الجمعة، 25 أكتوبر 2024

هل نستحقّ أسماءنا العربية؟

 هل نستحقّ أسماءنا العربية؟ 

وائل فنديل

ينبثق الدم من وجه الطفل المقيد في سرير المستشفى المحاصر، وحوله يقف طبيبٌ هو مشروع شهيد، إذ يتلقّى في اللحظة التي يحاول فيها وقف نزيف الطفل إنذاراً بإخلاء المكان وتسليم نفسه، فيما ينقل المأساة كلها صحافيون يرسلون الخبر بيد ويتسلمون تهديداً بالقتل باليد الأخرى. في الشوارع المحيطة بالمستشفى لا تعرف الطفلة الصغيرة إن كان الدم السائل على قدمها هو نزف جرحها أم دم مئات من جثث الشهداء المكدّسة في طريق تسير فيها إلى المجهول.

كل ما تعرفه الطفلة أن قدمها تؤلمها فتصرخ وتنتحب هائمة على وجهها في دروب غزّة المهدمة، من دون أهلها الذين ربما يكونون في عداد الجثث التي يكابد النازحون المهجّرون إجباريّاً كي لا يدوسونها بأقدامهم.

كل المستشفيات محاصرة، كل الأطبّاء مهدّدون بالقتل، كل الصحافيين متهمون بالإرهاب، كل المباني أهداف لآلة الحرب، لا شيء في شمال غزّة سوى هدير القذائف وأزيز الطائرات المقاتلة وضجيج الجرافات تكنس البيوت والمدارس ومقرات النزوح والبشر، كل أركان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مكتملة، لكن كل العالم متواطئ مع الجريمة، وكل الأشقاء الذين يصرخ الضحايا مستغيثين بهم فرّوا من الأخوة، وتفلتوا من النخوة، واستقالوا من الرجولة، بين مدّعٍ العجز وعاجز ومتوافق مع المذبحة بانتظار تحصيل فواتير السكوت.

الساكتون المتقاعسون تواطؤًاً وتكسبّاً معلومون للكافة، هم الذين يشاركون في حصار الضحايا، الأحياء منهم والشهداء، ويضبطون حركتهم على حركة العدو، فإن اشتدّت وتيرته في هدم المستشفيات والبيوت والمساجد، تصاعدت حربهم على الأحياء والموتى في مجتمعاتهم، فيشتدّ سعار الاعتقالات والبطش والقمع، بالتزامن مع اشتداد أعمال الهدم لما تبقّى من آثار شاهدةٌ على تاريخ الأمة في أزمنة بعينها، فيقصفون القباب وينسفون المقابر الأثرية، ويصنعون جغرافيا جديدة، تماما كما يفعل المحتل في غزّة وجنوب لبنان، وتكتشف أن عمليات قضم الأراضي لتوسيع الحدود تجري بوتيرة واحدة في شمال غزّة وجنوب لبنان وكورنيش النيل بالقاهرة، حتى صيغة أوامر الإخلاء تكاد تكون واحدة، لا فرق بين مقرّات نادي القضاة وأندية أعضاء هيئة التدريس في مصر، وبين مباني غزة والضاحية الجنوبية. في هذه الأجواء، يحضر وزير خارجية أميركا، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة، مبتدئاً جولته من الكيان الصهيوني، حيث احتفل باغتيال الشهيد يحيى السنوار، وجدّد ولاءه للحلم الإسرائيلي بقيادة الشرق الأوسط، ووضع مع قيادات الاحتلال اللمسات الأخيرة على جغرافيا المنطقة، ثم انتقل حاملاً الخرائط إلى العواصم العربية، لرص الصفوف بمواجهة إيران، وهو الأمر الذي لا توجد ترجمة له سوى الاصطفاف مع إسرائيل.

كان نتنياهو في كل زيارة من زيارات بلينكن التسع الماضية يزداد وقاحة وغطرسة، أما في المرّة العاشرة فقد قرّر الوزير الأميركي، المعتز بصهيونيته، أن يفعلها بنفسه، ويتواقح على نحو يتفوّق به على نتنياهو، متصوّراً أن ملك الشرق الأوسط قد دان لهما بعد استشهاد السنوار وحسن نصر الله، وقد جاءت اللحظة لتكون زياراته عواصم العرب من أجل إصدار التوجيهات، لا إجراء المفاوضات. و منذ العام الماضي، وبلينكن يردّد في كل المحافل أن مهمّة إعادة هندسة الشرق الأوسط قد بدأت، أعلن ذلك في منتدى ميونخ للأمن، في العام الماضي، وكرّره في حوار على شاشة الجزيرة، وملخّصه أن العرب وإسرائيل يجتمعون على هدف إنهاء عصر المقاومة ودمج الكيان في المنطقة، جغرافيًا وسياسيًا، هذا هو المشروع الأميركي الإسرائيلي المعلن منذ عشرين عاماً بالتقريب، وبالتحديد مع حرب العام 2006 حيث أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، وبعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان، أن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب، وتلك كانت عقيدة المحافظين الأميركيين الجدد الذين تشربوا مبدأ الانحياز الأعمى للحلم، أو الوهم الصهيونى في الهيمنة على الشرق الأوسط وامتلاك إدارته.

كان ذلك، أيضاً، حاضراً في خطط الجنرالات القدامي، وكما كشف الكاتب البريطاني جوناثان كوك في كتابه "إسرائيل وصراع الحضارات" فقد روى القائد السابق لحلف شمال الأطلسي، ويسلي كلارك في عام 2007، عن اجتماع عقد في البنتاغون بعد وقت قصير من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان. وقال له أحد الضباط: "سنهاجم وندمر الحكومات في سبع دول في غضون خمس سنوات. سنبدأ بالعراق، ثم سننتقل إلى سورية ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران".

وأضاف كلارك عن المحافظين الجدد: "أرادوا منا زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وقلبه رأساً على عقب، وإخضاعه لسيطرتنا". ذلك عينه ما جاء به بلينكن، مبتسمًا وضاحكًا بنشوة بالغة وهو يلاقي استقبالات باذخة في العواصم العربية، بينما صراخ الأطفال النازحين إلى اللا مكان في دروب غزّة يكاد لا يصل إلى مسامعنا، ونحن غارقون في حروب كرة القدم، وفي مهرجانات الترفيه، وكأن قوة جبارة قد قطعت طريق الخجل إلى مشاعرنا، فلم نعد نحس بأن نومنا وأكلنا وشربنا رفاهية مستفزة لا نستحقها..بل صرنا لا نستحق أسماءنا..ولا ندرك أننا، بعجزنا، أشد تنكيلاً بهم من عدوهم وعدونا.

أفضل ما يفعله جنرالات القتل والإبادة أن يأمروا بنزوحنا عن أسمائنا العربية، فنحن لم نعد جديرين بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق