في رثاء هنية: فلسطين تودع قائدها
في اللقاء الأخير بيننا، ذهبت إليه معزياً باستشهاد أبنائه وأحفاده. وجدته مبتسماً مشرق الوجه كما عرفته دائماً. فسألته: "حتى وأنت في هذا الوضع تبتسم يا أبا العبد؟" قال لي: "أبتسم لأن الصفقة مع الله رابحة، ولأن العقد بيننا وبينه سبحانه وتعالى هو الجنة، وقد رزقها لأولادي وأسأله أن يكرمني بها." كان يرى في استشهاد أبنائه وأحفاده أوسمة شرف تزيده قوة وإصراراً على مواصلة الطريق.
فجر اليوم، استيقظ العالم الحر على صدمة خبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، القائد إسماعيل هنية. أول رئيس وزراء منتخب في فلسطين، ابن عسقلان اللاجئ إلى غزة، الطالب الحر ورئيس مجلس الطلبة في الجامعة الإسلامية، الأديب المفوّه، الأسير المحرر، المبعد العائد، الأمين على القضية، والمناضل الشجاع.
شاهده العالم وهو يجلس على رصيف معبر رفح البري بعد انتخابه رئيساً للوزراء عام 2006 حين رفض كل العروض الدولية التي قُدمت له للقبول بشروط الرباعية الدولية
إن فقدان قائد بحجم إسماعيل هنية يعيد إلى الأذهان محطات مفصلية في عمر الحركة الإسلامية في فلسطين، نستحضر ذكرى شهيد الفجر الشيخ أحمد ياسين والشهيد عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم من الأبطال الذين قدموا حياتهم فداءً للدين والوطن. إلا أن حدث شهادتهم لم يكن إلا دافعًا للمضي قدماً والاستمرار للدفاع عن المقدسات والنيل من الاحتلال.
هذه الجريمة تُشكل محطةً مؤلمةً في تاريخ النضال الفلسطيني، ونقطة تحول مهمة في سياق معركة طوفان الأقصى التي كان يقود هنية إدارة ملفها السياسي والتفاوضي، فقدنا بلا شك رمزاً وطنياً كان يمثل نقطة إجماع لدى المجموع الفلسطيني.
إسماعيل هنية، ابن قرية الجورة الفلسطينية المحتلة عام 1948 والمولود في معسكر الشاطئ للاجئين الفلسطينيين عام 1962، الرجل الذي نذر حياته لخدمة قضيته ووطنه، كان قائداً فذاً وبطلاً شامخاً. نشأ في أحضان المقاومة وتربى على مبادئ الجهاد والتضحية.
لن نعترف بإسرائيل ولن نقبل بشروط الرباعية الدولية، ولن نسلم سلاح المقاومة حتى لو أكلنا الزعتر والزيتون
- إسماعيل هنية
منذ شبابه، حيث اعتقل مرات عديدة لدى الاحتلال وشكلت محطة إبعاده إلى مرج الزهور عام 1992 نقطةً مهمةً في حياته جعلته كما كان يقول دائماً أكثر إصراراً على التمسك بفلسطين وطناً وقضية. كان يعلم أن طريق الحرية مليء بالأشواك والعقبات، ولكنه لم يتوانَ لحظة عن مواجهة هذه التحديات بشجاعة وإيمان عميق.
وقد شاهده العالم وهو يجلس على رصيف معبر رفح البري بعد انتخابه رئيساً للوزراء عام 2006 حين رفض كل العروض الدولية التي قُدمت له للقبول بشروط الرباعية الدولية، جلس على الرصيف ثم عاد إلى غزة ليعلن وسط شعبه مقولته المشهورة: "لن نعترف بإسرائيل ولن نقبل بشروط الرباعية الدولية، ولن نسلم سلاح المقاومة حتى لو أكلنا الزعتر والزيتون".
إن حياة إسماعيل هنية كانت مليئة بالصعاب والتحديات، فهو ابن عائلة لاجئة عاشت النزوح والفقر والحرمان في معسكر الشاطئ للاجئين الذي دمره الاحتلال بالكامل في هذه الحرب، ولكنه كان دائماً مثالاً للصمود والتحدي. ارتقى في صفوف حركة حماس حتى أصبح قائدها، ليس لأنه كان يبحث عن الزعامة، بل لأنه كان الأجدر بقيادتها في أحلك الظروف وأصعبها.
نودع هذا الرجل الاستثنائي في تاريخ القضية الفلسطينية، الشهيد إسماعيل هنية، يجب أن نستحضر أن استشهاده ليس نهاية الطريق، بل هي محطة متجددة لمسيرة المقاومة
كان يؤمن بأن دماء الشهداء هي الزرع الذي ينبت الحرية والكرامة، وأن المقاومة هي السبيل الوحيد للتحرر، وعلى يديه نضج الجهاز العسكري للحركة، كتائب القسام، وفي عهد قيادته للحركة في غزة، أنجزت حماس أول وأكبر صفقة تبادل للأسرى مع الاحتلال الإسرائيلي "وفاء الأحرار" عام 2011. وفي عهده كانت معركة سيف القدس التي شكلت بلا ريب غيم هذا الطوفان.
اليوم، ونحن نودع هذا الرجل الاستثنائي في تاريخ القضية الفلسطينية، الشهيد إسماعيل هنية، يجب أن نستحضر أن استشهاده ليس نهاية الطريق، بل هي محطة متجددة لمسيرة المقاومة، تماماً كما كان الحال بعد استشهاد العشرات من قادة المقاومة الفلسطينية أمثال الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبو علي مصطفى والمقادمة والشقاقي. كل هؤلاء القادة شكل رحيلهم حافزاً دافعاً لمشروع الجهاد والمقاومة في فلسطين.
واليوم نقول كما قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عندما استشهد أخوه مصعب: "إن يُقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتف أنوفنا ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف". نعم، رحل إسماعيل هنية، لكننا نؤمن بأن في فلسطين ألف إسماعيل، يحملون راية المقاومة، ولن يتراجعوا حتى تحقيق النصر والحرية.
لن ننسى كلماته، التي كانت تزرع في أمتنا الأمل والعزيمة: "لن ينالوا من عزيمتنا، وسنبقى ثابتين على طريق الجهاد حتى تحرير كل شبر من أرض فلسطين، لن نعترف بإسرائيل". هذه الكلمات ستظل نبراسًا للسائرين على ذات النهج، يسترشدون بها في كل خطوة يخطونها على طريق تحرير القدس والأقصى وكل فلسطين.
نعم، رحل إسماعيل هنية، لكن روحه ستظل حاضرة في كل ركن من أركان فلسطين، تضيء لنا الطريق، وتزرع فينا الأمل بالنصر والحرية. نستودعك الله يا أبا العبد، والسلام لروحك في الخالدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق