1- أترون كم هو فؤادُ الأمّ مشحونٌ بالعواطف العميقة، ومسكون بالغرائز الأصليّة النفسيّة القويّة! وترونَ إذا أصابه الفراغ الصِّفريّ نتيجة صدمة عظيمة أو صدمات ثقيلة متتابعة مستديمة أنّ هذا يعني أن كل هذه العواطف والغرائز الأصليّة قد ذهبت وراء شيء عظيم يشغل بالها، ويطرد سكونها، فلا يظهر على فؤادها من الخارج إلا ستائر الهمّ، ولا يخرج منها إلا أدخنة الحزن على فراق وليدها الرضيع الذي لا حول له ولا قوّة ولا إرادة.
2- كان همّ أم موسى يزيد أكثر بفراغ القدرة على التدبير، والعجز عن الحيلة، واشتدّ الواردُ على هذا القلب المفجوع المتصدِّع من احتمال وقوع الطفل بيد ذابحيه، وهاجَ قلبُها عندما هجمت عليها أوّلَ الأمر أفكارُها النفسيّة الطبيعيّة التي تتهمها بقتل وليدها وإغراقه إذا ألقته في اليمّ، ووضعتْ مصيره أمام مجهولٍ خطير لن يكون أقلّه أن يغرق ولدُها أو تفقده إلى الأبد، وكثيراً ما يتحوّل الوارد الشديد على القلب إلى تجميد مشاعره وإطفاء شرارته وإبطال عمله.
3- كانت أم موسى تتلقّى وحياً صادقاً مُقْنِعاً لا يتلقّاه إلا الأولياء المقرّبون، وكان الوحي أشدّ ولوجاً على قلبها واطمئناناً به من أي مشاعر قوية مختزنة في فطرة قلبها، وعندما أتاها هذا الخاطر القويّ والحبل المتين من هذا الوحي يأمرها ألا تخاف وألا تحزن، لأن مصير صغيرها لن يكون بنجاته من القتل والغرق فحسب بل سيكون إماماً مرسَلاً، وفوق ذلك هديّة غالية معجّلة بأن الله سيردّ إليها صغيرها، وسيعود إلى صدرها راضعاً من حنانها ولَبانها، وستأنس بقربه مع أمانٍ لحياته وضمانٍ لمستقبله.
4- لقد ربط الله على قلبها الجازِع الفارغ بإفراغ الصبر فيه، فلم تَخَفْ لأن الخائفَ عاجزٌ جبان، ولم تحزن لأن الحزين لا يصبر، وليس فيه عزيمة ولا إرادة؛ وجعل الله لقلبها رباطاً تشدّ به عواطفها، وتُوجّهها بالصبر نحو المقاصد والغايات، فلم تنكشف عواطف الأمومة وتَذيع شفقةً أو وَجْداً عندما رأت تابوت وليدها يبتعد عنها في الماء وتتقاذفه تيارات الماء، ولم تنفعل عندما أعلنوا أن هذا الصغير هو ابن فرعون، ولم تخبر أحداً أنه ابنها هي، وأنها أمّه دون غيرها، وانظر إلى هذا التعبير القرآني العجيب (إن كادت لتبدي به) ولم يقل “تبديه” لأن الإظهار والإبداء هنا ليس معرفة هذا الخبر فحسب بل يتضمن معنى الإشاعة والإخبار.
5- وثمرةُ هذا الربط على القلب أن يكون المرء مؤمناً مصدّقاً، فإن الإيمان يريح القلب، ويصرفه عن الهواجس والمخاوف وطوارئ الانفعال، ويثبت قلبه ويقوّيه، وينقله إلى سماء اليقين فلا يتزعزع التزامه بقضيته مهما أصابه من القوارع والكوارث التي تفرغ القلوب وتذهل النفوس.
6- يا أمّي تحت الويل والنار! إنّه مع اشتداد الكارثة عليكِ وانعدام الحيلة أمامكِ فإن أقوى ما نعالج به أنفسنا هو في ربط أنفسنا بالله ربطاً كلّياً نَخرج به من حولنا وقوّتنا، ونفرغ قلوبنا تماماً من أي خوف أو حزن، ونمسك بهذا الحبل المتين الوحيد، ونعلّق أنفسنا بأسباب السماء، ونترقّى بهذا الحبل إلى أعلى مع كل ضائقة ومصيبة بالصبر الجميل والحمد المتصل والرضا الكامل والتوكل الحقّ، وتظل عيوننا مفتوحة إلى السماء، ولا نخفضها إلى ظلم الأرض وجور أهلها وخذلان الأقربين فيها.
وكتب الله لك اللطف والسلامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق