الأحد، 26 مايو 2024

الاضطراب المنهجي والخلل السياسي في حركات التغيير الإسلامي.. الإخوان المسلمين نموذجا! (2)

 

استفهامات وإضاءات منهجية في مسارات الحركات الاسلامية

الاضطراب المنهجي والخلل السياسي في حركات التغيير الإسلامي.. الإخوان المسلمين نموذجا! (2)
مضر أبو الهيجاء


ثالثا: العصبية التي أفرزت آفتين سامتين.

إن العصبية فطرية النشوء وتلقائية التكوين، وهي ممدوحة في معناها الطبيعي الذي يدفع كل راع للمسؤولية والمحافظة على رعيته، كما يحفظ المكون الأسري والعائلي من التصدع أمام المخاطر والتحديات، كما يدفع كل منتسب لشركة لرفع أسهمها وتطويرها، وهكذا دواليك في كل مكون وميدان.

لكن العصبية مذمومة في الأعمال الاسلامية الدعوية والسياسية والحركية، حيث تعمي صاحبها عن رؤية الحق، كما تحول دون الواجب الشرعي وتخالف التوجيه القرآني في النظر والتدبر والمراجعة.

وقد أفرزت العصبية في الحركات الاسلامية الإخوانية -كما بعض الحركات السلفية- آفتين خطيرتين سامتين هما:

1/ غياب منهج العلم والعلماء والدين في الجرح والتعديل!

2/نشوء طبقة علماء التنظيم وحلولهم بدل علماء الدين، ليمارسوا دورا أسوأ من دور علماء السلاطين!

ومن نافلة القول إن علم الجرح والتعديل هو علم فريد التكوين في التاريخ البشري، حيث أبدعه المسلمون ليحفظوا الركن الثاني الذي يستند عليه هذا الدين، وهو سنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

لقد وضع علماء الحديث ضوابط ومواصفات ومحددات تضبط وصف كل من ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ميزوا بين الحديث الصحيح والضعيف والحسن في إسناده، حتى وإن صح متنه ومعناه.

لقد انضبطت قواعد الجرح والتعديل بمعاير تحفظ أصل الدين، دون قيمة ولا اعتبار للجوانب الشخصية والمصالح المرعية الدنيوية والمادية، ليكون الجرح والتعديل حفظ حقيقي لنقاء الدين وصفاء الفهم المنقول عن خير الخلق من الصحابة المكرمين.

أما إن نظرنا للجرح والتعديل القائم في الحركات الاسلامية المعاصرة فإننا نلحظ تراجعا مضطردا من زمن الى زمن ومن تجربة الى تجربة ومن حركة الى حركة، حيث يعتمد الجرح والتعديل في ظاهره وعمومه على القيم الاسلامية ومبادئ الجماعة الرسالية، ولكنه في خصوصه وواقع حاله -كما هي معظم التجارب القائمة- فإن الضوابط والمواصفات والمحددات لا ترتبط بتحقيق أهداف الجماعة من تمكين للدين ونشر للدعوة الصحيحة والعقيدة النقية، بل يرتبط الجرح والتعديل برضا ومصالح واعتبارات وولاءات شخصية لقيادة التنظيم، كما ترتبط بأشكال العصبية الجاهلية المتربعة في عقول كثير من قيادات الجماعات بين جهوية مقيتة وعرقية كريهة ومادية وضيعة وكولسات تنظيمية لا تليق بصاحب خلق ولا دين!

وقد ابتليت معظم الحركات الاسلامية وقياداتها المعاصرة -إلا من رحم الله-  بتلك الآفة التي لا تمتلك مسطرة شرعية سليمة، وكما وجدت تلك الآفة في التنظيمات الحزبية الإخوانية، فقد وجدت في بعض الحركات السلفية، واستفحلت حتى أصبحت قانونا في الحركات القاعدية، وبلغت ذروتها في التشكيلات الداعشية، حيث يكفي القول في سياق الجرح والتعديل أن فلانا من اخوة المنهج ليكون محل ثقة حتى لو كان أصله ضابط بعثي سابق أو عميل جهاز استخبارات ايراني أو أمريكي!

كما يكفي أن تقول إن فلانا كان في سجون مصر أو في سجن صيدنايا الدمشقي الشهير، ليكتسب الأخ درجة علية وعدالة تلقائية وثقة كاملة برجاحة عقله وفهمه وخياراته وإدارته السياسية، ليكون قائدا مبرزا في تنظيم الأحرار، أو أن يخرج من سجنه ليصبح القائد الأعلى لغزة ومن يحدد مستقبلها وخيارات المرحلة، دون توقف أمام جوانب علمية أقلها أنه قضى ربع قرن في سجون الظالمين وغابت عنه مئات المعطيات التي يجب أن تكون حاضرة في وعي وعقل قائد المرحلة!

إن اصطياد الخصوم وتوجيههم وايقاعهم بالقيادات الاسلامية التي اعتلت مناصب رفيعة وامتلكت سلطات ونفوذ حقيقي في تقرير الموقف والتوجه والبوصلة، لم يأت كنتيجة لقوتهم ودهائهم، فهم ليسوا أربابا بل ينقصهم الكثير، ولكنه جاء نتيجة لاختيار قيادات قاصرة لم تخضع لميزان سليم في الجرح والتعديل والتقييم!

أما عن الآفة الثانية من الآفات التي أفرزتها العصبية التنظيمية فهي تشكل بروز طبقة علماء ودعاة التنظيم، وهم وإن ملكوا علما في بعض العلوم إلا أنهم لا يدورون حول الحكم الشرعي الذي يهتدي بالقرآن الكريم وسنة النبي الأمين وأفهام الصحابة المعدلين بنص القرآن الكريم، ولكنهم يبذلون جام جهدهم ليصوغوا مضامين ظاهرها شرعي وباطنها خال من الهدى والدين، بل هو تشكيل رؤية تشكل غطاء لقرار قيادة التنظيم، ولا مانع بأن تجمع بين الشيء ونقيضه، بل يمكن أن تتناقض مع نفسها من وقت لآخر ومن ساحة لأخرى في جوانب واجتهادات شرعية لا تقبل التناقض، وكل ذلك لتوفير غطاء شرعي لخيارات لتنظيم السياسية في كل مرحلة،  وهم كمن يبحث عن معاني ومظان المقاصد ليقفز ويتجاوز عن أحكام ومنصوص الدين!

إن ما تعانيه شعوب الأمة من حكام السلاطين في ترويجهم للظالمين، يعانيه رواد الحركات الاسلامية والمصلحين من علماء التنظيم الذين يقطعون عليهم الطريق بسيف الدين لصالح توجه قيادة التنظيم!

وبكلمة يمكن القول إن العصبية التنظيمية المقيتة كانت سببا في اهدار قيمة ودور المصلحين، وسببا في نفوذ وصلاحيات القاصرين في الاختيار والتقرير!

رابعا: إشكالية عقيدة الشيخ والمريد!

لقد بنى الشيخ المؤسس الشهيد حسن البنا رحمه الله -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- أتباعه في ثلاث جوانب رئيسية أبدع فيها، وهي الجانب العقلي والجانب القلبي والجانب البدني -وعلى سبيل الذكر لا الحصر- فقد أشار لضرورة وجود مكتبة خاصة لكل فرد منتم للاخوان بحيث تكون متنوعة العلوم، كما أشار لضرورة التزام الفرد والأسرة بورد قرآني وأذكار الصباح والمساء الى جانب القيام والصيام على مدار الأسبوع والشهر، وذلك بشكل فردي وأشكال جماعية، ووجه إلى ممارسة الرياضية البدنية وحرم التدخين.

والحق يقال إن الشيخ المؤسس قد أبدع وأصاب في الجوانب الثلاثة بغض النظر عن الحجم والتنوع اللازم في كل جانب، إلا أن ما أبدعه وأصاب به الشيخ البنا لم يأخذ صورته الكاملة ولا الصحيحة لدى حزب التحرير الاسلامي، والذي وقع في قصور منهجي في جانب التربية القلبية، وأخل في جانب الإعداد البدني، وأفرط في الجانب الفكري الفلسفي -وليس العقلي والعلمي-.

لكن التربية الصوفية التي اكتسى بها الطابع الاخواني لم تتوقف عند حدود التربية القلبية وأعمال القلوب، بل تجاوزتها ليصطبغ بها العقل الاسلامي الحركي بحيث نتج عنها إشكالية عقلية الشيخ والمريد!

إن الإشكالية فيما أصطلح عليه بعقيدة الشيخ والمريد لا تكمن في جانبها الأخلاقي الذي يميز طلبة العلم والمريدين بالأدب والطاعة للشيخ والقائد والمعلم، ولكنها تكمن في السلوك الاعتقادي بين الشيخ وقائد التنظيم من جهة وبين الأتباع من جهة أخرى، وقد انبنى على هذا السلوك الاعتقادي في عموم الحركات الاسلامية وخصوص الحركات الإخوانية خصائص سلبية ميزت الحركات الاسلامية دون غيرها من حركات التغيير سواء العربية أو حتى الغربية، وهي :

1/التبعية المطلقة والطاعة العمياء، والتي سمحت للقائد الشيخ أن يجتهد مخطئا في بعض الأحيان فيسوق الأتباع كالأغنام فيهلك ويهلكم جميعا دون شعور بالمسؤولية ولا عتاب ولا مراجعة، تحت عنوان الطاعة الواجبة!

2/القصور العقلي المديد، وغياب الابداع العلمي الرهيب، حيث يظل الشيخ والشيخ وحده هو المبدع للنظريات والأفكار مهما طال الزمان، ويظل الأتباع والمريدين قاصري العقول ينتظرون رأي القائد الشيخ في الملمات، وتغيب عقولهم وينتفي ابداعهم وتموت خلاياهم الدماغية في النظر والتفكير والمراجعة والتجديد بانتظار ما يفتح الله به على الشيخ، وأما إن كانت رؤيا الشيخ في المنام فتلك بشرى بالنصر القريب تستوجب الزهد بالموجود وتجاوز حقائق الواقع وإنكار عقول المخالفين!

3/محاكم التفتيش التي أباحت للشيخ والقائد محاكمة المخالفين الذين يخالفونه في الرأي ويجتهدون بما يبدع ويكمل قصوره في أحد الجوانب، بحيث يبدأ الشيخ القائد بإدارة محاكم التفتيش ابتداء بتشويه الفرد المعارض أو المجتهد ليتحول نتيجة التشويه الممنهج الى خصم للقطيع الذي تربى على عقيدة الشيخ والمريد، ثم يبدأ المدير القائد الشيخ بالانتقال من التشويه الى الحصار الاجتماعي الذي يوحش ويجفف حياة الخصم، ثم ينتقل الى تجويعه وجميع أهل بيته ليكسر إرادته في التفكير والاجتهاد والإبداع خارج حدود عقل القائد الشيخ، ثم تبدأ محاكمة بعض العصاة الذين خالفوا أمر شيخ واتصلوا وتواصلوا مع الخصوم إخوة الأمس، حتى يصبح من علامات ولاء الأتباع نقل التقارير التي تغذي شهوة القائد الشيخ، وينام البعض باكيا لأنه يتقرب الى الله بطاعة الشيخ، دون أي مساحة تفكير ولا اعمال نظر ولا عقل، ولا شعور بتأنيب الضمير لأنه قد أسقط قيمة الأخوة وأهدر مكانة علية كانت تحيط بهذا الخصم بالأمس القريب!

إن محاكم التفتيش المتوحشة التي اعترت تجارب الحركات الاسلامية المعاصرة، قد وصلت عند بعض القيادات في تجارب مشهودة الى اهدار دم أخ كان يؤم ويعلم الناس بالأمس، أو تسليمه بمكر وخبث لأحد أجهزة الاستخبارات العربية أو الغربية لتنال منه بلا رحمة ولا شفقة فتنهي كابوسا أو ندا في عقل القائد الشيخ!

4/المركزية المفرطة للقائد وللشيخ، وهي آفة تنظيمية تنشأ تلقائيا في كل الأجسام الحزبية بغض النظر عن دينها وعرقها وأيدلوجيتها، ولكن التصور المغلوط الذي شكل سلوكا عقديا بين الشيخ والمريد سمح لتلك الآفة أن تبني جذورها للحد الذي يحول دون التخلص من آثارها الكارثية في التفكير والتقرير والإدارة، وذلك رغم كثرة شواهد السيرة النبوية -الغائبة في سلوك الأحزاب- في سلوك النبي الأمين مع صحابته الكرام، حتى أن القرآن جاء مؤيدا لما ذهب اليه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب في عدة وقائع بوجود نبي معصوم مؤيد من الله، فكيف يغيب هذا الهدى القرآني الرباني في عالم الحركات الاسلامية التي تقتدي به؟

وبكلمة يمكن القول إن إشكالية عقيدة الشيخ والمريد تكمن في تقزيم الفرد وعقم الإبداع وتأليه القائد والشيخ!

خامسا: خلط القيادات بين مكانة ودور النبي، وخلط القواعد بين تفرد خصائص النبي وجواز وراثته صلى الله عليه وسلم.

من الناحية النظرية لا يتحدث أحد من أهل السنة والقبلة بشكل يخلط بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم وبقية الخلق بمن فيهم خيار الصحابة الكرام المعدلين بنص القرآن الكريم وحديث النبي الصحيح، ولم يخالف في هذا إلى حد المقولات الكفرية الا الطائفة الشيعية ومن شابهها في معتقداتها.

لكن مكون الحركات الاسلامية المعاصرة فيه اضطراب ملحوظ بين المقال وواقع الحال، حيث تستلهم بعض القيادات خصائص الأنبياء دون تصريح ولا إقرار ولا مقال ولكنه واقع مشهود في الحال!

إن مكانة ومنزلة النبي لا يمكن أن ينالها أحد من الخلق حتى وإن قام بدور النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدين والصدع بالحق وإعلاء كلمة الله وتعبيد الناس لله في الأرض.

وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء في تبيين الحق ومواجهة وتعرية الباطل، فإن هذا الدور لا يكسب صاحبه خصائص النبي الذي يوحى إليه، والذي عصمه ربه عن الخطأ في تبليغ الدين، فإن أخطأ لسبب بشري فإن الوحي يقومه، وهو صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كانت تلك الخصائص لا تجوز في حق العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فكيف يمنحها كثير من أتباع الجماعات لقياداتهم الدعوية والحركية والسياسية، حتى وإن كان هذا السلوك في وواقع الحال وليس في المقال؟

إن إزالة القدسية عن القيادات الاسلامية من خلال نفي خصائص الأنبياء لا ينقص من قدرهم ولا ينفي تضحياتهم ولا يلزم مطلقا نفي اضطلاعهم بدور الأنبياء ووراثته، بل يفيد تفعيل الجسد والعقل والقلب الاسلامي ليقوم أي ضعف أو اعوجاج، وليجعل قيمة الحق والهدى فوق قيمة العلماء والمشايخ والقيادات، كما فهمه وتعامل معه أبوبكر وعمر رضي الله عنهما في واقعة قتال المرتدين وغيرها.

وإذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فإن القيادات والمشايخ وحتى العلماء قد ينطقون عن الهوى وقد يكون لنفوسهم حظ فيما يقولونه من الحق والصواب، الأمر الذي يقتضي واجب النصح لهم وتذكيرهم بالله واليوم الآخر، لاسيما أن النصيحة لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم.

كما أن الأنبياء معصومون من الخطأ، خلافا لكل بني البشر فلا عصمة لأحد منهم مهما بلغ من العلم والعمل، الأمر الذي يقتضي واجب التناول المقيد عن القيادات بقدر موافقتهم للحق والهدى.

علاوة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إن أخطأ في شأن الدين فإن الوحي يقومه، فمن الذي سيقوم العلماء والقيادات الاسلامية إن هي اخطأت في اجتهاداتها الدينية غير من لا يفارقون كتاب الله وسنة نبيه وتحري الفهم الدقيق عن الصحابة الكرام.

وبكلمة يمكن القول إن حركاتنا الاسلامية المعاصرة تعاني على مستوى قياداتها كما قواعدها مما تمارسه كثير من القيادات التنظيمية والسياسية على وجه الخصوص من استلهامها لقيمة ومكانة الأنبياء، وفي نفس الوقت عزوفها وابتعادها عن وراثة الأنبياء في تبيين الحق والحقائق للناس، وفي التمييز بين الحق والباطل دون خوف أو رعاية مصالح نفعية، فيما تفقد قواعد الحركات والتنظيمات الفاعلية في النصح والتصويب تجاه من تعتبرهم أنصاف أنبياء!

إن هذا التصور والسلوك المخل في الخلط بين منزلة النبي ودوره، غيب آلية المعروف والنهي عن المنكر داخل الحركات، وعلى وجه الخصوص بين القواعد وتجاه القيادات، وحافظ على عقم المراجعة والتصويب، حتى صاغت وبلورة كثير من القيادات دورها في الارسال دون الاستقبال، غافلين عن عتاب الله لخير الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم في قوله عبس وتولى، والذي يرسم منهجا ربانيا وتصورا قرآنيا يجعل الحق متقدم على الأفراد والقيادات حتى وإن كان نصفهم مجاهدين والنصف الآخر معتقلين وشهداء.

الاضطراب المنهجي والخلل السياسي في حركات التغيير الإسلامي.. الإخوان المسلمين نموذجا! (1)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق