الاضطراب المنهجي والخلل السياسي في حركات التغيير الإسلامي.. الإخوان المسلمين نموذجا! (3)
سادسا: إشكالية السياسة في جانبي التصور والممارسة بين الافراط والاعوجاج والتفريط.
من نافلة القول إن من أعظم الجوانب تأثيرا في حياة الناس وأكثرها قوة في صبغ واقع العباد هو الجانب السياسي، والذي يعتبر ركنا مهما من أركان مشروع التغيير والتحرير الاسلامي، وهو الجانب والركن الذي يستهدف تجسيد رسالة السماء في كل منحى وكل شأن من شؤون الحياة حتى تصطبغ برسالة التوحيد، ويصبح العبيد عباد لله فتتحقق علة الخلق ويتجسد قوله سبحانه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
وقد أصاب الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله حين خاض وجماعته في الشأن السياسي بهدف تحرير البلاد من المحتلين والدعوة لإصلاح القوانين وفق شريعة النبي الأمين واسترداد دولة الخلافة، كما تميز وأبدع الشهيد سيد قطب في مواجهة الظلمة المستبدين وفي تقعيد وبلورة منهج المفاصلة مع أساطين الكفر وأعداء الدين.
والحق أن ما تميز به تكوين الامام البنا لجماعة الاخوان المسلمين في الانتباه والاهتمام والانشغال بالشأن السياسي يعتبر قفزة نوعية واعية آنذاك، لاسيما أن تكوينه للجماعة أعقب سقوط دولة الخلافة بأربع سنوات.
وبقدر ما انتبه الامام البنا لأهمية الجانب السياسي في تأسيسه المشروع الاسلامي، بقدر ما غفل التيار السلفي وعموم رموزه -بسبب ضعف أو توجيه- عن التكوين والاشتغال بالعمل السياسي المفضي لتمكين وحراسة الدين، وذلك قبل أن يبدأ التيار السلفي بالانقسام على مراحل متعاقبة بين السلفية العلمية والجهادية والجامية والمدخلية وحتى العبثية المشوهة، للدرجة التي أصبح فيها من الواجب على السلفيين الواعين الصادقين والأحرار إعادة تعريف السلفي والسلفية في هذا الوقت وبعد كل هذا الانقسام والتشظي، لاسيما وقد باتت كثير من الدول وأجهزتها تتربع في أحشاء وعقول بعض السلفيين وحركاتهم.
وانطلاقا من مجهر الفحص لشكل التصور والادارة والمواقف السياسية لدى الحركات الاسلامية عموما وخصوص الحركات الإخوانية -باعتبارها الأكثر حيوية وفاعلية في رسم مسارات التغيير في التجربة الاسلامية-، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه على حركة الإخوان المسلمين هو، هل بقيت الحركات الإخوانية ملتزمة بالتصور والمنهج الاسلامي في الشأن السياسي؟ وهل بقيت وفية للمنهج القطبي في التعامل مع قوى الكفر ومشاريع الباطل؟
الجواب الواضح والكبير أن العديد من حركات الإخوان المسلمين لم تعد وفية للمنهج القطبي بل تبرأت منه في واقع حالها وعند البعض في مقالها، كما أن بعضها فارقت وخالفت المنهج والتصور الاسلامي في التجارب والمواقف السياسية الى درجة الطلاق معه عند البعض، والذي ظل يحتمي بالإطار الاسلامي متحصنا بمسمى الاخوان المسلمين حتى لو تناقض مع الاسلام في سياساته وتجاوز معنى ودلالة الأخوة الاسلامية في مواقفه!
إن حجم الضياع والتيه والمقامرة والمغامرة والاجتهادات السياسية الشاذة التي ميزت بعض تجارب حركات الإخوان المسلمين في معظم الساحات العربية والاسلامية في تجارب العقود الأخيرة تشير لحقائق عديدة تلبست بتجاربها وهي :
1/ غياب التصور الاسلامي المنضبط بالفهم القرآني الرسالي والرسولي، واعتبار أي وصول للحركة لمواقع سياسية متقدمة بحد ذاته هو نصر رباني ونجاح اسلامي، دون التوقف والنظر أمام آثار الخطوة والمواقف السياسية ومردودها على واقع الأمة والدين!
2/ حالة الشبق والتشهي والشره السياسي الذي أصاب الكثير من قيادات الإخوان حتى بات الفرع عندهم هو الأصل، الأمر الذي أضعف الفرد والجماعة من خلال تجاوز الصلاح الفردي وتراجع الاصلاح الاجتماعي لصالح الأعمال السياسية الجافة والمليئة بالآفات، والتي تحتاج لوحدها موادا ووسائل لتنقيتها وردها للصراط.
3/ الانفصال الحقيقي بين حركات الإخوان المسلمين في مشاريعها السياسية انطلاقا من تبنيها للمفهوم القطري واعتباره ركيزة في أعمالها، الأمر الذي أضعفها وسهل استخدامها وتجييرها للقوى العالمية التي تملك رؤية شاملة تتجاوز قطرية الأحداث لصالح أهداف أكبر ورؤى أوسع، لتستفيد حتى من الصواب لدى الحركات نتيجة قصور رؤيتها ومحدودية حساباتها!
4/ استساغة وتسويغ منهج التغيير من خلال الأطر والمؤسسات الدولية واعتبارها الأرضية والغطاء لحركة التغيير، الأمر الذي قاد الكثير من القيادات لاستبدال قيمة الشعوب ووجوب العمل معها وتجاهها بقيمة المؤسسات الدولية والسعي لتحصيل رضاها واقناعها والتلون بلونها!
5/ الدخول على الظلمة واستمراء ذلك وسقوط القيم وغياب نماذج القدوة الرسالية والأخلاقية والسياسية، للدرجة التي أفضت إلى بناء علاقات وتحالفات حميمية بين بعض القيادات – السلفية كما الأخوانية- مع الطواغيت الظلمة المستبدين ومشاريع الباطل والمحتلين، فازدادت الحركات وقياداتها قوة ورفعة ومنعة وأهدرت قيمة الدين!
وبكلمة يمكن القول أن أشكال الخلل الكثيرة والمريعة في تصورات وممارسات عديد حركات الإخوان شهدت حالة مد للحركات انعكس لحالة جزر في واقع الأمة وشعوب المنطقة ومستقبل هذا الدين!
إن آثار التصوف السلبي ضربت وحطت أذرعها على العقل السياسي الاسلامي لدى الحركات الاسلامية وفي عموم قواعدها.
وقد اختلط الأمر عند السواد الأعظم من أتباع الجماعات الاسلامية حتى غابت القدرة على التمييز بين العاطفة التلقائية نحو قيادات العمل الاسلامي، والولاء البدهي للجماعات، وبين قيمة الحق ونقاء المنهج وصوابية المواقف والخطوات وفق المسطرة الشرعية المبنية على القرآن والسنة وفهم الصحابة الكرام ومن سار على دربهم واجتهد وفق أصولهم.
أقول لقد اختلط الجانب العاطفي وعصبية القطيع -لدى عموم القواعد التي تربت على ذلك في الحركات الاسلامية وخصوص الإخوانية-، مع الولاء الواعي والحريص على دماء ومستقبل الأمة وأحكام دين الله، وغاب في خطاب دعاة التنظيم قولة أبي بكر رضي الله عنه عندما أبدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتجاجه على صلح الحديبية ورأى فيه دنية تعطى لأهل الشرك فأجابه أبوبكر الصديق بعبارة تلخص معنى الانقياد للحق ودلالة التوحيد الصافي بقوله: الزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله، ولن يضيعه الله.
وقد روي عن عمر بن الخطاب قوله: ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
وقد علق ابن الحجر تعليقا وتفسيرا للأعمال الصالحة لابن الخطاب عمر رضي الله عنه، طلبا منه للتكفير عن توقفه في الامتثال ابتداء لما أشار إليه وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه السياسي وإدارته لصلح الحديبية مع المشركين والذي بشره الله فيه بالفتح المبين، وما أعظم خلق وتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله بالوحي وهو يناقش عمر بن الخطاب في أمر قرره عن وحي، دون أن يطعن فيه أو يستبعده أو يشكك فيه أو يجفف حياته ويجوع أطفاله او يسلمه للأعداء كما هي ممارسة بعض القيادات في الجماعات والحركات الاسلامية المعاصرة.
إن امتناع شيوع النقد في عموم الحركات الاسلامية -وليست الإخوانية فحسب- يشكل حالة مرض عضال تفاقم نتيجة منهجي تربوي قاصر ونتيجة رؤية وإرادة قيادية معوجة، فرخت أجيالا من الأتباع لا تعرف من الأخطاء إلا خطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال أخطأ عمر وأصابت امرأة، وكأنه آخر خطأ في التاريخ الاسلامي، كما لا تعرف من العتاب إلا عتاب الله سبحانه وتعالى لسيد المرسلين وإمام النبيين في قوله سبحانه ( عبس وتولى )، وأخيرا لا تعرف أخطاء ومخالفات تستحق النظر والتدبر إلا تقريع وتصويب الله سبحانه وتعالى لصحابة رسول الله الكرام في أحد وحنين وكثير من الغزوات التي غزوها والمعارك التي خاضوها وبين ظهرانيهم سيد الخلق المعصوم صلى الله عليه وسلم!
وإذا أردنا أن نقوم بمسح سريع للنظر في واقع التجارب الاسلامية المعاصرة، فإن كل تجربة سياسية تحمل طامة أو طامات تكفي لوحدها بأن تزهق النصر وتجلب غضب رب العالمين!
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يمكن النظر لنموذج الاخوان المسلمين في العراق والذي قبل فكرة المشاركة السياسية في وجود المحتل الأمريكي وتعامل معه لأجل ذلك، مخالفا وضاربا بعرض الحائط نصح العلماء الموقرين، ومنهم شيخهم عبد الكريم زيدان والشيخ القرضاوي وغيرهم رحمهم الله أجمعين.
وعلى نهجهم الخاطئ ومسارهم المعوج سارت واقتدت حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، فقبلت المشاركة بالعملية السياسية في ظل المحتل الإسرائيلي وشاركت بالانتخابات التشريعية على أرضية اتفاق أوسلو الذي أنكرته في المقال وتلقفته في واقع الحال، الأمر الذي قادها لطلب الدعم المالي والاسناد السياسي لتستكمل المشوار الأعوج، فاختارت التحالف مع أشد المشاريع كفرا وقتلا للمسلمين في المنطقة، ولم تقم وزنا لا لأحكام الدين ولا لدماء المسلمين ولا اعتبارا سياسيا أو أخلاقيا باعتبار حلفها مع الملالي الايرانيين هو حلف مع محتل لأربع عواصم عربية تحيط بفلسطين!
ومع هذا التهاوي الفكري الشرعي السياسي والأخلاقي، وبالنظر لمنطلق العمل القطري وغياب مفهوم الأمة بشكله العملي والسياسي لدى كثير من حركات وفروع الإخوان المسلمين، وفي سياق الشبق والشره السياسي، والتصور المغلوط للسياسة والذي حولها من وسيلة وفرع الى هدف وأصل، يمكن النظر لفرعها السياسي في المغرب حين وقع رئيس حزب العدالة والتنمية د. سعد الدين عثماني وثيقة التطبيع بيده مع الصهاينة المحتلين، اقتداء بتطبيع حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين مع العدو المحتل الايراني وذيله القابع في دمشق القاتل والمستبيح لأعراض الآمنين!
وهكذا دواليك من جغرافيا الى جغرافيا ومن حركة إسلامية لأخرى حتى تصل للتجرية السودانية والتونسية فتصيبك نوبة قلبية أو جلطة دماغية من احتراف الأخطاء والكبائر السياسية لدى الحركات الاسلامية وخصوص الإخوانية، الأمر الذي يستدعي توقف ومراجعة حقيقية للتصور والسلوك السياسي في تجارب القرن الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق