مظاهرات الصهاينة.. ودولة العقيدة
باستثناء رغبة الشارع العلمانيّ في الخلاص من حكم نتنياهو، لأسباب لا علاقة لها بما يجري، لا يوجد للمظاهرات التي تجتاح الكيان المحتل أيّ هدف يمكن أن يسعد بوَصْل مع قيمة من القيم، ولو كوصل العشاق بليلى الغافلة عن لَهَج أشعارهم وصَخَب قوافيهم، لقد انحصرت المطالب فقط في شيء واحد: (نريد أسرانا الآن أحياء)؛ ألا يُثير هذا السلوك الشعبيّ العام تساؤلًا عن دلالات تكمن في المنطقة التي لا تراها النظرة العابرة؟ هذا هو التساؤل الذي أغفلناه في زحمة الأحداث واحتدامها.
سؤال طمرته الأحداث
ولو أنك طرحت سؤالًا عن دولة في جسم النظام الدولي الحالي قامت وأسست على عقيدة دينية، فانساب السؤال في البشرية انسياب الماء تحت الهشيم، حتى غمر قلبها وطمر أطرافها، لأنبت إجابة واحدة في كل بقعة من بقاعها: (إسرائيل)، أجل.. إن إسرائيل دولة عقيدة دينية معلنة، فاسمها على اسم نبيّ الله يعقوب، وعلمها تتوسطه نجمة داوود، وقيامها كان على أساس نبوءة توراتية بعودة شعب الله المختار إلى الأرض المباركة، وغايتها الأسمى هي بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى تمهيدًا لظهور المسيح، ومصيرها مع العرب سيُحسَم في معركة كبرى يُعِدّون لها العدة يسمونها “هرمجدون”، بل إنهم نجحوا بسهولة تثير الدهشة في جرّ الاستراتيجية الإنجيلية لتدخل وراءهم في جحر الضبّ هذا؛ لتتصهين دول وأحزاب وقوى ورموز سياسية، وتهرطق بلغة (المجاذيب) الذين يقطنون أدغال اليمين المتطرف.
وإذَنْ فالمفترض أن تملأ العقيدة قلوب الجماهير التي قيل لها إن الهجرة إلى فلسطين فريضة أملاها الربّ، لتحقيق غاية توراتية مجيدة، والمفترض كذلك أن تكون هذه العقيدة هي عقيدة الجنديّ المقاتل، والمستوطن المهاجر، وأن تكون فوق كل تصور وقبل كل غاية، فأين هي هذه العقيدة؟ أين آثارها في الجيش والشعب على السواء؟ وهنا تقع المقارنة الحتمية بين شعب غزة المغوار و(شعب الله المختار!).
أين العقيدة في دولة العقيدة؟
نحن -بلا أدنى شك- سعداء بما يجري، وكلما رأينا الجموع تنزل في تل أبيب منددة بحكومة نتنياهو وجيشه، ومطالبة بصفقة تبادل سعدنا واستبشرنا، لكن ما يبعث على الاستبشار أكثر هو ما يحمله هذا الأداء من دلالات للعبور إلى المستقبل المشرق أرسخ من الأعمدة الخرسانية التي تحمل الجسور العملاقة، إنه لا وجود لعقيدة تمسك الكيان، فضلًا عن عقيدة قتالية كان من المفترض أن يتسلح بها كل عضو في هذا الكيان، لا وجود لعقيدة حقيقية تسكن الوجدان وتستوطن القلوب وتوحد الأمة أمام الخطر الوجوديّ الذي يهدد الجميع، لم نجد تحت قبة السماء قومًا بهذه الهشاشة العقدية والنفسية، كأن الآيات التي نزلت منذ أمد بعيد تتنزل من جديد: {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أرض تُنافس في العلو سماء
أين شذاذ الآفاق هؤلاء من أهل غزة الذين صاروا -بصمودهم ومتانة مواقفهم وصلابة عقيدتهم- مثالًا ملهمًا للشباب الغضّ في أمريكا وأوروبا والعالم؟ ليس صحيحًا أن الموقف الإنسانيّ المتعاطف مع أهل غزة هو المحرك الأوحد أو -حتى- الأول، بل الصحيح أن المثال الملهم للنضال من أجل الحرية الحقيقية هو المحرك الأكبر والأول لَدَى طُلاب تَرقَى بهم طموحاتُهم إلى حياة لها معنى، لقد رأيناهم -على ما بين الثقافتين من بون شاسع- يتعلقون بالصور والنماذج إلى حدّ تجاوز الطقوس الظاهرة كالعَلَم والكوفية إلى ترديد الأناشيد التي لا يعرفون لها معنى، وإلى تقليد الرقصة والدبكة الفلسطينية، إن الأمر عندما يتحول -لدى جيل عابر للحدود يقطن سنًّا واحدة- إلى قضية حياة أو موت يضحي من أجلها بحريته ومستقبله التعليمي، فلا مناص من التسليم بأنه ليس مجرد موقف إنسانيّ عابر، وإنما هو الاستلهام والاقتباس والتأثر، لقد اكتشفنا أخيرًا أن لدينا ما نسديه لهم: المثال الملهم، وهذا هو الفرق، وإنه لكبير.
النظرية المنسية
ها نحن الآن نضع أيدينا على الدليل الماديّ الذي يقضي بصحة النظرية القائلة: إن الصهيونية ليست سوى أكذوبة كبرى، وحركة إمبريالية غربية غرست أظفارها في كبد أمة تقطن قلب العالم وتحمل عقيدة هي القلب النابض للإنسانية، ولكي يقوم الكيان كان لا بد من قضية دينية (الصهيونية)، ولكي تدور عجلة الهجرة والاستيطان كان لا بد من استمرار التلقين بالقضية الصهيونية وبالحلم الإسرائيلي وبأرض الميعاد، وكلما ازدادت الحاجة لمزيد من الهجرة والاستيطان ازداد معها الخطاب سخونة ورعونة، مما ترتب عليه ظهور واستفحال الاتجاه المتطرف إلى أقصى اليمين، ليقع التنافس بين الصهيونية السياسية والصهيونية الدينية اليمينية، والاتجاهان وإن اختلفا يمضيان إلى غاية واحدة، والثمرة ذاهبة للراعي الرسمي.
ومن هنا نؤكد -وقد أكدت الأحداث ذلك- أن المعركة مع الصهاينة معركة يعلو فيها صوت العقيدة، فعندما خفت صوت العقيدة الصادقة تعالى صوت العقيدة الصهيونية الكاذبة في الفضاء كما يتعالى الدخان في عنان السماء، ويوم أن تسلحت المقاومة بالعقيدة الإسلامية أسقطت الصهيونية في عقر دارها، وصار الكيان عاريًا تمامًا أمام العالم وأمام نفسه، ومن الآن فصاعدًا سينعكس المساران الداخل والخارج ليتسع باب الخارجين المهاجرين من الكيان إلى كافة البلدان، ويضيق في المقابل باب الدخول ولو للسياحة المؤقتة، وسينهار المشروع الاستيطاني من تلقاء نفسه، ومن ثم سيتراجع المشروع الصهيونيّ وسيتخلى عنه الرعاة الداعمون المنتفعون، وكأنهم اليوم يعيدون لنا الذكرى الخالدة لأسلافهم: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، فهل وصلت العبرة وهل سيتحقق الاعتبار؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق