حين رحل السنوار.. البطل صاحب الأريكة
شيرين عرفة
كاتبة صحفية وباحثة سياسية
في السادس من يونيو/ حزيران عام 2021 نشرت “هآرتس” العبرية تقريرا بعنوان: “ابتسامة السنوار تقول كل شيء”، سلطت فيه الصحيفة الإسرائيلية الضوء على مشهد قائد حركة حماس “يحيى السنوار”، وهو يجلس على أريكة فوق ركام منزله المدمر، والرسالة التي تضمنتها.
كتبت الصحيفة: “على الرغم من اعتراض غالبية صواريخ غزة واستهداف حماس، فإن صورة السنوار وهو يبتسم ستظل مقابل تلك الإنجازات”. وأضافت: “إن صورته هذه توجه رسالة واضحة وبصوت عالٍ، مفادها أننا ما دمنا جالسين فوق أرض غزة فمعناه أن إسرائيل لم تهزمنا على الإطلاق، وهناك جولة أخرى بالتأكيد، تعقبها جولات”.
وقد جاءت صورة السنوار الأيقونية تلك، والتي اعتبرتها صحيفة عبرية سببا في إطفاء نشوة الإسرائيليين بما أحرزوه في تلك الحرب من انتصارات، بعد أن نفذت إسرائيل عملية هجوم صاروخي بالطيران على قطاع غزة، في 10 مايو/ أيَّار من عام 2021، وأطلقت عليها اسم عملية “حارس الأسوار”، بينما أسمتها المقاومة الفلسطينية معركة “سيف القدس”. وقد اندلعت مواجهاتها كنتيجة للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على مدينة القدس، وانتهاكاتها بحق المسجد الأقصى الشريف.
فقد حذرت حركة حماس آنذاك الجيش الإسرائيلي بأن لديه ساعة للخروج من المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وإلَّا ستندلع الحرب.. ومع انتهاء المهلة في تمام الساعة السادسة مساءً بدأت المقاومة الفلسطينيّة بإطلاق الصواريخ، على شكل رشقات صاروخية مكثفة على المدن المحتلة، فنفذت القوات الجوية الإسرائيلية على إثرها قصفًا وحشيًّا على قطاع غزة، وقُتِل أكثر من 200 فلسطيني، كما قُتِل أكثر من 13 إسرائيليًّا في الحرب التي انتهت بهدنة في 21 مايو/ أيّار من عام 2021م.
ولم يمر سوى عامين وحسب على تلك الصورة المذهلة لقائد حماس، حتى شهدت الدنيا أقوى عملية كوماندوز مسجلة في العصر الحديث، وأكبر هجوم عسكري شنته المقاومة الفلسطينية على إسرائيل، وقد رآه محللون أثقل هزيمة استراتيجية تلقتها دولة الاحتلال منذ نشأتها، تمثلت في عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، وقد شملت هجومًا بريًّا وبحريًّا وجويًّا، وتسللًا للمقاومين إلى غلاف غزة، ومهاجمة عدة مستوطنات.
وبعد كسر هيبة الجيش الإسرائيلي، الذي يزعم أنه الأقوى في المنطقة، ولمحاولة استعادة قوة الردع الذي انهار، وللتغطية على المشاهد الأسطورية لنجاح المقاومة في التسلل وأسر ما يزيد عن مئتي أسير، جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي الأطول والأكثر عنفًا وإجرامًا ووحشية في تاريخ إسرائيل، والمتواصلة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، متجاوزة بذلك الـعام، ووُصفت بأنها الأكثر تدميرًا وسفكًا للدماء في تاريخ فلسطين والمنطقة.
هذه الحرب سبقتها من قبل 6 حروب أخرى أشعلتها إسرائيل منذ إعلانها في عام 2005 الانسحاب من القطاع؛ خمسة منها قادها نتنياهو، لكن يبدو أن الحرب الحالية ستكون هي المشهد قبل الأخير في قصة تحرير فلسطين.. وكسائر حروب قطاع غزة السابقة، كان السبب الأول لها هو انتهاكات إسرائيل بحق المسجد الأقصى، ورغبة حماس في الدفاع عن المقدسات.
وعلى الرغم من الدعم التاريخي الذي حظيت به دولة الكيان، حين أعلن تحالف من أكبر وأقوى دول العالم، تتزعمه أمريكا، انضمامه إلى حرب موجهة ضد ميليشيا عسكرية تعدادها بالآلاف، ومتواجدة داخل رقعة جغرافية صغيرة للغاية، ومكشوفة ومحاصرة منذ سنوات، ومشاركتهم بالسلاح، والدعم الاستخباراتي واللوجيستي، والتمويل اللامحدود، وكذلك بالقوات. كما تتواطأ معهم وتساندهم كافة الحكومات العميلة لدول الإخوة في محيطها والجوار، ويُضاف إلى ذلك صمت عالمي وتخاذل مشين، في حرب بدت وكأن كوكب الأرض قد اجتمع بأكمله فيها على قتال حماس.
ومع هذا شاهدنا بأعيننا بطولات للمقاومة الفلسطينية، يعجز العقل عن استيعابها، ولو رُويت لنا في كتب التاريخ ما صدقناها، مع ثبات وشجاعة لكامل سكان القطاع.. ملحمة تُكتب بماء الذهب، وعنوانها الأبرز هو الإيمان والتسليم بقضاء الله، في مشاهد كانت تُبث يوميًّا، فتنوعت ردود الفعل الشعبية تجاهها ما بين غضب، وحزن على أناس تعرضوا لظلم وصل إلى أقصى مداه، وبين إعجاب وانبهار بهذا اليقين والتمسك بالأرض، الذي جعل الـ2.2 مليون فلسطيني، هم سكان القطاع، يتحملون المذابح الوحشية والقتل والقصف والحرق طوال عام كامل، وعلى مدار الساعة، على ألا يتركوا أرضهم، ولم يقبلوا الهجرة منها إلى أي مكان آخر يحظون فيه بالأمان، وقد نتج عن هذا التعاطف أوسع موجة عالمية لاعتناق دين الإسلام.
وقد توقف العالم مؤخرًا أمام مشهد أيقوني، ستحتاج هوليود- عقب التخلص من القبضة الصهيونية عليها- أن تصنع أفلاما سينمائية وأعمالا وثائقية ترصد فيها تلك الأحداث.. حيث أعلنت حكومة الاحتلال عن تمكنها من قتل الرأس المدبر لعملية طوفان الأقصى، الأسير المحرر “يحيى السنوار”، واضطرت إسرائيل للاعتراف بأن عملية القتل تمت بمحض الصدفة، ولم تكن نتيجة عمل استخباراتي أو بحث أو استهداف، بل نتجت عن اشتباك بين وحدة مقاتلة، ومجموعة مقاومين، في مدينة رفح بحي تل السلطان.
فقد اشتبهوا بشأن المقاتل الذي تم قتله، ووجدوا فيه ملامح تشبه ملامح السنوار، فعادوا إليه، وأثبتت التحليلات المخبرية أنه بالفعل هو المطلوب الأول لإسرائيل وأمريكا، وأحد أعظم قادة حماس. وقبل أن تتمكن الرقابة العسكرية من حظر النشر على تلك الأخبار، وإعادة إنتاج الرواية التي سيتم تقديمها للعالم والإعلام، تسربت الصور الأولى لجثمان الشهيد، وتناقل الجميع الرواية الحقيقة لكيفية ارتقائه، وعرفت الدنيا الساعات الأخيرة من حياة هذا البطل المغوار.
نشرت إسرائيل المشاهد الأخيرة له، حين احتمى داخل منزل، وظل يقاتل القوة الإسرائيلية التي هاجمته، حتى آخر نفس يحمله في صدره، وآخر قطرة دم في جسده، وأعلنت إذاعة جيش الاحتلال نقلا عن الوحدة العسكرية التي فوجئت بأنها هي التي قتلت السنوار، بأنه ظل يواجههم بسلاحه حتى فرغت ذخيرته، ثم ألقى عليهم قبل مقتله بدقائق قنابل يدوية، فأصاب عددا منهم.
وأظهر مقطع الفيديو- الذي التقطته طائرة مسيرة أرسلوها لترصد من بداخل المبنى- السنوار وهو يجلس فوق أريكة، مُلثما بكوفيته، وقدمه مصابة، وذراعه اليمنى مهشمة، واضطر لأن يربطها من أعلى بسلك كهربائي، كي يخفف نزيف الدماء، وحين اقتربت منه المسيرة، تناول عصاه فألقاها عليها، فإذ هي تلقف ما يأفك الأعداء، وانهارت بمقتله كل روايات البروباجندا الصهيونية عن اختباء السنوار بين الأنفاق، أو احتمائه بالرهائن، أو القصة الساذجة عن هروبه مع النازحين، بعد تنكره في ملابس النساء.
لقد رآه العالم كله وهو يقود معاركه بنفسه، ويقاتل في الصفوف الأمامية، رغم أنه قائد ومن حقه الحفاظ على حياته بعيدا عن صفوف القتال، بل ويُقتل مرتديا جعبته العسكرية، وسلاحه في يده، ويلف حول رقبته الشال الفلسطيني، وقد أُثخن جسده بالجراح، فاضطر العدو من أجل الوصول إليه أن يهدم المنزل فوقه بقذيفة دبابة، ثم أطلق على رأسه النيران، فكانت تلك هي الرصاصة التي خرجت بها روحه الطاهرة، وفقا لتقرير الطب الشرعي في الكيان الصهيوني، والذي تولت نشره صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
اتضح للعالم أن السنوار ظل يقاتل أعداءه حتى الرمق الأخير!. لم يتراجع، ولم يتوقف لحظة واحدة، لم يهرب، لم يُظهر خوفا أو ترددا أو خوارا.. خاتمة لو أراد السنوار أن يصيغها بنفسه، أو يستعين بأعظم روائي في العالم لكتابتها، لم تكن بتلك الروعة والإبهار، ولم لا وقد كتبها له الله؟! رواية سيخلدها التاريخ وتحفظها عن ظهر قلب عقول الناس وذاكرتهم.
وغدا سيوضع اسمه بجانب أبطال الإسلام العظماء كخالد بن الوليد، وجعفر بن أبي طالب، وصلاح الدين الأيوبي، وطارق بن زياد.. وسيستبدل العرب وصفهم للشجاعة، فيقولوا “بطل سنوار” بدل “بطل مغوار”، وسيضربون الأمثال به في الشجاعة والقوة، وستكون عصاه رمزًا للعزيمة، وأريكته أريكة الأحرار، وسيكتب التاريخ أنه قد صدق اللهَ حين طلب الشهادة، فصدقه الله، وارتقى شهيدا مقبلا غير مدبر.
لقد اعتبر قتل إسرائيل له بالصواريخ أو الـ”إف 16″ أعظمَ هدية، وقال نصا: “لا أريد أن أموت فطيسة، سواء بالكورونا أو بحادث طرق أو جلطة أو سكتة أو شغلة مما يموت بها الناس”.
هذا هو القائد المجاهد، الذي دعا بأعظم دعاء نطق به مقاوم، حين قال: “اللهم اكسر بنا شوكتهم، اللهم نَكِّس بنا رايتهم، اللهم أَذِلّ بنا قادتهم، اللهم حطّم بنا هيبتهم، اللهم أزل بنا دولتهم”.. فلقي ربه، وقد استجيبت دعوته، ولم يبق منها سوى زوال الاحتلال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق