الخميس، 25 يوليو 2024

الغاشم الباطش المُنبطح

 الغاشم الباطش المُنبطح

شيرين عرفة

شيرين عرفة 
كاتبة صحفية وباحثة سياسية


أثناء احتفالية الدولة المصرية بذكرى ميلاد رسولنا الكريم (عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم) وذلك قبل يوم واحد من تاريخ حلول الذكرى، في 11 ربيع الأول عام 1439، الموافق 29 من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، انتهز الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” الفرصة، فأسهب في الحديث عن الأوضاع الأمنية في سيناء، وعن دور الدولة في مواجهتها.


حدث ذلك بالرغم من أننا أمام مناسبة دينية، تقدرها الشعوب المسلمة بشدة، وتمثل في وعيهم، حدثا سعيدا، يتذكرون به نبيهم وسيرته العطرة؛ إلا أن الرئيس الذي وصل إلى الحكم في بلاده عبر انقلاب عسكري، اعتاد أن تكون خطبه في تلك المناسبات الإسلامية ممتلئة بالأحاديث الغاضبة والعبارات المهددة والمتوعدة.


ليس أدل على ذلك من حديثه الشهير في احتفاله بالمولد النبوي الشريف عام 2015، الذي طالب فيه بثورة دينية للتخلص من النصوص التي تم تقديسها لقرون، واعتبرها سببا للتطرف والقتل والتدمير في العالم كله، وقال: “يعني الـ 1.7 مليار مسلم حيقتلوا الـدنيا كلها اللي يعيش فيها 7 مليار إنسان علشان يعيشوا هُمّا”.. 

في اتهام صريح لمسلمي العالم كله بأنهم السبب الأول للعنف والإرهاب، وهو اتهام عجيب لم يجرؤ على قوله “جورج بوش” قائد الغزو الأمريكي على العراق، الذي وصف غزوه بأنه حرب صليبية.


وفي تلك الاحتفالية، نجد السيسي يوجه حديثه إلى قائد أركان جيشه آنذاك، الفريق محمود فريد، ويطالبه بأن يستعيد الأمن في المحافظة المصرية، التي عانت من حوادث الإرهاب، قائلا: أنت مسؤول يا سيادة الفريق عن استعادة الأمن والاستقرار في سيناء خلال 3 شهور، أنت ووزارة الداخلية، وتستخدم فيها “كل القوة الغاشمة”، وكرر عبارته “كل القوة الغاشمة”.


لم يمر حديث السيسي مرور الكرام، فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالأحاديث المتعجبة والمستنكرة لتعبيره “القوة الغاشمة”، فالجملة تحمل دلالات بالغة العنف والسوء، لا تتلاءم مع طبيعة المناسبة التي قيلت فيها، ولا القضية التي ذكرت عنها. 

وقد جاء في قاموس “لسان العرب” عن معنى الْغَشْمُ: أي الظُّلْم، والرجل الغَشُومُ هو الظالم الذي يخبِطُ الناسَ ويأْخذُ كلَّ ما قدر عليه، ويقال للحرب غَشُوم؛ لأَنها تنالُ غيرَ الجاني.. و”القوة الغاشمة”- كمصطلح- عرفتها كتب القانون بأنها “القوة التي لا ترحم عدوها”.


وتساءل المصريون: هل التعامل مع القلق وأحداث العنف داخل حدود الوطن، يتطلب من الدولة أن تستخدم كل القوة الظالمة، والتي لا تميز بين مذنب وبريء؟ وهل هذا التصريح الخطير من أكبر مسؤول في الدولة يمثل دعوة للتنكيل بأهالي سيناء؟ وماذا عن استهداف المدنيين العزل منهم؟!.


سخر كثيرون من السيسي وقتها، وأطلقوا عليه اسم “الغشوم”، ولم تكن تلك هي الصفة الوحيدة التي وصم بها السيسي نفسه، فخلال افتتاحه مجموعة من المشروعات القومية في نطاق محافظة الإسكندرية، في 29 أغسطس/ آب 2020، توعد السيسي أصحاب المخالفات في البناء قائلا: “إحنا جبنا (أحضرنا) معدات هندسية تكفي إن الجيش ينزل على القرى دي يبيد ويشيل كل الكلام ده”!.. خلقت كلمة “إبادة” حالة من الصدمة لدى الشعب المصري، ظهرت في أحاديثهم وتعليقاتهم عبر مواقع التواصل، فتعجبوا من أن فعل الإبادة سيقوم به الجيش المصري، وسيوجهه ضد سكان القرى من المصريين، الذين جريمتهم كلها هي مخالفات في البناء.


لم يكتف بذلك الغاشم، الذي هدد المخالفين من شعبه بالإبادة، فأثناء احتفالية له في ذكرى انتصار مصر على العدو الإسرائيلي وتحرير سيناء في العاشر من رمضان، الذي وافق الأول من أبريل/ نيسان 2023، اجتمع السيسي مع قادة جيشه وقواته في سيناء، ثم تطرق مجددا للحديث عن الإرهاب، فتوعد قائلا: “أي حد هيرفع السلاح في وجه الدولة، ستتم مجابهته بمنتهى منتهى البطش، وكررها (منتهى البطش)” ثم أضاف: “أنا بكلمكم بصراحة، علشان كل الناس تسمع الكلام ده”. 

وفعل بَطَش يعني: أخذه عنفا وقهرا، وهو وصف شديد القسوة، استخدمه السيسي مجددا تجاه مواطني بلاده، الذين لا يرفعون السلاح في وجه أجهزتها الأمنية.


لكن الباطش الغاشم، الذي كثرت تهديداته وتحذيراته الدموية تجاه من يواجهون نظامه من المصريين، صاحب عبارة “اللي هيقرب من مصر هشيله من على وش الأرض”، يبدو أن له وجها آخر مختلفا تمام الاختلاف عن وجه ذلك العنيف القوي المتسلط الغشوم، الذي يواجه المصريين، وهو الوجه الذي يتعامل به مع الدول التي تمثل تهديدا حقيقيا لبلاده، وتشكل ضررا بالغا على أمنها القومي.


فمشهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو داخل معبر رفح، بتاريخ 18 من هذا الشهر، يوليو/ تموز 2024، أي بعد 10 أشهر من حربه الوحشية على قطاع غزة (عمق الأمن القومي المصري)، والتي صنفت كواحدة من أبشع حروب الإبادة في العصر الحديث، والصور التي طار بها الإعلام العبري والعالمي، لاجتماع نتنياهو مع إحدى فرق الجيش، وجلوسه على كرسي داخل أسوار المعبر، واضعا قدما فوق الأخرى، في تحدٍّ صارخ لسيادة مصر على حدودها ومعابرها، واعتداء صريح على أمنها وكرامتها، يُظهر لنا وجها آخر للنظام المصري، ورئيسه عبد الفتاح السيسي، وهو وجه ضعيف منهزم منبطح أمام الإسرائيليين.


هذا المشهد أعقب الاعتداءات المتواصلة لجيش الاحتلال على معبر رفح الحدودي، وسقوط قتلى من الجيش المصري نتيجة استهداف المعبر، والجدار الأسمنتي الذي بناه الجيش داخل أراضينا وعلى الحدود بيننا وبين فلسطين، وجاء بعد احتلال الجيش الإسرائيلي لمحور فيلادلفيا، وإعلانه الصريح عن سيطرته الكاملة عليه، في 7 يونيو/ حزيران 2024، والذي قضى به تماما على معاهدة “كامب ديفيد” للسلام، الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979، والملحق الأمني لها، الذي يُعرف باسم “اتفاق فيلادلفيا”، الموقّع في سبتمبر/ أيلول 2005، وهو ما أعقبته بيانات مصرية عديدة، تطالب إسرائيل بالانسحاب، وتعتبره تصعيدا خطيرا، وتلحّ عليها في ذلك.


بعد ذلك كله تأتي زيارة نتنياهو، فلا تواجه بردٍّ.. وكأن ذلك الباطش الغاشم على شعبه، هو المنبطح أمام أعداء بلاده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق