عاد الاهتمام في العالم العربي بالانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد قرار بايدن التنحي، وظهور فرصة للتغيير في الموقف الأمريكي مع مرشح ديمقراطي جديد بدلا من الرئيس الذي تفاخر بأنه صهيوني، وقدم كل الدعم للعدوان على غزة ووفر الحماية بالفيتو للاحتلال في مجلس الأمن والمنظمات الدولية، وشارك عسكريا بالأسلحة والقنابل وإرسال الأساطيل لضمان استمرار المجازر ضد الفلسطينيين.
كان تطابق سياسة الحزبين الديمقراطي والجمهوري اتجاه حرب الإبادة الجارية وتأييد الإسرائيليين سببا في حالة العزوف عن متابعة المنافسة بين بايدن وترامب، فكلاهما لا يضمر الخير للفلسطينيين، وكلاهما يؤيد الإبادة، وحتى عندما أصيب ترامب برصاصة في أذنه وهو بين جمهوره الانتخابي لم يحظ الحدث بالإثارة والاهتمام الذي يلازم دائما مثل هذه الحوادث السياسية.
ساهم في حالة اليأس من الموقف الأمريكي اتجاه غزة استمرار نتنياهو وحكومته في مواصلة جرائم الحرب، والفظائع في كل القطاع شمالا وجنوبا وفي مخيمات النازحين منذ اجتياح رفح، بدون أي انتقاد أو إدانة أمريكية رسمية حتى ولو شكلية، بل جرى استئناف إمداد الاحتلال بالقنابل بكل أنواعها، بعد فترة توقف لم تدم طويلا لإرضاء المعارضين للحرب في الحزب الديمقراطي.
ولكن بعد تنحي بايدن تجددت التوقعات بقدوم مرشح جديد يعلم أنه لن يتمكن من منافسة ترامب بدون الحصول على دعم الأمريكيين المسلمين والرافضين للحرب من السود والبيض والملونين ومن اليهود الرافضين للصهيونية، وهذا اللوبي المناصر لغزة أصبح قوة انتخابية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وقد أثبتت الانتخابات التي جرت مؤخرا في بريطانيا وفرنسا كيف أن غزة أسقطت الحزبين الحاكمين المؤيدين للحرب وأحدثت تغييرات كبيرة في التشكيلة البرلمانية.
غزة حاضرة بقوة
يستخدم الإعلام الأمريكي سياسة الإلهاء، ويركز على القضايا المحلية وتبادل الاتهامات بين المرشحين وتناول العيوب الشخصية، وتشتيت الرأي العام الأمريكي بعيدا عن غزة وجرائم الحرب التي ترتكب فيها بالدعم والسلاح الأمريكي، وحتى عندما يتناولون السياسة الخارجية يتحدثون عن التهديدات التي تمثلها الصين وروسيا وإيران ولا يعطون غزة حقها، وإذا اضطروا إلى الحديث عن القضية الفلسطينية يطرحون فكرة “حل الدولتين” بشرط القضاء على حماس أولا، ويطالبون العرب بالقيام بالمهمة!
رغم هذا التجاهل المتعمد أثبتت غزة أنها حاضرة بقوة، فالرئيس بايدن لو استمر في السباق الرئاسي لسقط سقوطا مدويا بسبب موقفه من غزة، وقد ظهر هذا في موقف أعضاء الحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان في بداية العام الجاري عندما أعلن 100 ألف عضو امتناعهم عن تأييد بايدن في الانتخابات، وهذا الموقف كان سببا في محاولة تحسين موقفه نسبيا -لبعض الوقت- بإنزال المساعدات من الجو في مشاهد تمثيلية مفضوحة، وفي إنشاء الرصيف العائم الذي تم استغلاله فيما بعد في تدعيم الاحتلال حتى تم تفكيكه.
طلاب الجامعات الأمريكية والدور المنتظر
وجهت حركة الجامعات الأمريكية ضربات موجعة للوبي الصهيوني، وخرجت عن السيطرة رغم كل محاولات القمع والتضييق، وفشلت السلطات الأمريكية في تشويه مناهضي الحرب كما فشل أعضاء الكونغرس في سن قوانين لتجريم مؤيدي فلسطين، وأحدثت الاعتصامات الطلابية تغييرا واسعا في المجتمع الأمريكي ظهر في المسيرات الضخمة في المدن الكبرى التي تذكر باحتجاجات حرب فيتنام، وانضم إليها أساتذة الجامعات والمشاهير من كل الأديان والألوان.
هذه الحركة الواسعة لا يمكن قياس قوتها الآن بمعايير واضحة، ولن يكون التعبير عنها واضحا لو استمر بايدن أمام ترمب، فمعظمهم كان سيقاطع الانتخابات، ولكن مع غياب بايدن تجددت الآمال بإعلان مواقفهم الرافضة للإبادة في الصندوق الانتخابي في التصويت القادم، وستذهب أصواتهم إلى المرشح الديمقراطي إذا أعلن نيته لوقف الحرب، ولصالح المرشحين للكونغرس الذين يناصرون فلسطين، وسيصوتون ضد المرشحين المدعومين من اللوبي الصهيوني المؤيدين لاستمرار العدوان.
يحاول اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة توجيه الرأي العام باستطلاعات الرأي الموجهة التي تتجاهل غزة، ولكن كما نجحت الحركات المناهضة للعدوان الإسرائيلي في أوروبا في تغيير نتائج الانتخابات في بريطانيا وفرنسا فستؤدي الحركة المؤيدة لفلسطين في أمريكا دورا مؤثرا في وضع نهاية لصنم اللوبي الإسرائيلي (عجل السامري) الذي يعبده الساسة الأمريكيون من الحزبين، وستظهر حركة شعبية جديدة تؤكد أن الأصوات لا يحتكرها لوبي المال الصهيوني.
غزة الصامدة تغير العالم
قد يبدو لنتنياهو أن تنحي بايدن وخروجه من السباق وانشغال الأمريكيين بالانتخابات يفيد خطط الاحتلال لتدمير ما بقي من القطاع، ويبرر له الاستمرار في القصف المدفعي والجوي والبحري لتسوية غزة بالأرض حتى لا تكون صالحة للحياة، لكنه لا يدري أنه يشعل نارا لا يراها، وستظل حرب غزة هي أهم قضية في الانتخابات الأمريكية رغم أنف الإسرائيليين، فهي قضية الإنسانية الآن، وعلى أساسها سيكون التصويت للرئيس الجديد وأعضاء الكونغرس.
الحقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي لا يمكنه العيش والاستقرار الآمن إلا بالدعم الأمريكي والتطبيع مع الدول العربية، ولولا المقاومة الفلسطينية والمساندة العربية في المحافل الدولية لسيطر الإسرائيليون على كل فلسطين منذ البداية، وعندما كان العرب يدعمون الحق الفلسطيني -ولو بالتصريحات والمواقف المعلنة- كان الأمريكي يضغط على الإسرائيلي ويجبره على تخفيف جرائمه مراعاة لمصالحه، ولكن عندما تخلى قادة الدول العربية انفرد الأمريكي والإسرائيلي بالشعب الفلسطيني ومقاومته.
لا نعول كثيرا على الموقف الأمريكي، ولا ننتظر تخليا عن مساندة الاحتلال، أو انحيازا للحق والعدل ووقف الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، لكن الخذلان وحالة الهزيمة الاستراتيجية للعالم العربي تجعلنا نبحث عن أي تغيير في المعسكر الآخر، ودورنا هو تشجيع المسلمين وأصحاب الضمائر الحية ومن لم تتلوث عقولهم وقلوبهم بالفيروس الصهيوني لتوحيد الجهود للقيام بدورهم لوقف العدوان، ووضع نهاية للجنون وإعادة العالم لإنسانيته.
نثق فقط في نصر الله وقدرته، وفي السيرة النبوية مواقف مشابهة، مثل غزوة الأحزاب؛ فرغم المعاناة والحصار انتهت المعركة بنصر مبين، حيث دب الخلاف والانقسام في المعسكر المعادي، ثم جاءت الريح العاتية وكنست من بقي، وما أشبه الليلة بالبارحة! فها نحن نرى المعجزات الربانية في غزة وثباتها وصمود أهلها، والتحولات الكبرى في العالم الذي استيقظ مفزوعا من جرائم مروعة يرتكبها من كانوا يزعمون أنهم ضحايا المحرقة النازية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق