هل تؤجل الحرب الأحلامَ
أسعد طه
(1)
إن قلت: نعم، أكون محبطًا، وغير دقيق.
وإن قلت: لا، أكون مبالغًا، وغير دقيق.
والحقيقة أنَّ الحقيقة بينهما.
(2)
الحرب مصيبة، تقع هكذا فجأة على رؤوس الناس، لم يحسبوا لها حسابًا، ولا يملكون منها مخرجًا.
تصبح النجاة هي همهم الأكبر، كيف ينقذون أنفسهم وما يملكون، ينظرون إلى أحلامهم أنها ترف في غير حاجة إليها، عبء لا يحتمل، وآخر ما يفكِّر المرء فيها لينقذها.
سهل -وأنا خارج دائرة الحرب- أن أقول: إنهم في ذلك مخطئون، لكن الحرب ليست جديدة على الإنسان، لقد اخترعها منذ أن وطئت قدماه الأرض، ويشهد التاريخ لكثر أنهم أنقذوا أحلامهم من الحرب، تمامًا كما أنقذوا أغلى ما يملكون.
في الحرب تتغيَّر حياتك وإلى الأبد، حتى وإن نجوت، لذلك فإن همَّك يجب ألا يقتصر على اللحظة الراهنة، وإنما على ما بعد الحرب، تسأل نفسك: إذا خرست المدافع كيف سيكون حالك، حيًّا بإذن الله، لكنك بائس؛ لأن الأحلام علامة أنك حقًّا تعيش، فإذا فقدتها فإنك لا تشعر بحلاوة الحياة، وإن بقيت أنت على قيدها.
قل لنفسك: جميل أن نخرج من الحرب سالمة أجسادنا، لكن ماذا عن أحوالنا وصحتنا النفسية، ماذا إذا انكسرنا؟
الأحلام تحميك من الانكسار.
(3)
الإبداع الذي يدَّعيه كثر إنما هو أن تلتف على ظروفك الصعبة وأوضاعك الاستثنائية؛ لتحقق ما تريد، أو بمعنى أدق: لتحقق أقصى ما يمكن أن تحققه مما كنت تحلم به.
لن يقدِّم لك أحد حلولاً جاهزة على طبق من ذهب، أنت من يجب أن يخترع هذه الحلول، أنت من عليه الالتفاف على الواقع بذكاء وصبر؛ ليحصل على الحلول.
الإبداع هو أن تتكيَّف مع الواقع بمعطياته الصعبة، ثم تعمل على تجاوز تحدياته، على اكتشاف فرص جديدة، تلك التي تنشأ من قلب الأزمات، أن تقترب من الشخصيات الملهمة، تستمد منها الحكمة والقوة، ترافقها، أو تسمع لها.
الإبداع أن تكون ذكيًّا بما يكفي لتقرِّر أن تكتفي في هذه المرحلة الصعبة بالعمل على تحقيق أحلام صغيرة بديلاً مؤقتًا لحلمك الكبير، وبنجاحك فيها تخطو خطوات إلى الأمام، وتمنحك الثقة في نفسك، وتمدك بالأمل.
أو تعرف: قد تكون الحرب في حد ذاتها هي الإلهام، تلهمك درسًا لم تتعلمه، أو تكشف لك حقيقة غابت عنك، أو تدفعك إلى أمر لم يكن في حسبانك.
(4)
الحرب ليست المدافع والصواريخ وحمم الطائرات وحسب، الحرب هي كل ظروف استثنائية صعبة ومؤلمة تمرُّ بك.
كل شدة هي حرب.
الفقر، المرض، العلَّة، الفراق، الفشل، وكل ما شابه ذلك.
هذه الأزمات تصقلك صقلاً، كما تصقل النار الذهب، بشرط أن تعرف كيف تتعامل معها، لا تستسلم لها، ولا تكثر الشكوى، ولا تكتفي بدور الضحية.
اقلب الطاولة -من فضلك- على حربك، على شدتك.
تحرَّر من الخوف، فهو عدوك القاتل.
ستنتهي الأزمة بلا شك؛ لأن من طبائع الأشياء أن لا شيء يدوم.
صدق الله العظيم: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ ليس بما نتمنى وإنما بالعمل، العمل ينجيك، السعي ينقذك، تكرار المحاولة -مهما فشلت- هو الذي يخرج بك -بإذن ربك- من ظلماتك إلى النور.
(5)
إن مللت من كلامي أدعوك لأن تسلي وقتك بقراءة هذه الرواية: «أحلام في حقبة الحرب»، للكيني «نغوغي وا ثيونغو»!
صاحبنا وُلد عام 1938 في ظلال الحرب العالمية الثانية، لا يعرف ترتيبه وفقًا للسن، بين الأربعة والعشرين طفلاً لأبيه وزوجاته الأربع، لكنَّه الطفل الخامس في منزل أمه.
يعود في روايته إلى محطَّات تاريخية لينقل لنا كيف أن حياته تأثَّرت بها بصيغة ما، مؤتمر برلين في عام 1885 الذي قسَّم إفريقيا إلى مدارات نفوذ بين القوى الأوروبية، تنافس الألمان والبريطانيون على استعمار أقاليم شرق إفريقيا.
ولأن الشدة حرب، يستذكر أن عائلته الكبرى كانت تعيش حياة عادية إلى أن نفقت مواشي الأب التي كانت عماد تجارته، ليصبح والده شخصًا عنيفًا جدًّا، تهرب والدته، ويطرد هو وأخوه من بيت أبيه.
حدث ذلك في وقت كان فيه الشعب الكيني يقاوم المستعمر البريطاني، الذي لم يتوان عن استخدام أي سلاح، وخاصَّة التعليم، للقضاء على اعتداد الشعب الكيني بثقافته ومقاومته له.
يحكي لنا عن المدارس المستقلة التي تمردت على نظام تعليم المستعمر، عن حلمه، الذي وعد والدته ألا يوفِّر جهدًا لتحقيقه، وهو أن يتعلَّم، رغم ظلال الحرب العالمية الثانية وأزماته الأسريَّة.
غير أن صاحبنا هزم الحرب والشدة، وحقق حلمه حتى أصبح يُعدُّ من بين أكبر كتَّاب إفريقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق