سببا من أسباب مجيء الحملة الفرنسية وصعود محمد علي باشا بعد قرنين.
أدرك محمد باشا محطِّم العبيد أن سر قوة هؤلاء العسكر المتمردين يكمن في اتفاق المماليك والعثمانيين من الجنود "السباهية"، ولهذا السبب قرر أن يستميل الجراكسة المماليك إليه، ونجح بالفعل في هذا الأمر، ثم قرر أن ينزل ضربته القاصمة في السباهية الأتراك العثمانيين قتلا وتشريدا في موقعة الخانقاه (الخانكة اليوم) شمال القاهرة في عام 1609م/1017هـ. وبعد انتصار الوزير محمد باشا "دخل إلى مصر في غاية العظمة والأبهة، وصار العسكر ينجرُّ من الصباح إلى أذان الظهر، وكان يوما مشهودا، وفتحا مبينا، وهو في الحقيقة الفتح الثاني لمصر في الدولة الشريفة العثمانية" كما وصف ابن أبي السرور البكري في "المنح الرحمانية"[10].
ولئن وصف ابن أبي السرور البكري مؤرخ هذه الحقبة والشاهد عليها القضاء على قوة السباهية العثمانية بالقتل والتشريد، فقد برز في المقابل دور الفرق العسكرية المملوكية الجركسية الذين استعان بهم محمد باشا، إذ أصبحوا المتحالفين الجدد مع الولاة والباشوات العثمانيين. غير أن هذا التحالف المؤقت سرعان ما انقلب إلى صراع على السلطة والنفوذ، ولم يمر عقدان على هذه الحوادث حتى بات المماليك البكوات سادة مصر وشيوخها، بينما أصبح الولاة والجُند العثمانيون أقلية بجوارهم حتى مجيء الحملة الفرنسية ثم محمد علي.
وهكذا وُئدت فكرة الاعتماد على المصريين والعرب في القوات العسكرية النظامية للعثمانيين في مصر لقرنين كاملين لصالح انتصار المماليك الجراكسة الذين بلغوا ذروة مجدهم مع علي بك الكبير وإبراهيم بك ومراد بك فيما بعد، قبل أن يقضي محمد علي باشا على هذه القوة بالكلية في مذبحة القلعة عام 1811م، ثم يتخذ المصريين جنودا في جيشه بعد ذلك.
المصادر
[1]الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/125.
[2] خالد فهمي: كل رجال الباشا
[3] الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة، مقدمة المحقق ص8، 9.
[4] محمد بن أبي السرور البكري: كشف الكربة برفع الطلبة، ص311.
[5] أحمد شلبي بن عبد الغني: أوضح الإشارات ص122.
[6] ابن أبي السرور البكري: المنح الرحمانية في الدولة العثمانية ص243.
[7] أحمد شلبي: أوضح الإشارات ص122.
[8] الروضة المأنوسة ص101.
[9] البكري: المنح الرحمانية ص262.
[10] البكري: السابق ص305، 306.
[1]الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/125.
[2] خالد فهمي: كل رجال الباشا
[3] الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة، مقدمة المحقق ص8، 9.
[4] محمد بن أبي السرور البكري: كشف الكربة برفع الطلبة، ص311.
[5] أحمد شلبي بن عبد الغني: أوضح الإشارات ص122.
[6] ابن أبي السرور البكري: المنح الرحمانية في الدولة العثمانية ص243.
[7] أحمد شلبي: أوضح الإشارات ص122.
[8] الروضة المأنوسة ص101.
[9] البكري: المنح الرحمانية ص262.
[10] البكري: السابق ص305، 306.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق