الاثنين، 27 مايو 2024

مصير الطوائف الضالة

 مصير الطوائف الضالة




محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

الطوائف الضالة من ملاحدة تكوين والحدادية الجدد والنواصب الجدد لهم فائدة مهمة، كما يكون في بعض السموم دواء، وفي بعض الضر النفع!

ومن هذه الفوائد أنه ينجذب إليهم ضعاف العلم والعقل والمروءة، وهذا أمرٌ نافع في الجملة، وإن كان مثيرا للحزن والغضب، فهو يساعدنا على إدراك مرارة الواقع، ومدى تفشي الجهل والضعف فيه بحيث ينطلي عليه الجهل بسهولة!..

ثم هو يعرفنا بأولئك الناس الذين يقعون في الفخ من أول مرة، فإما أن يساعد هذا في إنقاذهم، أو على الأقل في الحذر منهم!

وهذه الفئات الضالة تستهدف من الأصول ما يسقط معها الدين كله، وتسقط معها الأمة بالجملة.. ولذلك فعملهم يذهب بهم إلى مصيريْن قطعا:

1. أن يَكْفُرُوا..
فما منهم أحد إذا تشرب شبهة فصدق مع نفسه، ثم التزمها، ورتَّب عليها نتائجها، إلا وصل إلى الكفر أو ما قبله بقليل.

2. أن يُكَفِّروا.. فما منهم أحد إذا مشى مع أفكاره، ثم رأى الأمة كلها، أجيالها وقرونها وعلماءها على خلافه، إلا وسيصل إلى تكفيرهم! ويرى نفسه وطائفته وحدهم هم الفرقة الناجية.

وهم في هذا يلتقون مع الطوائف الضالة من قبلهم، فقد تشابهت قلوبهم..

فإن الرافضي حين اعتنق رأيا يقول بأن عليا كان أولى بالخلافة ممن سواه، جرَّه ذلك إلى سب أبي بكر وعمر وسائر الصحابة وأمهات المؤمنين لأنهم غصبوا عليا حقَّه.. ثم جرَّه ذلك إلى الطعن في البخاري ومسلم وسائر كتب السنة، لأن فيها ما يُثَبِّت حق هؤلاء، وأخذ الرافضي يرمي أصحاب الحديث في سائر طبقاتهم: من الصحابي والتابعي حتى مصنف الكتاب بمختلف التهم، كحب الدنيا وحب المال ونفاق الملوك.. إلخ!

وإن المستشرق ومن ورائه العلماني حين أرادوا التفلت من الإسلام ونبذه، استفادوا من عمل الشيعة وكتبهم التي تطعن في الصحابة ورواة الحديث وتلاميذهم حتى مصنفي كتب السنة.. ثم زادوا عليهم خطوة أخرى سهلة، بالطعن في النبي نفسه.. فإن نبيًّا خانه بعد وفاته كل أصحابه، وخانه كل زوجاته، لا بد أنه نبي سوء لم يحسن تربية أحد ولا تعليمه!!

ومثل ذلك تفعل هذه الطوائف الضالة.. إنها تمهد للملحدين والغربيين طرقا لم يعرفوها.. وهي تسهل عليهم القفزة الكبرى..

كيف ذلك؟


تأمل معي في هذه الحالة.. واستوعب معي هذه الأمثلة:


1.
إن الطعن في علي بن أبي طالب -كما يفعل النواصب الجدد- وجَعْلِه هو المخطئ وهو الباغي وأنه لم يكن أهلا للخلافة، وأن معاوية كان خيرا منه وأجدر بالحكم.. إن هذا كله ليس مجرد طعن في علي وحده!

إنه الطعن الذي يجر إلى الطعن في عمر بن الخطاب، فقد عهد بالشورى لستة من الصحابة كان فيهم علي، ولم يكن فيهم معاوية.. وهو طعن بعد ذلك في سائر الصحابة الذين قبلوا الاختيار بين عثمان وعلي ولم ينادِ واحدٌ منهم أن معاوية أجدر من علي.

ثم هو يطعن في سائر من بايعوا عليا من الصحابة.. بمن في ذلك معاوية نفسه الذي ظل شطرا من خلافة علي لا يطعن في خلافته وإنما هو امتنع عن البيعة وشرطها بالقصاص من قتلة عثمان.. لم يقل معاوية: أنا أحق أو أنا أجدر، ولم ير نفسه في ذلك الموضع إلا بعد صفين لظروف تتعلق بتطورات الفتنة لا بجدارة علي وأهليته.

ثم هو بعد ذلك كله: طعن في سائر أهل السنة الذين جعلوا عليا الخليفة الرابع الراشد، وقالوا بأن معاوية وفرقته هم الفئة الباغية (وإن كان بغيهم باجتهاد وتأويل).

ويجرهم ذلك إلى رد أحاديث متواترة في البخاري ومسلم، بطرق متعددة كثيرة، ومجرد ردّ هذه الأحاديث يجردهم تماما من أي منهج علمي مضطرد.

ومع سائر ما ذكرتُ، إلا أن هذا ليس هو أخطر شيء في الموضوع.. بل الأخطر أن المرء إذا اعتنق قول النواصب هؤلاء فهو لا بد سيفقد الثقة بمصادر الدين: من تفسير القرآن وكتب السنة وجمهرة العلماء والفقهاء عبر القرون.

وهذا هو ما يفتح له باب الإلحاد والكفر.. أو يفتح له باب تكفير هؤلاء جميعا أو تضليلهم في أدنى الأحوال.

فإن هذه الجموع الكثيرة إذا كانت قد غفلت عن الحق فهم مغفلون، وإذا كانوا طمسوه عن عمد فهم مجرمون.. فماذا بقي من الثقة فيهم لكي نأخذ منهم الدين.. ألا يكون الإسلام كله أكذوبة كبرى إذا كان جمهرة علمائه وفقهائه ومحدثيه وعظماءه مجموعة من المغفلين والجهلة، أو من الخبثاء المجرمين الذين يكتمون الحق وهم يعلمون؟!

2. وخذ مثل هذا المثل أيضا في حالة عمر بن عبد العزيز الذي يطعن فيه النواصب الجدد أيضا..

الطعن في عمر بن عبد العزيز ليس مجرد طعن في شخصه.. بل هو طعن في اتفاق الأئمة والعلماء عليه، ليس اتفاقهم على صلاحه في نفسه، بل على صلاحه في الحكم، وأنه أشبه الخلفاء بالخلفاء الراشدين، وأنه جدد سنتهم في الحكم..

فإذا جاء ذلك الناصبي الغر الجاهل، فأخرج لنا صورة أخرى عن عمر بن عبد العزيز تقول بأنه كان زاهدا في نفسه لكن لا يصلح للحكم، ولا يفقه شيئا في السياسة، ولا يعرف كيف تكون الإدارة.. فإن هذه الصورة الجديدة تهدر الثقة في سائر الذين مدحوا عمر بن عبد العزيز وأفاضوا في مدحه..

ولا سبيل إلا أن يكونوا مجموعة من الجهلة والمغفلين أو مجموعة من الخبثاء والمتآمرين..

وإذا كانوا كذلك، أفلا يكون الإسلام نفسه أكذوبة كبرى، ألا يكون كل الفقه والحلال والحرام كذلك.. لماذا يكون هؤلاء العلماء صادقين موثوقين مؤتمنين وهم يتكلمون في الحلال والحرام وحده.. فلعلهم مثلما كانوا مغفلين في فهم شخصيات عصرهم، ومثلما كانوا مجرمين في كتم الحق وطمسه.. لعلهم كانوا كذلك أيضا فيما نقلوه لنا من الفقه والأخلاق والآداب!

(ترتكب الطوائف الضالة هنا معضلة لا ينتبهون لها، وهو أنهم يأخذون ما يستدلون به من ذات كتب أهل العلم هؤلاء.. فإنهم لم يكتشفوا مخطوطات جديدة مجهولة، ولا هم ركبوا آلة الزمن فحدثوا عن الماضي حديث مشاهدة عيان.. وهنا تجد هؤلاء الضالين لا يتوقفون ليسألوا أنفسهم: كيف روى هؤلاء القوم ما يدين مواقفهم ويناقضها؟ ولماذا جاز لهؤلاء الضالين أخذ بعض الكلام وترك بعضه؟)                                                                     

3. قل مثل هذا أيضا عن أبي حنيفة.. الطعن في أبي حنيفة ليس مجرد طعن في شخصه.. بل هو في اتفاق الأمة على إمامته في الفقه.. ولا يقتصر هذا على الأحناف الذين اتبعوا مذهبه فحسب.. بل يمتد لسائر الأمة التي كانت ترى أن اتخاذ مذهب أبي حنيفة هو أمر سائغ وجائز.

4. وقل مثل هذا أيضا عن البخاري ومسلم.. وعن النووي والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم..

الطعن في هؤلاء وتنقيصهم ليس مجرد طعن في أشخاصهم، بل هو مسح لجمهرة الأمة التي اتخذتهم أئمة، وتلقت العلم عنهم، وأرشدت إليهم، ودرست كتبهم..

وإذا كان هؤلاء جميعا مجموعة من الجهلة أو من الخبثاء، فالنتيجة اللازمة لهذا كله أن نكفر.. لأن ديننا منقول عبر هؤلاء، فمنهم فهمنا القرآن والسنة وعرفنا عمل الصحابة وأخذنا الحلال والحرام.

إليك أمثلة مباشرة تصطدم بواقعنا المعاصر مباشرة:

1. إذا فقدتَ الثقة في جمهرة الأمة وجمهرة علمائها طوال هذه القرون، فما أسهل أن يأتي إليك أحدهم فيقول: المسجد الأقصى ليس هو الذي في فلسطين، بل هو مسجد قريب من مكة (كما فعلها مستشرق يهودي، ورددها وراءه يوسف زيدان)..

تأمل:
ما هي النتيجة الواقعية التي ستحصل لو تشككت الأمة أن المسجد الذي في فلسطين هو المسجد الأقصى؟.. إنها نتيجة أحلى من العسل على قلب الصهاينة والصليبيين.

2. إذا فقدتَ الثقة في كل هؤلاء، فما أسهل أن يقال لك: الحجاب ليس فريضة.. وسائر الذين قالوا بأنه فريضة اعتمدوا على أحاديث دسها فلان أو رواها علان أو أخرجها ترتان.. وفلان هذا كان منافقا، وفلان كان يحب بني أمية، وفلان كان يحب بني العباس، وفلان كان يحب المال والشهرة!

ولقد فعلها بعض الناس فعلا حين تحرجوا من أحكام إسلامية مثل حكم الردة أو الجزية أو غيرها.. فطفق يرد أحاديث البخاري بأن فيها فلان المدلس وفلان الذي كان يحب كذا وفلان الذي يروي عن فلان ما لا أصل له... وهكذا.

أراد هؤلاء أن يخرجوا من الحرج الذي سببته لهم الثقافة الغربية الغالبة، فأرادوا التخلص من الأدلة المحرجة، فنقبوا فيها وخبطوا خبط عشواء.. وما دروا أنهم إذا خلصت لهم المسألة، فقد هدموا الأصل كله!

فإن كان البخاري مغفلا روى عن فلان ما لا يصح، وإن كان جمهور الفقهاء مغفلين اتفقوا على حكم باطل.. فما هو هذا الدين الذي لم يعد إلا خديعة كبرى وأكذوبة طويلة؟!!

ملاحظة: هذا المنشور ليس ردا على الحدادية والنواصب وملاحدة تكوين.. إنما هو تنبيه -لمن لا زال لديه عقل- إلى أن هذه الفئات الضالة تفتح الباب إلى مصيريْن لا ثالث لهما، وكل امرئ على حسب ما سيصل:

إما أن تكفر بالدين الذين لم يكتشف أهله وعلماؤه طوال القرون ما هو الحق وما هو الباطل.. فهو خديعة وأكذوبة.

وإما أن تؤمن بما وصلت إليه من الرأي، ثم ترى أن كل هؤلاء قد ضلوا عنه أو كفروا به.. فهي أمة ضالة عن الحق.

ولا سبيل ثالث..

لا شك أنه من المؤسف أن مثل هذا النقاش يخاض في ساحات التواصل الاجتماعي، حيث يكثر فيه التعليقات والجمهور من يقتحم في الأمور وهو لم يفهمها ولم يعقلها.. وهو ما يزيد الأمر عسرا.. لكنها فتنة من فتن هذا العصر، ومحنة من محن هذا الزمن..

والله المستعان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق