عن القادة الشهداء وأمنياتهم
في غزوة مؤتة عندما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودّعوا أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد هؤلاء الأمراء، عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: “وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا” فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟!
هكذا هم القادة قرآنيّون؛ يعيشون مع آيات الله تعالى بجوارحهم وقلوبهم وأرواحهم في أحوالهم كلّها في الحلّ والترحال؛ في الأمن والخوف والطمأنينة والخوف.
فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال هذا القائد عبد الله بن رواحة:
لكِنَّني أَسأَلُ الرَحمَنَ مَغفِرَةً
وَضَربَةً ذاتَ فَرغٍ تَقذِفُ الزَبَدا
أَو طَعنَةً بِيَدَي حَرّانَ مُجهِزَةً
بِحَربَةٍ تُنفِذُ الأَحشاءَ وَالكَبِدا
حَتّى يُقالَ إِذا مَرّوا عَلى جَدَثي
أَرشَدَهُ اللَهُ مِن غازٍ وَقَد رَشَدا
إنّها أمنيات القادة الحقيقيّين؛ شهادة في سبيل الله تعالى وخاتمة في ساحات الوغى وأشلاء تتناثر في سبيل الله تعالى.
أمنية القائد لم تكن نياشين يزيّن بها صدره، ولا استعراض بطولاتٍ وهميّة وصناعة انتصاراتٍ خُلّبية، كانت أمنيته نجاةً من النّار يوم القيامة، وشهادةً في الدّنيا على وجه يحقّق فيه نكايةَ أعدائه، وهذا هو الرّشد الحقيقيّ في نظر ابن رواحة، وما أعظمه من رشد!
ولما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم: جمع هرقل لهم أكثر من مئة ألف مقاتل من الروم، وجمع شرحبيل بن عمرو مئة ألف مقاتل آخر من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء.
وسمع المسلمون بذلك فأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا. فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال لهم: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور أو شهادة.
وهكذا هم القادة في الأزمات الكبرى؛ رباطة جأش، ووضوح طريق، وخطاب رزين، وعقيدة راسخة، ورفع للمعنويات، وتثبيت للناس، وقيادتهم إلى المعالي.
وعندما احتدم اللقاء واستشهد القائد الأول زيد بن حارثة رضي الله عنه ثم استشهد القائد الثاني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أخذ اللواء القائد الثالث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وانطلق يرتجز قائلا:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه
لتنزلن أو لتكرهنّه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنّة
قد طال ما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنّة
ولم يزل يقاتل مخترقًا الصفوف لا يهاب موتًا ولا يحجم ولا يتردد حتى استشهد رضي الله عنه، وهكذا هم القادة الشهداء؛ خاتمة الشهادة هي مكافأة نهاية الخدمة التي يستحقونها بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء.
واليوم تنحسرُ اللّغةُ أمام الدّم، وتجثو البلاغة أمام القادة الشّهداء، وتتلفّع الكلمات بالصّمت الحييّ أمام هيبةِ البطولة الفذّة الخاتمة المهيبة للقائد الشهيد إسماعيل هنيّة “أبو العبد” الذي سار على نهج عبدالله بن رواحة رضي الله عنه في الحياة مع القرآن وتثبيت الناس في المعركة والختم له بالشهادة في سبيل الله تعالى.
ماذا عساها تنفعُ الكلماتُ أمام حرارة الدّم المنساب على الأرض شاهدَ عدلٍ لا يُكذَّب، وماحلًا مُصَدَّقًا؟
لكنّها ـ أي الكلمات ـ زادُ الطّالبين، ومنارة المسترشدين، ودليل الحيارى الذي يفصح عن رسائل الدّم، وتوضّح السّبيل فالكلمة صنو الدّم يناديان معًا: من هنا الطّريق.
وفي هذا اليوم الذي يفوح مسك الّشهادة في أنحاء فلسطين من القائد “أبو العبد” ومعه كل شهداء غزة الذين يغادرون هذه الدّنيا تاركَين وراءهم الكثير من الدّروس والرّسائل؛ فطوبى لمن التقطها، وطوبى لمن اتّخذهما معلّمًا، وطوبى لمن ثنى ركبتيه أمامهم متعلمًا من الدم المهيب؛ وأكرم بالدم من معلّم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق