الأربعاء، 29 مايو 2024

آليات التبعية... التماثل والإذعان


آليات التبعية... التماثل والإذعان

بقلم أ.د. محمد أمحزون

لقد لفت الاسلام الأنظار للتدبر والتفكر والاعتبار بصيغ متعددة، تفيد لزوم إعمال العقل للتمييز بين الخير والشر والحق والباطل.

كما ركز على المسؤولية والتبعية الفردية؛ إذ لا يغني عن الإنسان أن يسير مع السائرين أينما اتجهوا لقوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة [القيامة:14]، وقوله تعالى: لا تزر وازرة وزر أخرى [الإسراء: 15]

وبالمقابل رفض هذا الدين الحق التبعية الفكرية والتقليد، والسير مع الناس كيفما يكون المسير؛ بل لابد من الوضوح في المنطلق والهدف، وفي الرؤية والاختيار.

وفي هذا السياق قال النبي : "لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا"(1).

وروي عنه قوله: "من تشبه بقوم فهو منهم"(2).

وفي قوله تعالى: تشابهت قلوبهم [البقرة: 118]، تعبير واضح عن البعد النفسي للمتماثلين، فهم متشابهو القلوب في التصور والتركيبة النفسية، ولديهم جميعا قابلية للشر والفساد.

وعليه فإن ظاهرة المشاكلة والمشابهة التي ذمها الكتاب والسنة، إذ تتجاوب فيها أغلبية المجتمع (المستضعفون) لأسباب نفسية واجتماعية ومادية مع السلطة الحاكمة (المستكبرون) في تقنينها للفساد، وتكريسها للظلم في شتى صوره، إنما تدخل ضمن ما يسميه علم النفس الاجتماعي الحديث بـ"التماثل".

والتماثل كما يعرفه علماء النفس الاجتماعي: هو إنتاج سلوك مشابه لمصدر التأثير المجتمع أو السلطة، وهو سلوك اختياري يحظى بالموافقة والرضا والرغبة.

أما الدوافع النفسية التي تتسبب في التماثل السلبي فترجع إلى عدة عوامل، منها:

الطمع أو الرغبة في الحصول على مكافآت مادية ومعنوية.

  • الخوف من عقوبة المجتمع وتهميشه عند إعلان المخالفة.

  • أثر البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد(3).

  • القابلية للمتابعة مع وعي بمضار ذلك ومساوئه.

  • وهذه العوامل مجتمعة أو متفرقة تعزز مواقف سلبية، منها:

* تذلل وخنوع المتماثلين من أجل الحصول على القبول والترحيب داخل المجتمع أو الجماعة.

* الجمود على المعايير والوسائل نفسها؛ على الرغم من تغير الظروف والملابسات التي أنتجتها، وهو ما يعود بالضرر على الجماعة والمجتمع.

لكن مع ذلك فإن للتماثل بعض المزايا: كتقليص النزاع وإزالة الاختلاف بين عناصر الجماعة التي تجتمع على عقيدة ربانية صحيحة، وتشجيع التنسيق بينهم عندما يكون أعضاء الجماعة على القدر نفسه من الكفاءة، والمبالغة في الحماسة للمواقف، والآراء المشتركة.

ويفيد التماثل أيضا عندما يحدث التنسيق والتأثير المتبادل بين أعضاء الجماعة، لاسيما عندما يكونون على مستوى واحد من الكفاءة؛ متشابهين في طباعهم وأنماط سلوكهم... وفي حالة أخرى عندما يكون الفرد مستعدا لاقتباس أحكام نظرائه، إذا كانوا أكثر دراية وخبرة منه في القضايا المطروحة.

ويمكن للتماثل أيضا أن يستعمله أشخاص مع نظرائهم غير المذعنين كأداة لتوجيه تحد للسلطة.

كما أن التماثل في المعايير الأساسية جوهري إذا كانت الجماعة ترغب في البقاء، وتريد بلوغ أهدافها ومقاصدها.

وهناك ظاهرة أخرى هي "الإذعان، يُعَرِّفُهَا علم النفس الاجتماعي بأنها: تغيير السلوك للخضوع لأوامر مباشرة لسلطة عليا.

وهو سلوك إجباري تسعى السلطة من خلاله إلى ممارسة التأثير ومراقبة مدى خضوع الفرد لأوامرها.

ويعود فعل الإذعان إلى جملة من العوامل، منها:

  • تنفيذ المستضعف أو المذعن أوامر قائده ظنا منه أن من فوقه هو المسؤول عن أفعاله.

  • قبول التفسيرات التي تعطيها السلطة لتبرير سلوكها تجاه الأحداث.

  • إبداء المذعن مسؤولية أقل إزاء أفعاله الخاصة.

  • الطمع في أخذ مكافأة على ممارسته غير الإنسانية.

  • الخوف من عقاب رئيسه.

وللإشارة أقول: إن الإذعان يكون أحيانا طوعيا بفعل تأثير العادات والتقاليد الاجتماعية، والأهواء، والقابلية للمتابعة.

ونحن إذا وضعنا مفهوم "الإذعان" في ميزان الشرع، فسنرى أن هذا السلوك غير محمود وغير مرغوب فيه؛ لأنه يُعَوِّدُ الناس على الذل والاستسلام للباطل، وممارسة الظلم على غيرهم؛ إرضاء لرؤسائهم وكبرائهم أو خوفا منهم؛ كمن باع آخرته بدنيا غيره.

وقد حكى القرآن الكريم قصة المستضعفين وهم في النار يلقون التبعة على المجرمين الذين أطاعوهم وأذعنوا لتشريعاتهم وقوانينهم وسووهم بالله  في الطاعة والتعظيم والتشريع، وهو ما يتعلق بشرك الألوهية، فلم تنفعهم حسرتهم وندامتهم وتمني العودة إلى الدنيا لتغيير السلوك والمواقف: قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين [الشعراء: 96-102].

على أن طاعة القيادة مشروطة بالمعروف وتنفيذ تعاليم الشرع لقول النبي :" الطاعة في المعروف"(4)، وقوله : "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".(5)

إنها طاعة واعية مبصرة لا تسمح للأفراد أن تذوب شخصيتهم في شخصية القيادة؛ لأن المؤمن يتعلق بالمبدأ لا بالقيادة، التي تُسمع وتُطاع بحسب امتثالها لأوامر الله .

وحتى في أحلك الظروف؛ فإن الإنسان يملك قوة عظيمة هي قوة الرفض بقلبه، وهذه القوة سماها النبي "جهادا" في قوله:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.(6)

وهذا الحديث وإن كان مسوقا في بيان أحوال الأنبياء السابقين؛ إلا أن الظاهر من لفظه أن هذه الأمة داخلة فيه؛ إذ يمثل سنة اجتماعية مطردة وشاملة.

إن الانهزام الداخلي الذي يستطيل به الباطل يمنعه المسلم بالتماسك القلبي. والموالاة التي يحتاجها الباطل – حتى مع قوته - فليمنعها عنه، وهذا ما يطلق عليه جهاد القلب.

وقد جاء الوعيد شديدا في من يلتف حول أهل الباطل ويذعن لهم، ويتعلق قلبه بنصرتهم، أو يتبعهم من غير روية: "أهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، والذين هم فيكم تبع..." الحديث.(8)

ومن المعلوم أن أفعال الإنسان من حيث اعتبار الإرادة والقصد على ثلاثة أحوال:

  1. ثبوت الرضا والاختيار (وهو ما يتناوله هذا المقال)، وهذه ليست حالة إكراه.

  2. انعدام الرضا وبقاء الاختيار.

  3. انتفاء الارادة والقصد بانتفاء الرضا وانتفاء الاختيار.(9)

أما الحالة الأولى: فقد تحدثنا عنها بما فيه الكفاية، والمذعن ها هنا يكون مسؤولا عن موقفه وسلوكه، ويتحمل تبعة أفعاله.

وأما بالنسبة للحالة الثانية؛ حيث يتعرض المذعن "للتهديد"، وينعدم رضاه ولا ينعدم اختياره تماما: فالمؤمن يختار في هذه الحالة أخف الضررين وأهوين الشرين، كما هو حال نبي الله شعيب عليه السلام مع قومه: قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [الأعراف: 88-89].

فلا تجوز الاستجابة لهذا التهديد واستقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء والانقياد، كما في قوله تعالى : ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت: 10].

وفي ما يتعلق بالحالة الثالثة "الإلجاء"؛ حيث ينعدم الرضا والاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد؛ بالوقوع تحت طائلة التعذيب الشديد، وهو ما يلغي الإرادة ويسقط مسؤولية الإنسان عن أفعاله وأقواله؛ بحيث تكون كأفعال العجماوات والجمادات(10)، فهذه الحالة هي التي نزلت فيها آية النحل: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [النحل: 106]، واختلفت فيها مواقف الصحابة – رضي الله عنهم – كبلال وعمار وغيرهم بحسب قوة الإيمان وقوة الإرادة وقوة التحمل وضعفها. لكن لا تبعة على الإنسان في مثل هذه الحالة؛ إذ يستخدم فيها كالآلة.

وهكذا من منطلق التأصيل الشرعي، ينبغي أن نفرق بين الإكراه (التهديد والإلجاء) وبين مشاعر الخوف والطمع التي تتزاوج فيها مشاعر الرجاء والتعظيم والاتباع (الإذعان)، كما يجب أن نفرق بين الاستضعاف مع الرفض القلبي، وبين الهزيمة النفسية والاستكانة لتقاليد وأعراف المجتمع، والركون إليها، وفقدان الثقة في الله، وترك التوكل عليه.

وفي الختام، يمكننا القول بأن الفكر الغربي قد بلغ شأوا بعيدا في تفكيك وتحليل الظواهر الاجتماعية؛ بالكشف عن أسبابها والعوامل المؤثرة فيها وما يتمخض عنها من نتائج وآثار، وذلك بفعل التجارب المختبرية والدراسات الميدانية.

لكن يبقى هذا الفكر عاجزا عن إيجاد حلول حقيقية للمشاكل الناجمة عن الظواهر الاجتماعية المستعصية؛ لأنه مقطوع الصلة بالوحي، وهو ما يجعله غير قادر على فهم حقيقة النفس الانسانية، وطبيعتها، ودروبها، وتشعباتها، ووسائل علاجها، ومن ثم لم يحالفه النجاح في ضبط بنية العلاقات الانسانية والنفسية المجتمعية في سيرها الآني والمستقبلي.

وليس أدل على ذلك مما تعانيه المجتمعات الغربية من انحطاط خلقي وأمراض اجتماعية ونفسية تنذر بحتمية الانهيار مهما يكن بطيئا: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا [الفتح: 23].



*****************************

1-أخرجه الترمذي في سننه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.



  1. 2-أخرجه أبو داود في السنن "كتاب اللباس": 403/1، وأحمد في المسند: 11/1. وصححه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير: 9/14.
  1. 3-ويبين الحديث الشريف بشكل جلي أثر البيئة الاجتماعية في التماثل؛ حيث يقول : "كل مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..."، رواه أحمد في مسنده، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  1. 4- أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي: 101/5.
  1. 5-أحمد في المسند: 66/5. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، وقال رجال أحمد رجال الصحيح.
  1. 6-أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان: 27/2.
  1. 7-وفي رواية: "لا دين له". لا زبر له: أي لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي: 199/17.
  1. 8-أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: 198-197/17. وأحمد في المسند: 162/4.
  1. 9-عبد المجيد الشاذلي: حد الإسلام وحقيقة الإيمان، ص 575.
  1. 10-المرجع السابق، ص 574.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق