الخميس، 31 أكتوبر 2024

نكسة مصر من دون حرب

 نكسة مصر من دون حرب



كاتبة صحفية وباحثة سياسية

في حفل باذخ كبير، في استاد العاصمة الإدارية الجديدة، تم حشد الأحزاب السياسية المصرية، والشخصيات العامة والوزراء، وعدد من المسؤولين، وأعداد كبيرة من موظفي الدولة وطلاب الجامعات ورجال الأمن، للاحتفال بنصر أكتوبر 1973، تحت عنوان “حكايات الأبطال”.. فوقف السيسي يحدث الحضور عن تشابه أيام حكمه الحالية مع فترة هزيمة مصر أمام إسرائيل عام 1967م.


كان كل شيء مثيراً للدهشة ويدعو للاستغراب، بدءاً من منظم الحفل والداعي إليه، الشخصية التي صعدت في مصر بسرعة الصاروخ، من مهرب للمخدرات، ومجرم سابق كما تقول تحقيقات وزارة الداخلية المصرية زمن مبارك، إذ سبق أن اختطف في عام 2008م قوة أمنية في سيناء، قوامها 25 شرطيا بينهم ضابط كبير، وقد حوكم بسببها ودخل على إثرها السجن، إلى أن وصل اليوم لأن يكون الرجل الثاني في البلاد، وزعيم التنظيم الغامض المسمى “اتحاد قبائل سيناء”، رجل الأعمال ذا الثروة الخزعبلية والنفوذ غير المفهوم، المسؤول عن المنفذ الحدودي بين مصر وقطاع غزة (معبر رفح)، وشركته المسماة “هلا” هي المسؤولة عن تنظيم عبور الأفراد والشاحنات من خلاله.. إنه السيد “إبراهيم العرجاني”.


وتتوالى دواعي الدهشة مرورا بموعد الحفل، يوم السبت 26 أكتوبر/ تشرين الأول، والذي تجاوز موعد نصر أكتوبر بما يقارب ثلاثة أسابيع، ويتزامن مع الاحتفالات اليهودية في إسرائيل، وانتهاء بتكلفة الحفل الأسطورية، التي تحدثت بعض التقديرات عن تجاوزها مئات الملايين من الجنيهات، في وقت يعلو فيه صوت مسؤولي الحكومة المصرية باستمرار عن أزمة اقتصادية خانقة تعاني منها البلاد، وديون نعجز عن سدادها، وعقب أسبوعين فقط من حديث رئيس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي” عن لجوء مصر إلى اقتصاد حرب في حالة تفاقم الأوضاع.


لم يتفوق على تلك العجائب بنظر المتابعين سوى حديث السيسي عن نكسة يونيو 67 أثناء احتفاله بالانتصار!


ولم تكن تلك هي المرة الأولى، التي يشبه فيها السيسي فترة حكمه بهزيمة مصر أمام إسرائيل، فقد فعلها من قبل في احتفال أكتوبر 2022م، وقال نصّاً: “هل مستعدين يا مصريين تضحوا وتتحملوا كما تحملتم وضحيتم من 67 إلى عام 82”.. وكأنه يشبّه فترة حكمه والأزمات التي تواجهها البلاد بفترة الاحتلال الإسرائيلي لمصر، حتى خروج المحتل منها نهائيا بمفاوضات تحرير طابا في عام 1982!. تشبيه صريح وصادق لا يحتمل التأويل أو التحريف، السيسي يرى فترة حكمه متشابهة مع فترة نكسة مصر، والاحتلال الصهيوني لأراضيها في الخامس من يونيو/ حزيران 1967.. وهذا هو رأيه هو، وليس اتهاماً قاسياً من معارضيه.


يبدو أن السيسي- بحكم مولده ونشأته في حارة اليهود- صار مهووسا بالرموز والإشارات والتنبؤات، كما يفعل مشاهير ونخب اليهود؛ ففي كل عبارة له، أو قصة يحكيها، نجد إشارة لخطة موضوعة، أو أفعال ينتويها، كما حدث من قبل حين صدم المصريين في فبراير/ شباط 2016 بعبارته الشهيرة: “والله العظيم أنا لو ينفع أتْباع لاتْباع”، لتتوالى بعدها عمليات ممنهجة لبيع أراضي ومقدرات وأصول مصر وثرواتها.


جاءت البداية مع الاتفاقية الكارثية التي تنازلت القاهرة بموجبها عن جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين لصالح المملكة العربية السعودية، بعد شهرين وحسب من حديثه هذا عن بيع نفسه، وتحديدا في 8 أبريل/ نيسان 2016، في اتفاقية ترسيم حدود، أصبح “تيران” بموجبها مضيقا دوليا، بعدما كان مصريا خالصا، وهو المضيق الذي كان سببا مباشرا في حرب إسرائيل وهزيمتها لمصر في عام 1967، حينما قرر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إغلاقه أمام الملاحة الإسرائيلية في 23 مايو/ أيار من العام ذاته.


شكل تنازل السيسي عن ملكية مصر لذلك المضيق الهام انتهاكا مؤلما لسيادتها، وخسارة أمنية واستراتيجية واقتصادية كبرى؛ فبعد أن كان العبور بخليج العقبة حقا أصيلا لمصر وحدها، أصبح المضيق مياها دولية، يحق لإسرائيل وغيرها من دول العالم المرور به، بينما مُنح الاحتلال فرصة ذهبية لتنمية اقتصاده وزيادة استثماراته، من خلال عقد اتفاقيات لنقل البترول إلى ميناء “إيلات” مرورا بمضيق تيران، بالإضافة إلى مساعدته على المضي قُدُما في مشروعه لحفر قناة مزدوجة تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، ويُراد لها أن تكون بديلا عن قناة السويس، كي تفقد الأخيرة أهميتها الملاحية والتجارية التي تمتعت بها لعشرات الأعوام، ما يجعل تلك الاتفاقية هزيمة كبرى لمصر، وانتصارا لدولة الاحتلال حصلت عليه دون حرب.


تلا ذلك تنازل السيسي عن شريان الحياة في مصر (نهر النيل)، بموجب اتفاقية خضوع وإذعان لدولة أثيوبيا، وافقت مصر من خلالها، على بناء أثيوبيا لسد عدائي ضخم على الحدود الأثيوبية السودانية، وفوق مجرى النيل الأزرق، وذلك في أبريل/ نيسان 2015، يحرم بلادنا من حصتها التاريخية في المياه، وهي الاتفاقية التي أعادت التمويل للسد، بعد قرار دولي بإيقافه.. وهذا أيضا يُعدّ انتصارا لدولة الاحتلال، حصلت عليه دون حرب.


 كذلك يأتي بيع مصر لموانيها المهمة على البحر المتوسط والبحر الأحمر، باتفاقيات مجحفة مع شركات إماراتية (لها علاقات مباشرة مع الكيان الصهيوني)، كالاتفاقية التي تم توقيعها في مارس/ آذار 2023 مع مجموعة “موانئ أبو ظبي”، وأعطتها حق التشغيل والانتفاع بميناء سفاجا الاستراتيجي، أحد أهم وأقدم موانئ البحر الأحمر، وكذلك ميناءي العريش وغرب بورسعيد على البحر المتوسط، ومحطات للركاب والسفن السياحية بميناء السخنة التابعة للمنطقة الاقتصادية بقناة السويس، ما يمثل أركان خيانة عظمى، وانتهاكا صارخا لأمن مصر القومي، وتفريطا في سيادتها، وتنازلا عن مراكز قوتها الإقليمية والاقتصادية.. وهذا يمكننا وصفه بأنه انتصار ضخم، حصلت عليه بدون حرب دولة الاحتلال.


يُضاف إلى هذا التنازل عن أراضي مصر ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل منطقة “رأس الحكمة” على البحر المتوسط، الواقعة بالقرب من قاعدة محمد نجيب وميناء جرجوب العسكريَّين، والتي استحوذت عليها الإمارات. وكذلك التفريط في منطقة “رأس جميلة” بمدينة شرم الشيخ، البالغة مساحتها 860 ألف فدان، بموقعها الحدودي الخطير، حيث تقع قبالة مضيق تيران مباشرة، وتطل على جزيرتي تيران وصنافير، اللتين سبق أن تنازل عنهما السيسي للسعودية.


ومؤخرا، جاء إعلان نظام السيسي عن نيته التفريط في منطقة “رأس بناس”، وهي رأس وشبه جزيرة كبيرة، وفيها محميات طبيعية وميناء، ومنطقة سياحية في جنوب محافظة البحر الأحمر، جنوبي شرقي مصر، ولها موقعها اللوجستي الخطير، وقربها من قاعدة برنيس العسكرية، التي جرى افتتاحها في 15 يناير/ كانون الثاني 2020، وهي المنوط بها حماية حدود مصر الجنوبية. هذا فضلًا عن قربها من مطار برنيس الدولي، الذي يمتلك ممرات جوية بطول 3000 متر تقريبا، ورصيفا حربيا بطول 1000 متر، يسمح بتلبية احتياجات القوات البحرية التي تحتاج إلى غاطس كبير لحاملات الطائرات والغواصات والفرقاطات.. هذه المنطقة جاء عرضها للبيع في صفقة أعلن عن طرحها رئيس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي”، في سبتمبر/ أيلول من هذا العام، ما يُعد خسارة كبرى تُضاف لخسائر مصر، ونزيفا لأمنها القومي والاستراتيجي، وهي انتصار كذلك، حصلت عليه دون حرب دولة الاحتلال.


كما كانت السياسات الاقتصادية لنظام السيسي، والتي أوصلت مصر إلى هذا الوضع المزري، حيث أكبر مستوى من الديون الخارجية في تاريخ مصر، إذ زادت في السنوات العشر الأخيرة (وهي فترة حكم السيسي) بثلاثة أضعاف ما كانت عليه، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي لمصر بنهاية يونيو 2013 نحو 43.233 مليار دولار، بينما بلغ بنهاية العام الماضي 168.034 مليار دولار، وذلك بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وتُقدّر الفوائد المطلوب سدادها عن القروض المحلية والأجنبية لمصر بحسب موازنة (2021/ 2022) بنحو 579.6 مليار جنيه، (3.7 مليار دولار)، ليبلغ إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة نحو 1.172 تريليون جنيه (7.5 مليار دولار).


هذا الواقع وصفه محللون اقتصاديون، بأنه خطة ممنهجة لاستنزاف موارد مصر، وإغراقها في دوامة لا تنتهي من الديون، تلتهم ثرواتها وتدمر حاضرها، وترهن مستقبلها لعشرات السنوات، كما تعرضها لخطر انتهاك سيادتها، وضياع أمنها القومي، بتعريض أصولها للبيع من أجل سداد تلك القروض، ‏الأمر الذي وصفه الخبير الاقتصادي البارز، الدكتور عبد الخالق فاروق، قبيل اعتقاله من قبل السلطات المصرية، في تغريدة نشرها على حسابه، قال فيها: “السيسي يحمل أجندة شيطانية خفية لتدمير وتحطيم مصر، وتقويض أركانها، وتحويلها إلى بلد يستولي عليه الأجانب”.


تدمير ممنهج سبق أن وصفت ملامحه بكل دقة، وأوضحت أركانه، صحيفة الـ”إيكونوميست” البريطانية الشهيرة في تقرير موسع لها، نشرته في أغسطس/ آب عام 2016  بعنوان “خراب مصر على يد السيسي”.


هذا التدمير والتخريب للدولة العربية الكبرى، التي تعتبرها إسرائيل عدوها الأبرز، والتي سبق أن خاضت ضدها من قبل 5 حروب، واستولت في إحداها على كامل شبه جزيرة سيناء لمدة 6 سنوات، أفلا يُعتبر ذلك انتصارا، حصلت عليه دون حرب دولة الاحتلال؟!


كذلك يقابلنا الموقف المخزي الذي كشفه الصحفي الأمريكي “بوب وودورد”، في كتابه الذي صدر مؤخرا تحت عنوان “الحرب” والذي يمكننا وصفه بأنه مشاركة فعلية من إدارة السيسي في حرب الإبادة، التي تشنها إسرائيل اليوم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة..


فالصحفي الكبير، الذي عُرف بأنه مفجر فضيحة ووترجيت، التي تسببت في استقالة الرئيس الأمريكي الاسبق “ريتشارد نيكسون” من منصبه، قد أشار في كتابه هذا إلى الفترة التي تلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأورد فيه أحاديث حصل عليها من وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” وفريقه الوزاري، خلال زياراتهم المكوكية للشرق الأوسط، والتي بدأها صبيحة 12 أكتوبر 2023 بزيارة إلى تل أبيب، تلاها الأردن ثم قطر والإمارات والسعودية والبحرين، وأخيرا مصر.


يقول الكاتب إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (الذي وصل إلى الحكم في بلاده عبر انقلاب عسكري) قد طالب بلينكن بمطلبين اثنين، أولهما الحفاظ على اتفاقية السلام مع “إسرائيل”، والتي تم التوقيع عليها عام 1979م، وثانيهما إقناع إسرائيل بعدم تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. ثم اقترح عليه لاحقا أن يلتقي بوزير الخارجية المصري “سامح شكري” ورئيس المخابرات السابق “عباس كامل”.


ويقول “وودورد” إنه في هذا اللقاء قدم “عباس كامل” لبلينكن وفريقه معلومات وخرائط جمعتها المخابرات المصرية عن أنفاق غزة، وطلب منه أن يوجه النصح إلى نتنياهو قائلا: “إن حماس متجذرة بعمق في قطاع غزة، ومن الصعب هزيمتها، لذا يجب على إسرائيل أن لا تدخل غزة بريًّا دفعة واحدة، بل على مراحل، وأن تنتظر حتى يخرج قادة حماس من جحورهم، وعندها يقطعوا رقابهم”.


يبدو هذا الموقف المشين متطابقا مع موقف الإدارة المتطرفة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في نظرتها لقطاع غزة والمقاومة فيه، وهي نظرة مخالفة- بل ومضادة تماما- لأمن مصر القومي والاستراتيجي، حيث تعتبر غزة بوابة مصر الشرقية، وصمام أمانها، والمقاومة الفلسطينية فيها هي الحاجز الذي يمنع الكيان الصهيوني من المضي في خططه التوسعية التي لا يخفيها، وتحقيق حلمه بإسرائيل الكبرى، من خلال التهام شبه جزيرة سيناء.. وبالتالي، فهذا الموقف ما هو إلا انتصار جديد، حصلت عليه دون حرب دولة الاحتلال.


وأخيرا، يأتي الموقف الذي صدم الشارع المصري والعربي، واعتبروه عارا كبيرا، وسقطة لا تُغتفر للنظام المصري، وإهانة مذلة لتاريخ مصر باعتبارها الشقيقة الكبرى لإخوانها العرب، حيث كشف حركة (BDS) لمقاطعة إسرائيل عن ظهور سفينة “كاثرين” في ميناء الإسكندرية في مصر، وهي السفينة ذاتها التي رفضت عدة دول استقبالها، من بينها مالطا وناميبيا وأنغولا، لكونها تحمل شحنة عسكرية ومتفجرات، كانت في طريقها لتغذية آلة الحرب الإسرائيلية، من أجل إبادة وتفريغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 2 مليون إنسان.


فالسفينة، التي كانت تُبحر تحت علم “ماديرا” التابعة للسيادة البرتغالية، رفضت البرتغال أن ترفع علمها، فاضطرت لرفع العلم الألماني، ثم أُجبرت على الإبحار عبر طريق رأس الرجاء الصالح، لتجنب استهدافها في البحر الأحمر، ونتيجة لحملات المقاطعة، التي دعت إليها منظمات مناهضة للحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل، فقد استجابت دول عديدة ورفضت استقبال السفينة، حتى ولو لمجرد التزود بالمؤن، إلى أن رحبت بها مصر، وأصبحت المحطة الأخيرة لها. وكانت شركة المكتب المصري للاستشارات البحرية (EMCO)، والتي يملكها رائد بحري سابق في الجيش المصري، هي المسؤولة عن استقبالها وتفريغ شحنتها الحربية، وهو ما أكده عدد من المواقع المتخصصة في البحث والاستقصاء، مثل موقع صحيح مصر، وموقع إيكاد.


عارُ وخزي، يجعلنا نتأكد تماما من أن مصر تحت حكم السيسي- كما وصفها هو بنفسه- في نكسة وهزيمة، بالضبط كـنكسة 67، وأن حكم السيسي لها ما هو إلا أسوأ أنواع الاحتلال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق