الشهادة .. ما أعظمها من سلاح
عبد الآخر حماد
من أمضى الأسلحة التي يمتلكها أهل الإيمان في مواجهتهم لعدوهم سلاحٌ قديم يرجع تاريخه إلى تاريخ بدء الصراع بين الحق والباطل .لكنه سلاح لا يزال -مع قِدمه -يطاول أعتى ما اخترعته قوى الشر من وسائل الفتك وأدوات التدمير.إنه السلاح الذي لا يمكن لتقنيتهم أن تخترع له مضاداً،ولا يمكن لوسائلهم الشيطانية أن تبطل أثره ومفعوله .. ألا وهو سلاح الشهادة في سبيل الله .
وقد دلت النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم على جواز تغرير المسلم بنفسه طلباً للشهادة ، إذا كان يطمع في إحداثِ نكايةٍ في عدو ،أو تحقيقِ مصلحة للمسلمين .
قال الإمام القرطبي في تفسيره : ( قال محمد بن الحسن : لو حمل رجلٌ واحدٌ على ألف رجل من المشركين وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين .فإن كان قصده تجرئةَ المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأنَّ فيه منفعةً للمسلمين على بعض الوجوه .وإن كان قصده إرهابَ العدو ليعلمَ صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه .وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لإعزاز دين الله ،وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: "إِنَّ اللهَ اْشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ " إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه ...).[ الجامع لأحكام القرآن (2/364) ].
وقِصار النظر هم الذين لا يرون في ذلك إلا نوعاً من الإلقاء باليد إلى التهلكة . أما أهل العلم والفقه فيعلمون أن إهلاكَ النفس في سبيل الله هو السبيل إلى إحيائها الحياة الحقيقية ،كما قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ).[ آل عمران : 169] .
ولقد أحسن القائل :
تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ ** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدما
ولذا فإن الله عز وجل لما سمى نبيه "يحيى "بهذا الاسم ،الدال على طول الحياة ،أراد أن يهبَه من الحياة ما يتوافق به الاسم مع المسمى ،فاختار له مع النبوةِ الشهادةَ ،ليرزقه الحياة الكاملة. فتأمل هذا المعنى وقارنه بحال من سمى ولداً له يحيى،رجاء أن يحيا وتطول به حياة ،لكنْ لما لم يكن يملك أن يحقق له الحياة فعلاً فقد مات الوليد،وأنشأ الأب المكلوم يقول:
وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ** إلى رد أمرِ الله فيه سبيلُ
ولما علم السلف الكرام عظم مكانة الشهيد في الإسلام تسابقوا لنيل الشهادة ،حتى وإن كانوا ممن عذر الله . فهذا عمرو بن الجموح وقد كان رضي الله عنه رجلاً أعرجَ شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأُسد ،يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا إن الله قد عذرك .فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك ، وقال لبنيه : ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد ).[ أخرجه ابن إسحاق عن أشياخ من بني سلمة كما في سيرة ابن هشام (3/96) . قال الألباني في تخريج فقه السيرة : وهذا سند حسن إن كان الأشياخ من الصحابة وإلا فهو مرسل وبعضه في المسند ... وسنده صحيح ).
وفي حديث أبي قتادة في مسند أحمد ( 5/ 229) بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على عمرو بن الجموح بعد استشهاده فقال : ( كأني انظر إليه يمشي برجله هذه صحيحةً في الجنة.. ) .
والله عز وجل قد عذر غيرَ القادرين على الجه..اد ،ولكنه اشترط لذلك أن يكونوا من الناصحين لله ورسوله ،لا المثبطين اللائمين للمجا/ هدين ؛فقال تعالى: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله).[ التوبة :91 ].
قال الحافظ ابن كثير : ( فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ،ولم يُرجفوا بالناس ،ولم يُثبطوهم .وهم محسنون في حالهم ،ولهذا قال : "ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم" ...).[ تفسير القرآن العظيم : ( 2/382 ) .
وتالله لو لم يكن للشهادة من فائدة إلا نيل رضا الله والجنة لكان ذاك سبباً كافياً للحرص عليها والعمل على نيلها .ومع ذلك فإن حوادث التاريخ والواقع يدلان على أن للتضحية بالنفس أكبر الأثر في الحط من عزيمة الأعداء وإشعارهم بالهزيمة النفسية .وبالأمس القريب ،رأينا أمريكا بكل قوتها وجبروتها تفر هاربةً من أفغانستان ،بسبب صمود المجا..هدين وحرصهم على الموت في سبيل الله . وفي عقد الثمانينيات رأينا قوات المارينز الأمر/يكية تولي هاربةً من لبنان ،على إثر بعض العمليات الاستشها..دية ،وسمع العالم كله الرئيس ريجان وهو يصرخ:
You can not prevent somebody))
from killing himself )).
( إنك لن تستطيع أن تمنع شخصاً ما من أن يقتل نفسه ).
فيا أيها القاعدون : لا بأس أن تبقوا على قعودكم ،ولكن أفسحوا الطريق لطلاب الشهادة الساعين في مرضاة رب العالمين ،فإن لم تكونوا لهم مُعينين فلا أقل من أن لا تكونوا من المُثبطين المُخذِّلين . هدانا الله وإياكم صراطه المستقيم .
عبد الآخر حماد
6/ 4/ 1445هـ-211/ 10/ 2023م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق