غزة والسودان: شرعية النضال في وجه القوى الاستعمارية
لا يمكن لأحد أن يتجاهل كون الإبادة الجماعية التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي بوحشية وغطرسة في غزة، هي القضية الأكثر زخمًا وأهمية في العالم منذ ثمانية أشهر.
فالمأساة التي يعيشها أهل غزة تلقي بظلالها على الأحداث في مختلف أنحاء العالم. ومن الضروري التذكير الدائم بإنسانية هذه القضية وعدم السماح لأي محاولات إهمالها وإخراجها من الحسابات العالمية والمحلية؛ فاستمرار الانشغال بغزة وأهلها ورفع الأصوات والمناداة بحقها يزيل الضبابية التي يحاول الظالم نشرها حولها، ويزيد من التذكير بكل المظالم ومظاهر الاضطهاد والتقسيم التي تعيشها الشعوب في شتى بقاع الأرض شرقًا وغربًا، مثل تركستان الشرقية وميانمار والهند وكشمير والسودان الدولة الأكثر سخونة وقربًا من غزة.
ماذا يحدث في السودان؟!
إن برنامج التوسع الإسرائيلي في المنطقة، الذي بدأ قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بفترة طويلة، كان يركز بشكل خاص على السودان. فالقوى المعارضة لعمر البشير التي خططت لإعادة تقسيم السودان ما زالت متمركزة في تل أبيب بمكاتبها وأنشطتها منذ سنوات عديدة. ومن الغريب أن يبدأ مجلس حكم السودان الحالي في ظل الفوضى التي حدثت مباشرة بعد البشير- في التطبيع مع إسرائيل.
ومن المعلوم أن الكيان الإسرائيلي ماهر للغاية في جني أكبر قدر من الأرباح عن طريق نشر الفوضى في العالم الإسلامي. أما الشيوعيون داخل جبهة التغيير في السودان، والذين أطاحوا بعمر البشير متعللين بالأزمة الاقتصادية وانعدام الحياة الديمقراطية، فقد تمكنوا بطريقة من الطرق الملتوية من الحصول على أكبر مساحة لأفكارهم وأهدافهم في الجبهة، رغم عدم وجود ظهير جماهيري لهم من الشعب السوداني.
وبمجرد وصولهم إلى السلطة برئاسة عبد الله حمدوك، وبدلًا من تحسين الوضع الاقتصادي، بدؤوا في محاربة الإسلام بسياسات علمانية متشددة، ثم فروا خارج البلاد مع أولى الخطوات الحقيقية للديمقراطية وحصول الشعب على حريته، ومن ثَمَّ انهارت جبهة التغيير التي دعمتها أمريكا وبريطانيا وبعض دول المنطقة.
ونتيجة لذلك يمكننا القول بأن الكيان الذي أرادت إسرائيل وداعموها صناعته في السودان قد باء بالفشل الذريع. فقد وصل الشعب السوداني والنخبة السياسية الحالية في السودان إلى الإيمان بأن الأفضل للسودان هو اغتنام المزيد من الفرص والاستفادة منها للتصدي باستقلالية حقيقية لألاعيب ومؤامرات القوى الخارجية وأيديها في السودان. وظهرت نتائج ذلك الإيمان في يناير/كانون الثاني الماضي، حينما رفض مندوب السودان لدى الأمم المتحدة وحذَّر من دعم حميدتي بالسلاح والمال، فقد كان حميدتي سبب عدم الاستقرار في السودان في الفترة الأخيرة.
ومع ذلك، بمجرد أن أدركت هذه القوى ذلك، بدأت في تنفيذ خطة تهدف إلى فرض حصار آخر على السودان وزعزعة استقرار البلاد التي لا يستطيعون حكمها والسيطرة عليها.
وذلك من خلال توظيف “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، ودعمه للتمرد الذي قام به في مثل هذا الوقت من العام الماضي، والاستيلاء على عدة مناطق مثل دارفور والعاصمة الخرطوم وجنوب السودان وأم درمان، وذلك كله بمساعدة قبائل الجنجويد التي قامت مع قوات حميدتي باقتحام هذه المناطق وتدميرها ونهبها.
حميدتي وجولة أردوغان
والحقيقة أن حميدتي نفسه ليست لديه القدرة أو النية لحكم البلاد وتوفير الأمن وفرص حياة كريمة للشعب؛ فالشيء الوحيد الذي لا يتوقف عن وعد قواته به هو ما سيحصلون عليه من الغنائم من المناطق التي يستولون عليها. وبالتالي فإنه قد يتمكن من السيطرة على قواته حتى انتهاء عمليات النهب التي شعرت القوات بأنها انتهت بالفعل، ولهذا بدؤوا يعودون أدراجهم من حيث أتوا بعد ما قاموا به من مذابح وتدمير واغتصاب.
ولهذا فإن أكبر خطأ يقع فيه المتابع لأحداث السودان هو افتراضه وجود طرفين متعارضين متوازيين يتقاتلان، رغم أن الشعب قد تضامن واختار من يحكمه ويسعى لرفاهيته، ورفض رفضًا قاطعًا من يتمرد على إرادة الشعب باستخدام القوة الغاشمة والمرتزقة، ويسعى لتنفيذ أجندات خارجية تضر بمصالح البلاد ومواردها ومواطنيها.
وهو نفس الطرف الذي كان مسؤولا عن الجرائم ضد الإنسانية المنسوبة للنظام السابق والذي كان على رأسه عمر البشير. والآن صار واضحًا من لا يألو جهدًا في التدمير والنهب والقتل لكل ما يقف في طريقهم.
والواقع أن جولة أردوغان في إفريقيا عام 2017 قد أحدثت ضجة كبيرة في القارة السوداء والعالم كله، ولن نكون مبالغين إذا قلنا بأن كل الأحداث التي بدأت في السودان ابتداءً من 2018 وغيرها من دول المنطقة- كانت مرتبطة بتلك الجولة؛ حيث إن الجهات الفاعلة في تلك الأحداث وعلى رأسها إسرائيل قد اعتبرت خطوة تركيا وتجديدها للعلاقات في إفريقيا شرقًا وغربًا يمثل تهديدًا لها وللعمق الذي عملت لسنوات على صناعته، ولهذا سرعان ما أخذت تلك الجهات خطوات على عدة مستويات لزعزعة استقرار المنطقة بأسرها وخاصة السودان باعتبارها أقوى حليف لتركيا في إفريقيا.
لكن على هؤلاء المرتزقة في الداخل والخارج أن يدركوا طبيعة المنطقة التي نعيش فيها والتي تُشكل كلًّا واحدًا، وبالتالي لا يمكن لتركيا أن تراقب ما يدور فيها من الخارج، ولا تلقي بالًا لما يحدث في محيطها وتنتظر أن يتفوق أحد الأطراف وينهزم الآخر، ثم تأتي لتبرم اتفاقياتها مع الفائز بغض النظر عما فعله؛ لأن إشعال الصراعات والاضطرابات في المنطقة يستهدف بشكل مباشر العالم الإسلامي وفلسطين وتركيا.
والخلاصة أن غزة واستبسالها في الصمود والمقاومة، بل والهجوم على المعتدي الغاصب الذي يقوم بجرائم وحشية في حق الإنسانية كلها، تقوم بدور غاية في النبل والجرأة في وجه النظام العالمي وقوانينه التي تساند الظالم ولا تلتفت للمظلوم، ولا يراعي مصالح الشعوب، بل لا يهتم إلا بمنفعته وما سيحصل عليه من غنائم. وكذلك يفعل الشعب السوداني الحر في وجه أذرع إسرائيل في السودان. ولا يقتصر الأمر على غزة والسودان بل يمتد إلى كل مناطق الظلم والاضطهاد في العالم والمنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق