أبو إبراهيم "الشهيد الشاهد"
نور الدين العلوي
شهادة لا يرتقي إليها شعر البلاغة، حتى نظن أن العدو غير مصدق ما ظفر به بمحض صدفة. لقد خرج عليهم أو دخل عليهم الباب، فهو منتصر بقوة من نزل إليه الأمر بدخول الباب على عدوه. لن نكتب فيه مراثي ولا مديحا، سيكفينا إخوة له زلزلهم ذهابه، ولكن شد أزرهم أنه قاتل واقفا لا يتراجع ولا يفاوض على حياة صغيرة.
سننظر في أمر آخر لا نراه إلا مرتبطا بهذه الشهادة، أمة لا تنصر رجالها وتسارع إلى الرثاء المريح.
اليوم، تحل بتونس الذكرى التاسعة عشرة لقيام حركة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2005، الفعالية الديمقراطية الأشد قوة والأوضح هدفا ضد نظام بن علي، فرجّت أركان نظامه وظلت مفاعيلها شغالة حتى سقط بعد خمس سنوات. وما العلاقة بين شهادة شهيد في غزة والحدث المذكور؟ هنا نعثر على مفاتيح فهم الخذلان العربي لغزة ولأبطالها.
حركة سياسية وعدت بالكثير
للتذكير، كان اجتماع أولا في مكتب المحامي اليساري العياشي الهمامي، تحول إلى اعتصام ثابت حتى بلغ هيئة سياسية تفكر بشكل جماعي، وتصدر ورقات عمل وأعدت قاعدة متطورة للعمل السياسي الديمقراطي في تونس. شارك في الفعالية منذ بدايتها طيف سياسي مختلف، طالما تنافرت مكوناته وتصارعت فيما بينها، وكانت صراعاتها تصب دوما في مصلحة النظام منذ الزمن البورقيبي. لأول مرة تلتقي فعاليات يسارية وعروبية وإسلامية في مكان واحد، لتجمع على أهمية بناء الديمقراطية بالتوافقات والتنازلات المتبادلة. وكان الإجماع الاستثنائي مربكا للنظام، فالمكونات التي طالما دفعها للصراعات البينية، تجاوزت خلافاتها وعملت معا ضد نظامه، وبلع صدى عملها إلى الجهات الخارجية المتربصة بنظامه، فأضعفته أكثر مما كان عليه من هشاشة.
في اجتماعات الهيئة ونقاشاتها التي طالت زمنا كافيا، اكتشف التونسيون بعضهم بعضا، وحصل نوع من الحشمة مما كان سائدا بينهم من صراع مبني على أحكام مسبقة، وبدا كما لو أنهم عثروا على إكسير السعادة الديمقراطية. لقد تخلقت بيئة سياسية ملائمة للتقدم على طريق الحرية والديمقراطية، لكن الفرحة لم تدم طويلا.
انفضت الهيئة وتشتت شمل مكوناتها تحت ضغط فصائل يسارية، تعد في تونس من أحزاب الداخلية؛ وعملت منذ تكوينها على مهمة واحدة، هي حفر الخنادق وكسر الجسور أمام كل احتمالات اللقاء السياسي بين مكونات المشهد السياسي التونسي المتعدد المشارب. تراجعت المكونات اليسارية عن اتفاقات الهيئة، وعادت إلى التكتل تحت فكرة لا لقاء مع "الخوانجية" (الرجعية الظلامية.. إلى آخر الأوصاف المعزوفة).
ظلت الأفكار المكتوبة معلقة في سماء تونس تلهم بعض الأقلام، لكن على الأرض، لم تتطور الهيئة إلى مشروع حركي حتى حلت الثورة، فانفضت نهائيا نحو حلول فردية وحزبية. وقد بدأ تفكيك آخر عناصرها الأستاذ نجيب الشابي بقفزه داخل حكومة محمد الغنوشي، التي حاولت الالتفاف على الثورة فسقط معها ولم يقم أبدا.
ما علاقة هذا بغزة وشهيدها؟
لا نحتاج إلى التذكير بخذلان الساحات السياسية والشعبية لغزة منذ انطلاق حرب الطوفان، فقد كانت المظاهرات الصغيرة في بعض الساحات، ومنها تونس، أقرب إلى رفع العتب أو تنفيس الغضب منها إلى حراك سياسي يضع نفسه في موضع الإسناد الدائم للمعركة بوسائله المحلية، ولم يكن محتاجا للسلاح ليساهم في المعركة. لقد أدت مظاهرات وبيانات خجولة مفعولا عكسيا، فكشفت تهاونا وعرت نوايا معادية لغزة ومعركتها، بل تتمول من أعدائها.
لذلك، كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي، ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية، وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان، هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية، بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة، أو من سار سيرهم في السياسية المحلية. وهذا هو الموقف نفسه الذي اتخذته قبل ذلك أحزاب اليسار من هيئة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وبرنامجها التوافقي أو التوحيدي للمشهد السياسي التونسي حول مبادئ الحرية والديمقراطية.
لقد كشف المخذلون بزعم حربهم على الإسلام السياسي، أنهم يؤدون مهمة لصالح العدو، فمثل قيامهم ضد الحريات قبل الثورة وتخريبهم للانتقال الديمقراطي بعدها؛ بالمنهج نفسه، وقفوا ضد الشارع المتحرك مع غزة، بل تسللوا داخل بعض المظاهرات، ليرفعوا شعارات استئصالية تكسر الزخم العاطفي الذي كان يقود الناس بلا قيادة ولا خطة.
وهذا كشف المسألة الأعمق في تاريخ العرب في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، أعداء الحرية والديمقراطية في أقطارهم، هم نفس أعداء غزة في حربها، هم حلفاء للعدو.
قلة من الناس كانت ترى هذا بوضوح، لذلك وجب التذكير بأن المعركة واحدة، وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق، الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر، وإذا قارنا قوة التخذيل في الأقطار بقوة سلاح العدو فإننا نجد هذا التخذيل أقوى تأثيرا وأشد أثرا.
هذا لا يخفف عن الأنظمة التي لم يعد يشك أحد في أن وجودها مرهون ببقاء العدو مسيطرا على المنطقة، وأن كل سياساتها تصب في نصرته على المقاومة، لكن هذه الأنظمة كانت معرضة إلى هزات عنيفة، وربما سقوط كامل بفعل شارع منخرط في معركة الطوفان بوسائله السلمية.
إنها سلسلة تتضح كل يوم وفي كل حركة تقوم بها تيارات التخذيل العربي، التي تعيش فقط من حربها على التيار الإسلامي، الذي وجد نفسه بين فكي كماشة الأنظمة وهذه التيارات، فضيَّع طريق التضامن مبقيا على الحدود الدنيا من وجوده، ويكفيه لبراءته أو لتخفيف عاره أمام المقاومة المحاصرة، أن قيادته ممزقة بين سجين وقتيل.
شهد أبو إبراهيم كما شهد أبو العبد كما شهدت غزة برجالها وأطفالها وحرائرها على هذه المرحلة، وبرأت ذمتها من ذنب أمة، كلما أرادت النهوض، ظهر من داخلها من طعن في عزيمتها وكسر قيامتها لصالح العدو، وتلك أسمى معاني الشهادة.
سننظر في أمر آخر لا نراه إلا مرتبطا بهذه الشهادة، أمة لا تنصر رجالها وتسارع إلى الرثاء المريح.
اليوم، تحل بتونس الذكرى التاسعة عشرة لقيام حركة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2005، الفعالية الديمقراطية الأشد قوة والأوضح هدفا ضد نظام بن علي، فرجّت أركان نظامه وظلت مفاعيلها شغالة حتى سقط بعد خمس سنوات. وما العلاقة بين شهادة شهيد في غزة والحدث المذكور؟ هنا نعثر على مفاتيح فهم الخذلان العربي لغزة ولأبطالها.
حركة سياسية وعدت بالكثير
للتذكير، كان اجتماع أولا في مكتب المحامي اليساري العياشي الهمامي، تحول إلى اعتصام ثابت حتى بلغ هيئة سياسية تفكر بشكل جماعي، وتصدر ورقات عمل وأعدت قاعدة متطورة للعمل السياسي الديمقراطي في تونس. شارك في الفعالية منذ بدايتها طيف سياسي مختلف، طالما تنافرت مكوناته وتصارعت فيما بينها، وكانت صراعاتها تصب دوما في مصلحة النظام منذ الزمن البورقيبي. لأول مرة تلتقي فعاليات يسارية وعروبية وإسلامية في مكان واحد، لتجمع على أهمية بناء الديمقراطية بالتوافقات والتنازلات المتبادلة. وكان الإجماع الاستثنائي مربكا للنظام، فالمكونات التي طالما دفعها للصراعات البينية، تجاوزت خلافاتها وعملت معا ضد نظامه، وبلع صدى عملها إلى الجهات الخارجية المتربصة بنظامه، فأضعفته أكثر مما كان عليه من هشاشة.
في اجتماعات الهيئة ونقاشاتها التي طالت زمنا كافيا، اكتشف التونسيون بعضهم بعضا، وحصل نوع من الحشمة مما كان سائدا بينهم من صراع مبني على أحكام مسبقة، وبدا كما لو أنهم عثروا على إكسير السعادة الديمقراطية. لقد تخلقت بيئة سياسية ملائمة للتقدم على طريق الحرية والديمقراطية، لكن الفرحة لم تدم طويلا.
انفضت الهيئة وتشتت شمل مكوناتها تحت ضغط فصائل يسارية، تعد في تونس من أحزاب الداخلية؛ وعملت منذ تكوينها على مهمة واحدة، هي حفر الخنادق وكسر الجسور أمام كل احتمالات اللقاء السياسي بين مكونات المشهد السياسي التونسي المتعدد المشارب. تراجعت المكونات اليسارية عن اتفاقات الهيئة، وعادت إلى التكتل تحت فكرة لا لقاء مع "الخوانجية" (الرجعية الظلامية.. إلى آخر الأوصاف المعزوفة).
ظلت الأفكار المكتوبة معلقة في سماء تونس تلهم بعض الأقلام، لكن على الأرض، لم تتطور الهيئة إلى مشروع حركي حتى حلت الثورة، فانفضت نهائيا نحو حلول فردية وحزبية. وقد بدأ تفكيك آخر عناصرها الأستاذ نجيب الشابي بقفزه داخل حكومة محمد الغنوشي، التي حاولت الالتفاف على الثورة فسقط معها ولم يقم أبدا.
ما علاقة هذا بغزة وشهيدها؟
لا نحتاج إلى التذكير بخذلان الساحات السياسية والشعبية لغزة منذ انطلاق حرب الطوفان، فقد كانت المظاهرات الصغيرة في بعض الساحات، ومنها تونس، أقرب إلى رفع العتب أو تنفيس الغضب منها إلى حراك سياسي يضع نفسه في موضع الإسناد الدائم للمعركة بوسائله المحلية، ولم يكن محتاجا للسلاح ليساهم في المعركة. لقد أدت مظاهرات وبيانات خجولة مفعولا عكسيا، فكشفت تهاونا وعرت نوايا معادية لغزة ومعركتها، بل تتمول من أعدائها.
لذلك، كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي، ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية، وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان، هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية، بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة، أو من سار سيرهم في السياسية المحلية. وهذا هو الموقف نفسه الذي اتخذته قبل ذلك أحزاب اليسار من هيئة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وبرنامجها التوافقي أو التوحيدي للمشهد السياسي التونسي حول مبادئ الحرية والديمقراطية.
لقد كشف المخذلون بزعم حربهم على الإسلام السياسي، أنهم يؤدون مهمة لصالح العدو، فمثل قيامهم ضد الحريات قبل الثورة وتخريبهم للانتقال الديمقراطي بعدها؛ بالمنهج نفسه، وقفوا ضد الشارع المتحرك مع غزة، بل تسللوا داخل بعض المظاهرات، ليرفعوا شعارات استئصالية تكسر الزخم العاطفي الذي كان يقود الناس بلا قيادة ولا خطة.
وهذا كشف المسألة الأعمق في تاريخ العرب في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، أعداء الحرية والديمقراطية في أقطارهم، هم نفس أعداء غزة في حربها، هم حلفاء للعدو.
قلة من الناس كانت ترى هذا بوضوح، لذلك وجب التذكير بأن المعركة واحدة، وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق، الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر، وإذا قارنا قوة التخذيل في الأقطار بقوة سلاح العدو فإننا نجد هذا التخذيل أقوى تأثيرا وأشد أثرا.
هذا لا يخفف عن الأنظمة التي لم يعد يشك أحد في أن وجودها مرهون ببقاء العدو مسيطرا على المنطقة، وأن كل سياساتها تصب في نصرته على المقاومة، لكن هذه الأنظمة كانت معرضة إلى هزات عنيفة، وربما سقوط كامل بفعل شارع منخرط في معركة الطوفان بوسائله السلمية.
إنها سلسلة تتضح كل يوم وفي كل حركة تقوم بها تيارات التخذيل العربي، التي تعيش فقط من حربها على التيار الإسلامي، الذي وجد نفسه بين فكي كماشة الأنظمة وهذه التيارات، فضيَّع طريق التضامن مبقيا على الحدود الدنيا من وجوده، ويكفيه لبراءته أو لتخفيف عاره أمام المقاومة المحاصرة، أن قيادته ممزقة بين سجين وقتيل.
شهد أبو إبراهيم كما شهد أبو العبد كما شهدت غزة برجالها وأطفالها وحرائرها على هذه المرحلة، وبرأت ذمتها من ذنب أمة، كلما أرادت النهوض، ظهر من داخلها من طعن في عزيمتها وكسر قيامتها لصالح العدو، وتلك أسمى معاني الشهادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق