الأربعاء، 29 مايو 2024

«مكة بعيون ألمانية».. الغرب والإسلام


 «مكة بعيون ألمانية».. الغرب والإسلام

مراد فيلفريد هوفمان (1931/2020) قانوني ودبلوماسي ألماني شغل منصب سفير لألمانيا بالجزائر في أواخر القرن المنصرم ،اشتهر بكتابيه «الطريق إلى مكة» و«الإسلام كبديل» وهو يشكل مع نخبة من مفكري ومثقفي الغرب صوتا ثقافيا متميزا يدعو الغرب إلى إعادة قراءة الإسلام والتخلي عن مركزيته ومنزعه الإيديولوجي المتعالي والذي يتعامل مع الآخر المختلف بمبدأ الطمس والحجب والإلغاء ،مسلك في الفكر الغربي برر سياسة الاستعمار والاستغلال وأضاع على البشرية منافذ روحية وثقافية تغني التجربة البشرية الغنية بتعددها الواحدة بإنسانيتها.

هذا اللفيف من المفكرين الغربيين الذي ضم أشتاتا من الأدباء والفلاسفة والفنانين أشهرهم رينيه جينو (عبد الواحد يحي) روجيه جارودي (رجاء جارودي) إتيان دينيه( نصر الدين دينيه) ليوبولد فايس (محمد أسد)، كات ستيفنز (يوسف إسلام)، يوليوس جرمانوس (عبد الكريم جرمانوس)، فيلفريد هوفمان (مراد هوفمان) وغيرهم ممن تضيق المقالة عن عدهم.

ولا يمكن لمن يكتب عن مراد هوفمان أن يستبعد الجزائر من قدر الرجل ومساره الفكري فهذا البلد الذي كان رازحا تحت وطأة الاحتلال الفرنسي حين التحق هوفمان ببعثة بلاده الدبلوماسية بعد أن أحرز شهادة الدكتوراه في القانون، وعايش وحشية المنظمة السرية الإجرامية ونقل في كتابه “الطريق إلى مكة “يوميات الدم والعنف من لدن المنظمة السرية.

لقد سجل اندهاشه من صلابة عود المقاومين الجزائريين للاستعمار وصبرهم وإيمانهم بالله وبعدالة قضيتهم وتلاحم الشعب الجزائري في محنته وإقباله على التضحية والفداء بكل بسالة وأريحية، إنه يستلهم أبجديات النضال والفداء من تعاليم دينه، في حين لم يسقط القيم والمبادئ الإنسانية من سلوكه وفي كتابه الطريق إلى مكة يقص على القارئ كيف أثر فيه سلوك سائق سيارة تاكسي كان ينقل زوجته الأمريكية الحامل إلى المستشفى وقد كانت نازفة ،لقد عرض السائق منحها دمه فزمرته الدموية من نفس زمرة زوجة الكاتب والدبلوماسي ،عرض السائق ذلك بكل أريحية وكرم وعلق على ذلك أن تربيته ودينه يفرضان عليه مساعدة الغير ولو كان من غير دينه وجنسيته، هكذا بدون خلفية حاقدة على الآخر (الغربي) تصرف هذا السائق عارضا الخدمة الإنسانية في حين يصف الخطاب الاستعماري هذا السائق بأنه من السكان الأصليين، بربري، همجي ،متوحش.

لقد شكلت هذه الحادثة بداية التحول في فكر ومسار الرجل وكانت حياته وعمله بالجزائر خير معين له في عملية البحث والاكتشاف وممارسة النقد الذاتي والحفر المعرفي وغربلة التراث الغربي الذي عب منه بصفته مفكرا غربيا والذي لا يصف التراث العربي والإسلامي إلا بكل نقيصة.

إنها لمفارقة عجيبة أن يرتبط مسار وقدر مفكر غربي آخر بالجزائر ذاك هو الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي صاحب كتاب «الإسلام يسكن مستقبلنا» و«أمريكا طليعة الانحطاط» فقد كان جارودي في مرحلة تفكير ونقد واكتشاف وحفر في التراث الغربي فلسفة وفكرا وفنا، ويشاء القدر -وقد كان قدرا سعيدا- أن يسجن في الصحراء الجزائرية ناحية غرداية بسبب اشتراكه في المقاومة ضد النازية وانخراطه مع المقاومين لتحرير فرنسا وقد سجنته حكومة الماريشال بيتان المتعاونة مع النازيين غير أنه لما خطط للهرب من سجنه في الصحراء بمعية رفاقه رفض الحارس المكلف بحراستهم- وكان جزائريا- إطلاق النار عليهم وقد باح لجارودي أنه مسلم والروح مقدسة لا يجوز إهدارها ،لقد كان ذلك الرفض من الجندي لإطلاق النار عليهم حياة ثانية وهبت لهم دفعته إلى التعرف على الجزائر وثقافتها والاقتراب من الثقافة العربية والإسلامية ثم اعتناقه الإسلام بعد ذلك وكتب أن تلك اللحظة التي رفض فيها الجندي إطلاق النار عليه لحظة ميلاد جديدة سوف تكون مشبعة بالأنوار.

وكذلك كان قدر الرسام العالمي إتيان دينيه (نصر الدين دينيه) مع الجزائر ومدينة بوسعادة الساحرة فقد شكلت منعطفا في حياته وتحوله إلى الإسلام واختياره العيش والموت والدفن في تربتها.

هكذا إذن ارتبط مسار وتفكير مراد فيلفريد هوفمان بالجزائر منذ الاستعمار الفرنسي وعودته بعد استقلالها سفيرا لبلده ألمانيا بها وإعلانه إسلامه عام 1980.

في كتابه «الطريق إلى مكة» من إصدار دار الشروق المصرية في 169 صفحة واثنا عشرة فصلا مع خاتمة وتعليقات الهوامش يعي المؤلف مخاطر الحديث عن الإسلام بنظرة مختلفة ومغايرة للسائد والنمطي ولا أدل على ذلك من استهلاله الحديث بعبارة لهرمان هسه مفادها أن (التحدث هو أضمن السبل لإساءة فهم كل شيء وجعله ضحلا ومجدبا) يعرض المؤلف تجربة الحج إلى بيت الله الحرام -ونحن في شهر الحج- والأشواق الإنسانية والروح الإيمانية إلى معانقة المدينة المنورة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ثم التوجه إلى مكة والتفكير في مناسك الحج وجغرافيا المكان، ذلك المكان الذي وصفه القرآن على لسان أبي الأنبياء إبراهيم (بواد غير ذي زرع) وكيف قدر له أن تنطلق منه مواكب النور لتغمر أقطار العالم في فترة وجيزة جدا.

في زيارة أخرى عام 1992 وجهت للكاتب دعوة ضيافة وغداء من ملك السعودية فهد بن عبد العزيز في جملة من وجهت لهم الدعوة من علماء وأعيان ومثقفي العالم ومنهم أنيس منصور وسلطان بروناي وكان القصد من تلك الدعوة اعترافا بالكاتب ورد اعتبار له بعد الحملة الشرسة التي تعرض لها في ألمانيا من قبل أعضاء البرلمان ودوائر الأحزاب وإعلام وفكر غربيين يتحاملان على الإسلام وينعتانه بأقبح الأوصاف بعد نشر كتاب «الإسلام كبديل» وقد خص الكاتب فصلا كاملا للحديث عن الحملات التي يتعرض لها المفكر المسلم في ألمانيا خاصة والغرب عامة وهي لا تخرج عن التوجهات اليمينية المتطرفة التي تتقيأ طعاما فكريا صنعته دوائر الاستعمار والاستشراق وتقدم في نعتها للإسلام نفس التحفظات المعروفة والتي تنم عن ممارسة ببغاوية واجترار فكري وسطحية بائسة من قبيل (تعدد زوجات النبي، انتشار الإسلام بالسيف، رجعية الإسلام إزاء المرأة، عداء الإسلام للفن، ذبح الحيوان، تعدد الزوجات….الخ). وفي نفس الوقت تظهر دراسات ومقاربات وأنشطة تتسم بالموضوعية ومقاربة معتدلة منفتحة على الإسلام داخل ألمانيا من مسلمين أو مستعربين على شاكلة أحمد فون دنفر والمستعرب توماس باور والمستعربة الكبيرة آنا ماريا شيميل.

إن من يقرأ هذا الفصل لا يخفي إعجابه بصبر وجلد الكاتب وقوة إيمانه وعدم التفاته إلى تلك الصيحات الإعلامية المغرضة وكأنه يقول بلسان أبي العلاء:

إذا قلت المحال رفعت صوتي ::: وإذا قلت اليقين أطلت همسي

عرض الكاتب في كتابه بطريقة جذابة ومنزع إبداعي جاعلا من سيرته الحياتية والفكرية مدخلا إلى الكتاب فقد بدأ بالركن الخامس وهو الحج ومزية ذلك في الالتقاء بالمكان ومعانقته بل إنه بدأ بزيارة قبر النبي والسلام عليه قبل أن ينتقل إلى مكة لمباشرة مناسك الحج وفق منهج تأملي سابر لأسرار كل ركن وبعده الفردي والجماعي ثم بقية أركان الإسلام عارضا إياها بعناوين جديدة إبداعية دون أن تغيب اللمسة الفنية في عرض الكاتب ولا عجب في ذلك فهو وزوجته من الفنانين المتأثرين برمزية الإيقاع وتناسق وجمال الحركة خاصة في فن الباليه. 

ولا يفوت الكاتب أن يعرج على مسألة القدر وقد ألفت فيه آلاف الصفحات منذ عصر الفرق والمذاهب مع نقد للغربيين الذين يعتبرون -بفهم سيئ مضمر قبلا- أن المسلمين أمة قدر أي أمة مستعبدة فكريا وروحيا لا حرية لها عارضا من تجربته الشخصية في الالتقاء بالإسلام وعمله بالسفارة في الجزائر وتركيا والحوادث المميتة التي نجا منها كقصف الحلفاء لبرلين عام 1944 و 1945 وحادث السير الذي أدخله المستشفى في أمريكا ونجا منه بأعجوبة في 1951 فهي العناية واللطف والتقدير الإلهي الذي كتب له أن يحيا حياة جديدة مغمورة بالألطاف الإلهية.

يعتبر تحول مراد هوفمان إلى الإسلام والتحاقه بمن سبقه من فلاسفة ومفكري وفناني الغرب نقطة مفصلية في نقد الحداثة الغربية وما بعدها ،فالمركزية الغربية التي انطلقت من الفكر الإغريقي ثم مكتسبات عصر الأنوار والتبشير بعصر ألوهة الإنسان ومركزيته وما في هذا من سخف فالإنسان ليس سوى كائن كغيره من مخلوقات هذا الكون يعرف قليلا ويجهل بهرا ولغيره من الحقوق الطبيعية مثلما له ،غير أن أنانية الإنسان وجشعه -والإنسان هنا هو الأبيض الغربي- سولت له نفسه الأمارة أنه حقا إله هذا الكون وجاءت التقنية والثورة الصناعية ليدشن الغرب فتوحه الاستعمارية تحت دعوى تحضير وتمدين الشعوب البربرية لكنه ارتكب مجازر في حق الجنس البشري والحيواني والنباتي من إبادة لمجموعات بشرية وحيوانية ومساحات خضراء وتلويث البيئة وإشعال الفتن والحروب في مناطق مختلفة من العالم والجشع في صناعة السلاح وتسويقه وتجارة المخدرات والدعارة وتشكيل عصابات سياسية موالية للاستعمار في بلدان العالم الثالث ونهب ثرواته بمعية مافيات اقتصادية وإعلامية، ولم تعد المسيحية ذاتها التي يتبناها الغرب كدعامة روحية سوى يافطة بل إن المسيح نفسه ليس سوى البورصة والأسواق والأرباح وحمى الاستهلاك!

هذه الميكنة والتقننة جعلت الإنسان كائنا مسطحا ذا بعدين أشبه بورقة لها طول وعرض ولا ارتفاع لها، إنه كائن مستلب ممسوخ همه الثروات وإشباع النزوات والاستهلاك إلى حد تحول الحياة إلى ممارسة روتينية بلا لون ولا طعم ولا رائحة. حداثة مجدت الإنسان وألهته وقدست فردانيته وقطعت أواصره الأسرية وروابطه الاجتماعية حتى لا يضيع الوقت والوقت من مال وأرباح، وهكذا كسب الإنسان طينيته وخسر وهجه وروحه.

هذا الزلزال الروحي والرجة الوجدانية والنقد الجذري للحداثة الغربية هو الذي حدا بمراد هوفمان وبغيره من مفكري الغرب إلى التخلي عن طروحات الحداثة الغربية والإيديولوجيا الاستعمارية التي تقدم نظرة واحدة للعالم وفهما أوحد لتفسير الإنسان والطبيعة والكون وإقصاء كل ما يخالفها ويغايرها من روى ومفاهيم وتفسيرات من الشرق خاصة العالم العربي والشرق الأقصى (حضارة الهند والصين واليابان).

لهذا لا نستغرب هذا التحول من هوفمان وهذا الكتاب الرائق كسيرة فكرية وروحية ومقاربة للعقيدة الإسلامية من دبلوماسي ومثقف غربي وجد راحته وانسجامه في اعتناق الإسلام والدفاع عنه والصبر على المكاره التي نالته من هجوم المنظومة الفكرية والإعلامية والاستشراقية الغربية والتي تشاء للناس أن يكونوا قطعانا تردد ما تلفقه المناهج التربوية والصفحات الإعلامية من كليشهات جاهزة وأحكم قبلية سطحية يرددها الناس بكل حماقة.

لعل أثمن ما في الكتاب دعوة المؤلف إلى فصل المنظومة الفقهية عن الفكر الإسلامي وهو بلا شك لا يتنكر لمقاصد الإسلام ولكنه ينتقد إغراق الفكر الإسلامي في جزئيات فقهية وتفريعات على حساب وهج الإسلام وعطائه ونزعته الإنسانية وتلك المنظومة الفقهية ترجح الماضي على الحاضر وتستغرق في ذريرات على حساب قضايا مصيرية وتحديات كبرى كما هو الحال في إسلام النفط الذي يوجه له الكاتب سهاما ناقدة كما تجاسر جارودي من قبل وفعل ذلك في نقده للوهابية التي عانى منها الكثير إلى حد تكفيره، في حين لم يجد جارودي سندا من شيوخ النفط حين تعرض لحملة شرسة من الصهيونية في بلد الأنوار فرنسا لما أصدر كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).

ولا شك أن من يقرأ الكتاب يتعجب من تبرير الكاتب للرشوة الصغيرة التي يراها علامة على الخدمة والتلاحم الاجتماعي والمساعدة لمن دخله ضعيف من عمال الإدارة خاصة ويستشهد على ذلك بحادثة عقد قرانه في إسطنبول وكيف سرعت أوراق مالية قليلة قدمها لبعض موظفي تلك الإدارة لتسريع وتيرة إتمام العقد، ولا شك أن هذا السرطان (الرشوة) ليس له ما يبرره فهو علامة مرضية وليس علامة حميمية وتكافل اجتماعي، إن هذه الرشوة في الإدارة هي نفسها في الجامعة وفي الحكومات والمناقصات والإدارات والسفارات العربية هي كلها علامة على التآكل وفقدان الشفافية والانحطاط ليس لها ما يبررها غير فقدان العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الأجور وفقدان المشروعية السياسية والرقابة والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء والإعلام، ولكن مراد الناقم على آلية العلاقات في الغرب وبرودتها أنسته حرارة الشرق أن الرشوة رشوة ومدانة في كل الظرف.

في الختام كان جارودي كتب قبل أن يرحل عن عالمنا أن الإسلام يسكن مستقبلنا وهو يقصد الغرب، وهو عنوان كتاب له، وهو يتفق مع مراد هوفمان أن الإسلام سيتقدم في الغرب وأن التجديد الإسلامي سوف يكون في ديار الغرب، فالغرب قد وصل بعلمه وتقانته وبفكره وفنه إلى نقطة الانحدار وأن الإشكاليات الحضارية الكبرى تتوالد في الغرب وتجد حلولها في انفتاحها على الإسلام لكن ليس إسلام النفط ولا الإسلام الأصولي أو الإسلام الغارق في هيولى ماضوية تبجيلية تبريرية إنما هو الإسلام المنفتح المرن والخلاق، الإنساني والكوني كما قدمه القرآن الكريم وقد أعلن المؤلف صراحة أن الإسلام الحقيقي يجده المرء في المنفى أي في أوروبا وأمريكا.

في الفصل ما قبل الأخير أي الحادي عشر الذي جعل عنوانه «الإسلام في ألمانيا إسلام ألماني»؟ عرض الكاتب صعوبات حياة المسلم في مجتمع ما عاد يخضع معارفه القبلية للفحص والمراقبة والنقد وإنما يستسلم لما قيل وحملات التشويه والكراهية التي تطال المسلمين الأتراك مثلا إلى حد وسم الإسلام بديانة الأتراك وختمها بهذه الصرخة المدوية (فليحفظ الله ألمانيا -ليس مسلميها فحسب- من جراء عدم تسامح الأصوليين الليبراليين وتصويرهم الإسلام عدوا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق