الجمعة، 26 يوليو 2024

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

 

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟ 



د. علي محمد الصلابي

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من حدود لحرية الإرادة التي منحها الله للإنسان، لكي يكون مسؤولاً عن معتقداته وتصرفاته. وقد فتح ذلك التساؤل الباب لكثيرٍ من الفرق الضالة والمنحرفة التي عبثت بأصول وأسس العقيدة الإسلامية، كفرق الجبرية والمرجئة وغيرهم.

ولكي نفهم أبعاد تلك المسألة وفق المنهج السليم في ضوء العقيدة الإسلامية الصحيحة، المستندة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا بد من فهم معنى الضلال أولاً. 
فالضلال: ضد الهدى، ويقال: أضللت بعيري إذا كان معقولاً فلم أهتدِ لمكانه، وضل عني: ضاع، وضللته: أُنسيته. ويقال لكل عُدول عن المنهج، عمداً أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً: ضلال، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً.

وإضلال الله للإنسان على وجهين:
أحدهما: سببه أن يضل الإنسان، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة.

الثاني: أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة تجعله إذا راعى طريقاً- محموداً  كان أو مذموماً- ألفه واستطابه، وتعسر عليه صرفه وانصرافه عنه.

وإن المقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه، وعدم توفيقه وإعانته، وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية، والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قِبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلّاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولّاهم ما تولّوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار.

ومن رحمة الله بعباده، أن ما يفعله الله عز وجل من إضلال بعض عباده بالطبع والغشاوة والختم وغير ذلك، لا يفعله بالعبد لأول وهلة حين يأمره بالإيمان ويبينه له، وإنما يفعله به بعد تكرار الدعوة له، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرار الإعراض منه، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوب هؤلاء العباد، ويختم عليهم، فلا يقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن معه ختم وطبع، بل كان اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. 
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إنَّ الَّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتَهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* ختم اللّهُ على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ} (البقرة: 6ـ 7).

حرية العبد في اختياره الهدى والضلال:
  • الأعمال يقوم بها الإنسان وفقاً لإرادته الحرة، واختياره ورضاه؛ فالإنسان كائن عاقل مدرِك مفكِّر، ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية الاختيار، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أنَّ اللَّه يسجد له من في السَّماوات ومن في الأرض والشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال والشَّجر والدَّوابُّ وكثيرٌ من النَّاس وكثيرٌ حَقَّ عليه العذاب وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فما له من مكرِمٍ إنَّ اللَّه يفعل ما يشاء} (الحج: 18) .

فهذه الكائنات جميعها لا حرية لها ولا اختيار، بينما الإنسان الذي يعمل بمحض إرادته الحرة ومشيئته المختارة، قد يطيع، وقد يعصي، وأكد القرآن أن الإنسان الذي تحمَّل الأمانة والتكليف، زوده الله بقِوى، وملكات، واستعدادات لتحقيق تلك الخلافة، ولأداء الأمانة، فخلق لديه الاستعداد للخير والشر، وللتقوى والفجور، والهدى والضلال، ومَنحه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ووهبه القدرة التي يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباطل، أن يأتي الخير، ويدع الشر، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهداية الإنسان، وإرشاده لمنهج الحق والخير، وجعل في الإنسان قوة ذاتية واعية مدركة، يمكن أن يستخدمها في تزكية النفس وتطهيرها، وتنمية استعداد الخير فيها وتغليبه على استعداد الشر، فيفلح الإنسان بهذا. وقد يظلم هذه القوة، ويغطيها، ويضعفها، فيخيب، قال تعالى: {قد أفلح مَن زكَّاها* وقد خاب مَن دسَّاها} (الشمس: 9 ـ 10).

وقد نطق القرآن الكريم، بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته، مثل قوله تعالى: {جَزاءً بما كانوا يعملون} (الأحقاف: 14). 
قال تعالى: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد} (فصلت : 46) . 
وقال تعالى: {كلُّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينةٌ} (المدثر: 38) .

وأثبت القرآن الكريم للعبد في آياته مشيئة الاختيار، فقال تعالى:
{إنَّا هديناه السَّبيل إمَّا شاكرًا وإمَّا كَفورًا} (الإنسان: 3). 
وهكذا، فإن الإنسان حرٌّ، ولقد زوده الله بالعقل والإرادة، يختار ما يراه من حق أو باطل، ويفعل ما يروق له من خير أو شر، فهو مزوَّد بوسائل الإدراك، يدرك ما في الأشياء من قيم ويحكم عليها ويختار، وهو بالخيار أن يسلك طريق الحق والخير فيكون شاكراً، أو يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل، فيكون كفوراً. فالإنسان حر في دائرة أعماله الاختيارية والمرتبطة بالتكليف والمسؤولية، وهذه الحرية يؤكدها ما يلي:

أ ـ واقع حياة الإنسان، الذي يشعر بالفرق الواضح بين الأعمال الاختيارية، وبين الأعمال التي تقع عليه اِضطراراً.

ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المسؤولية والتكليف لا بد أن يكونا منوطين باستطاعة الإنسان على الفعل أو الترك، لأن من لا يملك هذه الاستطاعة، فلا يصح عقلاً أن تتوجه إليه المسؤولية أصلاً.

ج ـ إضافة إلى ذلك، لو لم يكن الإنسان مختاراً، لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسيء، إذ إن كلّاً منهما مجبر على ما قاله، ولبطل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا فائدة لهما، حيث إن الإنسان مسلوب الإرادة، ولما كان ثمة معنى لتكليف الله للعباد؛ لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم يتنافى مع العدل الإلهي الذي أثبته لنفسه، بل لو كان الإنسان مجبراً على أفعاله، لضاعت فائدة القوانين، ولبطل معنى الجزاء من الثواب والعقاب.

د ـ قبل هذا كله، جاءت النصوص الشرعية تنسب العمل والاختيار إلى الإنسان، وما يكتسبه نتيجة لجهده، وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فَبِما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ} (الشورى: 30). 
وقال تعالى: {ظهر الفساد في البَرِّ والبحر بما كسبت أيدي النَّاس ليُذيقهم بعضَ الَّذي عملوا لعلَّهم يرجعون} (الروم: 41). 
وقال تعالى: {وَقلِ الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: 29). 
وقال تعالى: {لِمَن شاء منكم أن يستقيم} (التكوير: 28).

ولكن هذه المشيئة الإنسانية محدودة مرتبطة بمشيئة الله المطلقة، وتابعة لها، إذ إن الإنسان يعمل أعماله الاختيارية، ويمارس حريته في العمل داخل دائرة صغرى تقع ضمن دائرة كبرى، وهي نطاق النظام الكوني العام، إذ إن أعماله مهما كانت، واختياره مهما كان، خيراً أم شراً، حقاً أم باطلاً، لن يخرج في أدائه الأخير عن السنن الكونية التي وضعها الله في الكون، وتقوم عليها قوانين الحياة البشرية {لِمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاؤون إلَّا أن يشاء اللَّه ربُّ العالمين} (التكوير: 28 – 29).

فمشيئة الناس ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل إن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين؛ طريق الهداية، أو طريق الضلال، فإن اختار الطريق الأول، ففي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا اختار الثاني ففي نطاقها أيضاً .

المراجع:

1. الإيمان بالقدر، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت.

2. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ص(11/ 484)

3. الحسنة والسيئة، لابن تيمية، ص 94ـ 95.

4. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، ص 173، 196، 209.

5. العقيدة الإسلامية، د. أحمد محمد جيلي، ص 363- 365.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق