السبت، 27 يوليو 2024

رسالة إلى نساء غزة.. وحدهن وكلهنّ!

رسالة إلى نساء غزة.. وحدهن وكلهنّ!



 يوسف الدموكي

قد تبدو عبارة “المرأة نصف المجتمع” مستهلكةً في المعارك النسوية الذكورية أيامَ الفراغ البائدة، إذ لا شاغل للناس إلا المفاضلة بين الجنسين، ومن يستطيع العيش من دون الآخر ومن لا يستطيع، حين كان الجدال رفاهية، والتفاهة خيارًا يتخذه العاقلون أنفسهم أحيانًا من باب التسلية، لكنني اليوم أزعم -دون عودة لتلك السجالات- أن “المرأة في غزة هي كل المجتمع”، في زمن الحرب ذاك.


تجلس المرأة الغزيّة في بيتها، ثلاثين عامًا، تربّي أولادها، منذ نعومة أظفارهم، على أن المصنع الحقيقي للرجال ليس أحضان أمهاتهم، وإنما هو حضن الأرض نفسها التي يقفون فوقها، وهو حضن محراب المسجد الذي يعلّمهم أن تلك السيدة التي ولدتهم وأنفقت عمرها لأجلهم ليست أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وأن الدنيا بما حوت من مغانم ومغارم لا تساوي شيئًا أمام صولة في سبيل الله وجولة ترد بها حقوق الأوطان وينافَح بها عن مسرى النبي وقبلة المسلمين الأولى، وأهل فلسطين المكلومة.


يكبر الولد، فتودعه كل صباحٍ بحضنٍ مكتوم العَبرة، تحاول أن تشد بأسه بأن تطوي الفيضان في عينيها وتحجزه عنه، وتصنع من جفنيها الرطبين سدًّا منيعًا متحجرًا تنحبس خلفه سيول جارفة من معين الدمع، وهي لم تعثر على ابنها في مسابقة، ولم ينزل فجأةً من السماء إلى بيتها، ولا تملك منه ألف قطعة، ليس عبوة عطر، ولا أداة طبخ، ولا دميةً من شعر وقطن، وإنما ولد عزيز حبيب قريب بار كريم، من لحمٍ ودم، من قلب وعقل، من قبلة وحضن، من ضحكة ونكتة، من فرحة وعتاب، ابنٌ كامل كهذا الذي يقرأ المقال الآن بالنسبة لأبويه، أو ابن قارئة هذا المقال بالنسبة لها، لا فرق أبدًا، لا فرق إطلاقًا.


هي ذاتها الأم التي يخرج رجلها إلى مصرعه، والأصل أنه خرج ليبحث عن لقمة خبز أو جرة ماء، لكنه قد يعود -وذلك احتمال ضعيف-، وقد لا يعود -وهذا احتمال تؤكده كل أرامل الحارة-، فتأخذ مكانه، وتعمل عمله، وترعى من بعده الذين تركهم في رقبتها، ضعافًا مساكين أيتاما، وهي بعدُ لم تخلع الأسود، ولم تزل أثر القبلة الأخيرة لها في جبهته تراوح ثغرها، وهي للتوّ دفنته بيديها، وبحثت عما تطاير منه بأم عينيها، لتعود بعد تلك المذبحة الشخصية للغاية، تلك الكربلاء التي تخصها وحدها، تغزل الصبر من لحمها من جديد، تُلبسه قلوبَ الصغار، وتطعمهم “صبرًا” آخر، بينما تمضغ الشوك بين أسنانها.


وفي النزوح، بين عشرين نزوحًا يضطر إليه الغزيون تحت الغارات والقصف ونيران الأحزمة النارية، تحمل المرأة الغزية ضعفي وزنها، وتسحب عشرين طفلًا من العائلة، وتمضي بهم بين صفين من الدبابات والجنود، يُقتل بجوارها من يُقتل، وتتطاير أشلاء من يُذبح، ويؤسر أمام عينيها من يؤسر، ولا تميل بعينيها ميلةً واحدة، حتى لا تلفت نظر عدو نجس، يمكنه أن يتسلى بالطريقة التي تعجبه، قبل أن تأتيه ذات يوم طلقة الثأر التي لن تعجبه، فتستمر كأنها جماد، والحقيقة أن بداخلها بركانًا لو ثار لأغرق ألف مدينة كغزة بالحمم لألف عام دون انطفاء.


تلك السيدة نفسها هي التي لا تملك رفاهية البكاء ولا التوقف لحظةً لاستيعاب الفاجعة، وهي الرقيقة المكرمة ابنة الأكرمين، التي كانت تبكيها كلمة، وتسيل دموعها عبارة غير مقصودة من زوج متعجل على عمله، وتؤثر بقلبها “حردة” ابنتها حين تختلفان في جلسة غداء، لكنها اليوم لا تستطيع أن تبكي ولو على تقطيع بصل -إن وجدت الواحدة منه في السوق بعشرة شيكل-، حتى لا يظنها الأولاد ضعفت، فيتسلل اليأس إلى نفوسهم.


تقول جداتنا إن “الشاطرة تغزل برجل حمار”، لم يكنّ يعلمن ما تغزل به نساء غزة اليوم، حتى رجل الحمار تعتبر ترقيًّا اجتماعيا وترفًا عن بقية الجيران في الخيمة، فتصنع من ورق الشجر محشي أو “دوالي”، وتطهو من صدف البحر وجبة “سي فود”، وتصنع من الماء المالح عصيرًا كالعلقم -لكن أي شيء يسد الرمق-، وتحاول أن ترقّع مما تبقى من ثياب ثوبًا جديدًا بالكامل لرضيعةٍ أكلت الشمسُ جسمها، وتوغلت الرمال بثنايا جلدها الصغيرة.


تلك السيدة نفسها، التي تقف في طابور المياه والطعام والوقود، تجول بالسوق بحثًا عن علبة واحدة تُطعم بها عشرة أطفال، وخمس نساء، وعشرة عابرين سيمرون بالصدفة على وقت الطعام، بينما يفوح مزيج رائحتين؛ “بيف” المعلبات، و”صاج” المعلبات نفسها، ذلك المعدن، الذي يكاد الغزيون يقضمون قطعه الحادة بين وجباتهم النادرة، ليصابوا بالكبد الوبائي، وأوبئة أخرى غريبة لم تزر القطاع منذ مائتي عام على الأقل.


تلك السيدة هي كل ما يملكه ذلك الرجل في غزة، الرجل المقاتل، أو الرجل العائل، الرجل الذي يستند إليها فلا يصبّره على الحرب سواها، والرجل الذي إن غادرته واختارها الصاروخ وتركه شعر بانكسار ظهره كأن التي ماتت نفسه، بينما يواصل الجسم الحركة في فلك أوتوماتيكي دون إرادة، ولا صبر، وهي ليست عمود خيمته التي شدّها من النايلون والقماش البالي، وإنما هي الخيمة نفسها، ترحل عنه، فيبقى مجردًا مكشوفًا يأكل الطير من رأسه، حتى يجنّ جنونه وتخور قواه!


المرأة الغزية هي تلك الشجاعة الجسورة المغوارة، الجريحة الشهيدة، الطبيبة المطيبة، الحكيمة الحكيمة، المجاهدة المرابطة، الصابرة المصبّرة، المقاوِمة المربية، المناضلة المكافحة، التي تحمل غزة فوق كتفيها، وتحمل أرواح رجالها في حضنها الفسيح، تقبل أبناءها وهي تودعهم الثرى، وتلد غيرهم في الصباح لتوصلهم الثريا، بين وداع واستقبال، ونزوح واستبسال، ووقوف في وجه عدو لا يعترف العالم إلا بنسائه وحدهن، بينما تلزم الغريّة ثغر الشرف المتبقي في هذه الأرض، تحرس الشمس من الخطف، وتخبّئ القمر من الاغتيال، وتبتلع كل غارة وغارة، ولا تذرف دمعةً واحدة!


تلك العيون ليست محاجر، وهذي الدموع ليست ثلوجًا، وهذه المرأة ليست من حديد وركام، وإنما امرأة طبيعية جدا، تبكي كمريم، وتدثّر كخديجة، وتنشج كزينب، وتودّع كفاطمة، وتقاتل كخولة، وتطبب كرفيدة، وتحتفظ تحت عينيها الجاحظتين الذاهلتين العذبتين المعذبتين، بطوفانٍ -لم يجرِ بعد- من بكاء لن يسعه أن يخلق الله لغزة بحرًا آخر من الشرق، ولا نهرًا من الشمال، وإنما هي دموع لن تكفكفها إلا يد رسول الله في الجنة!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق